بين ركام البنايات وأصوات القصف الذي لا يتوقف في غزة، تبرز حكايات لعائلات مغربية عالقة في الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر، وتعيش على أمل أن تجد نداءاتها المتكررة بإجلائها من القطاع آذانًا مصغية في وطنها الأم.
ترجع أصول الجالية المغربية في فلسطين إلى القرون الوسطى، عندما شارك المغاربة في تحرير القدس ضمن جيش صلاح الدين الأيوبي، فكافأهم بإسكانهم في حي خاص عُرف فيما بعد باسم “حارة المغاربة” المجاور للمسجد الأقصى، وهي الحارة التي قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هدمها بالكامل سنة 1967 عقب احتلال القسم الشرقي من القدس، وتشريد مئات العائلات التي تنتمي لأصول مغربية، وتحويل الموقع إلى ما يُعرف اليوم بـ”ساحة البراق”.
وقد تفرعت العائلات ذات الأصول المغربية، على مدار القرون التالية لتحرير القدس، في مختلف أنحاء الضفة وغزة، وانصهرت بشكل كامل في الثقافة الفلسطينية، وعلى الرغم من عدم توفّر إحصائيات دقيقة لعددها في فلسطين، إلا أن مصادر متطابقة تؤكد أنه لا يقل عن 20 ألف شخص يقيمون في قطاع غزة والقدس.
مغاربة غزة في زمن الإبادة
منذ الأشهر الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، أطلقت عائلات من أصول مغربية نداءات استغاثة، عبر منظمات حقوقية ووسائل إعلام محلية، تناشد فيها الحكومة المغربية بالتدخل لإجلاء مواطنيها أو ذوي الأصول المغربية، خصوصًا من النساء والأطفال والمسنين، لكن الاستجابة كانت بطيئة ومحدودة.
يواجه المغاربة العالقون في القطاع، والذين تُقدّر الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان عددهم بحوالي 2000 شخص، معاناة شديدة تفاقمت بعد أن أوقفت الحكومة الإسرائيلية، منذ مارس/آذار الماضي، إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وأحكمت الحصار عليها بإغلاق المعابر.
في هذا الصدد، وجّهت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، الحاصلة على صفة استشارية لدى الأمم المتحدة، رسالة مفتوحة إلى كل من وزير الخارجية ناصر بوريطة، وسفير المغرب لدى دولة فلسطين عبد الرحيم مزيان، تناشد فيهما التدخل العاجل لتأمين عودة أسرة مغربية إلى المغرب.
وأشارت الرابطة في رسالتها إلى الوضع الإنساني “الخطير والمأساوي” الذي تعيشه هذه الأسرة، وهو نفسه وضع كثير من الأسر في غزة، وذلك في ظل الانقطاع التام للكهرباء والماء، ونفاد المواد الغذائية، وتعطّل سبل الحياة الأساسية بسبب الحصار الإسرائيلي المشدد منذ السابع من أكتوبر 2023.
تستند الأصوات الداعية إلى التدخل إلى مضامين الدستور المغربي، خصوصًا الفصلين 16 و31، اللذين يؤكدان أن إجلاء المواطنين من مناطق النزاع يدخل ضمن واجبات الدولة الأساسية لحماية مواطنيها أينما وُجدوا
واعتبرت أن عودة هذه الأسرة إلى المغرب “حق مشروع وضرورة إنسانية ملحّة”، وداعية إلى تحرك رسمي سريع يستجيب لنداءات العالقين في القطاع، كما وصفت صمت المؤسسات الرسمية تجاه هذه المأساة بأنه “خرق لالتزامات المملكة تجاه مواطنيها”.
وسبق للرابطة أن دعت السلطات المغربية، في بدايات الحرب، إلى تدخل فوري لإنقاذ العالقين، وأفادت بأنها تلقت شهادات ميدانية من داخل غزة، تشير إلى أن قوات الاحتلال تستهدف كل من يتحرك، فيما يعاني عدد من حاملي الجنسية المغربية من عدم الاعتراف الرسمي بوضعهم، ما فاقم معاناتهم.
كما أعلنت المنظمة حينذاك أنها راسلت الجهات المغربية المعنية، وأنها عازمة على اتخاذ خطوات أخرى بهدف تأمين مخرج إنساني عبر معبر رفح، مؤكدة تضامنها مع الضحايا، غير أن النداءات والشهادات، التي ما زالت إلى اليوم تتوارد من القطاع، تقول باستمرار معاناة عدد كبير من المغاربة الذين يواجهون المرض والجوع وآلة القتل التي لا تتوقف، دون أن يُفتح لهم باب أو يُمدّ لهم جسر نجاة.
سند دستوري يضمن حق الإجلاء
تستند الأصوات الداعية إلى التدخل لإجلاء العالقين إلى مضامين الدستور المغربي لسنة 2011، خصوصًا الفصلين 16 و31، اللذين يؤكدان أن إجلاء المواطنين من مناطق النزاع يدخل ضمن واجبات الدولة الأساسية لحماية مواطنيها أينما وُجدوا، باعتبار ذلك تجسيدًا لحقهم في السلامة الجسدية والحماية القانونية.
وفي رد سابق على مراسلة برلمانية، أفادت وزارة الخارجية المغربية بأنها تمكنت من إجلاء خمسة أفواج من المغاربة وعائلاتهم من غزة خلال سريان اتفاق وقف إطلاق النار، بلغ عددهم الإجمالي 369 شخصًا، غير أن العمليات توقفت لاحقًا نتيجة استئناف الأعمال العسكرية الإسرائيلية وإغلاق المعابر.
كما أكدت على استمرار التنسيق لاستئناف عمليات الإجلاء “حالما تسمح الظروف الميدانية”، وبمواصلة تقديم كافة أشكال الدعم والمؤازرة لأفراد الجالية المغربية المتواجدين في المناطق التي تشهد أوضاعًا أمنية وإنسانية صعبة، غير أن شهادات من داخل القطاع تقول إنها راسلت مرارًا سفارة المغرب في رام الله، وأكدت لها أن إجلاءها مرتبط بموافقة الجانب الإسرائيلي.
البيروقراطية تعيق طريق العودة
رغم امتلاك كثيرين للجنسية المغربية، وتجمعهم روابط عائلية بالمغرب، إلا أن ذلك لم يشفع لهم أمام عوائق معقدة أخّرت، بل منعت، عملية إجلائهم، يُضاف إليها تعقيد الوضع الإنساني في القطاع، حيث لا يمكن فصل هذه العوائق عن الواقع الميداني الكارثي من استمرارٍ للقصف، وانهيار المنظومة الصحية، وانعدام الخدمات الأساسية، كما أن بعض العائلات تعيش في مناطق يصعب الوصول إليها.
أول ما يواجهه مغاربة غزة عند التفكير في الخروج من القطاع هو تعقيدات العبور من معبر رفح، المعبر الوحيد الذي “تديره السلطات المصرية”، ومع أن مصر فتحت المعبر عدة مرات لإجلاء الرعايا الأجانب، إلا أنه لم يُسجَّل تدخل مغربي فعّال لضمان عبور مواطنيه.
ويُعزى ذلك إلى غياب تمثيل دبلوماسي مغربي مباشر داخل القطاع، ما يضطر السكان إلى الاتصال بالسفارة المغربية في القاهرة، التي تكتفي، بحسب عدة شهادات، بتسجيل الأسماء دون تقديم أي ضمانات بالإجلاء.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أغلب المتضررين ينتمون إلى عائلات مختلطة، حيث يكون أحد الزوجين مغربيًا، بينما الطرف الآخر فلسطيني، كما أن العديد من هذه الزيجات لم تُوثَّق رسميًا في المغرب، ما يجعل أبناءهم مجهولي الوضع القانوني من حيث الجنسية، ونتيجة لذلك تعجز هذه الأسر عن التسجيل في قوائم الإجلاء، لأنهم لا يحملون جوازات سفر مغربية صالحة، أو لأن أسماءهم غير مدرجة في سجلات الحالة المدنية المغربية.
ويُضاف إلى ذلك أن بعض المغاربة في غزة يحملون بطاقات تعريف مغربية منتهية الصلاحية، أو لم يُجددوها منذ سنوات، ما يُعقّد عملية التحقق من هويتهم من طرف السلطات المغربية.
وقد أثارت عائلاتٌ في وقت سابق عائقًا آخر حال دون خروجها من القطاع عبر معبر رفح حين سمحت الظروف بذلك، ويتمثل في غياب المسؤولين المغاربة، حيث تشترط السلطات المصرية حضور ممثل عن السفارة المغربية في المعبر لتوثيق العملية قبل السماح بمغادرة المعنيين بالأمر، وهو ما فوّت على هذه العائلات فرصة النجاة.
هكذا تستمر الأوضاع الصعبة في قطاع غزة، وتستمر معها معاناة مئات المغاربة العالقين، الذين يعيشون مأساة مضاعفة: إذ يتعرضون للقصف والتجويع والحصار من جهة، ويواجهون عوائق إدارية وقانونية تعرقل إجلاءهم من جهة أخرى.
وعلى الرغم من المناشدات المتكررة للسلطات المغربية، لم تُسفر الجهود سوى عن إجلاء عدد محدود، وذلك لأسباب متعددة، تتمثل في غياب ممثلين دبلوماسيين عند معبر رفح أحيانًا، وصعوبات تتعلق بإثبات الهوية أحيانًا أخرى، وهو ما دفع منظمات حقوقية، في مناسبات عديدة، إلى المطالبة بتحرك رسمي أكثر جدية لإنقاذ مَن نجا منهم من المجاعة ومن قصف الاحتلال الذي لا يتوقف.