في خرق غير مُعتاد للمواقف الرسمية في بوصلة السياسة الخارجية الأوروبية، تبنت العديد من دول القارة العجوز خطابًا تصعيديًا ضد الكيان الإسرائيلي، سياسيًا وإعلاميًا، متأرجحا بين الإدانة والاستنكار والتلويح بفرض عقوبات والتهديد بمراجعة الشراكة الأوروبية الإسرائيلية، تنديدًا بالانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق المدنيين العزل، من نساء وأطفال قطاع غزة، على مدار أكثر من 19 شهرًا، مارس فيها المحتل كافة جرائم الإبادة المعروفة تاريخيًا.
تحول دفع السفير الإسرائيلي الأسبق لدى فرنسا آفي بازنر لوصفه بـ”الأمر الخطير”، حيث قال: “لأول مرة يهددنا الغرب بفرض عقوبات علينا، وفكرة كرة ثلج بدأت تتدحرج بشأن العقوبات “، لافتا إلى أنه :”يوجد فرق بين الإدانات والعقوبات، نحن للأسف دخلنا اليوم للمرة الأولى في التاريخ الديبلوماسي لدولة إسرائيل بأزمة، مع جزء كبير من القارة الأوروبية القريبة منا تاريخيا وثقافيا، والذين يقومون ضدنا من خلال العقوبات، هذا الأمر يحدث لأول مرة وهو أمر خطير، هذه فقط البداية، إذا استمرت الحرب، العقوبات ستزداد”.
لأول مرة منذ عقود طويلة تُطرح العلاقات مع تل أبيب للمراجعة بشكل علني على طاولة النقاش، وتُعاد ملفات الشراكة مع دولة الاحتلال إلى التقييم مرة أخرى، مع تبني لغة قانونية غير معهودة، ولهجة أقل ما يقال عنها إنها قاسية ومستحدثة في مسار العلاقات التاريخية بين أوروبا و”إسرائيل”.
تحول أثار الكثير من التساؤلات حول توقيته ودوافعه ومآلاته، وما إذا كان استفاقة إنسانية أخلاقية سياسية حقًا أم مجرد ذر للرماد في العيون، رضوخا لموجات الضغوط الشعبية والإعلامية المتصاعدة والتي لا يكتفي معها خفض الرأس لتمريرها.
هبّة أوروبية تخرق الدبلوماسية المعهودة
لوحظ خلال الأسبوعين الماضيين تحديدًا، تخلي الكثير من العواصم الأوروبية عن دبلوماسيتها المعهودة تجاه تل أبيب، وتبني لغة أقرب للهجوم منها للتهدئة في التعاطي مع الحكومة الإسرائيلية، فيما ذهبت بعض الدول بخطابها التصعيدي إلى مستويات غير متوقعة، ملوحة بفرض عقوبات وإشهار بطاقة صفراء إزاء الشراكات البينية مع “إسرائيل”.
– إعلان كل من النرويج (غير العضو في الاتحاد الأوروبي) وإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا بشكل رسمي رفضهم المطلق لحرب الإبادة على غزة والإعراب عن نيتهم في الاعتراف بدولة فلسطين
– تأييد 17 دولة من أصل 27 في الاتحاد الأوروبي خطوة مراجعة البند الثاني (حول احترام حقوق الإنسان) من اتفاق الشراكة مع “إسرائيل”، والتهديد بفرض عقوبات إضافية كنوع من الضغط على تل أبيب، فيما قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، في ختام اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، الثلاثاء 20 مايو/أيار الجاري: “لدينا غالبية قوية مؤيدة لمراجعة البند الثاني من اتفاق الشراكة مع إسرائيل، إذاً، سنباشر هذا الأمر”.
– إصدار ست دول أوروبية (أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورغ، النرويج، وآيسلندا) في السابع من الشهر الجاري، بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه محاولات “إسرائيل” تغييرَ ديمغرافية غزة وتهجير سكانها، ترحيلًا قسريًا وجريمة بموجب القانون الدولي، مشددة على أن غزة “جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين”، وهو تحول لافت وإقرار مباشر وصريح بالدولة الفلسطينية وهو ما لم يكن مٌعلنًا بهذه الصراحة قبل ذلك.
#عاجل | أ ف ب: السويد تسعى إلى فرض عقوبات أوروبية على وزراء إسرائيليين pic.twitter.com/kKNLXMsXGi
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 20, 2025
– رفض 22 دولة، من بينها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وكندا، رفضها الآلية الجديدة التي اقترحتها “إسرائيل” بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة، معتبرة في بيان مشترك لها في 19 مايو/أيار الحالي أن “النموذج الجديد” يفتقر للفاعلية، ويربط المساعدات بأهداف عسكرية وسياسية، ويقوّض حيادية الأمم المتحدة، ويُعرّض العاملين والمستفيدين للخطر. كما شددت على أن سكان قطاع غزة “يواجهون المجاعة وعليهم الحصول على المساعدات التي يحتاجون إليها بشدة”.
– تصريح وزير خارجية هولندا كاسبر فيلد كامب بوجوب “رسم خط أحمر” عبر مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، معلنًا تجميد أي دعم حكومي لتمديدها، كما شددت السلطات الهولندية الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج منذ أبريل/ نيسان.
– تصويت مجلس الشيوخ الأيرلندي أواخر أبريل/ نيسان الماضي لصالح فرض عقوبات على “إسرائيل” ومنع مرور الأسلحة الأميركية عبر الأجواء الأيرلندية، في خطوة حتى وإن كانت رمزية لكنها تعكس تغير المزاج التشريعي والمؤسساتي بوضوح.
– تلويح عدد من الدول (فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا)، باعتبار الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة سياسية لحماية حل الدولتين، وهو التلويح الذي سبقه اعتراف رسمي من أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2024، ثم سلوفينيا في يونيو/ حزيران الماضي، ليرتفع عدد دول الاتحاد الأوروبي المعترفة بالدولة الفلسطينية إلى عشر دول على الأقل، معظمها من أوروبا الغربية، وهو ما يشير إلى حجم التحول الجذري في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية.
– إعلان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال جلسة البرلمان في 20 مايو/ أيار 2025، تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع “إسرائيل”، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين بأعمال عنف في الضفة الغربية، واصفًا الحصار المفروض على غزة بأنه غير أخلاقي لا يمكن تبريره، فيما دعا رئيس الحكومة كير ستارمر إلى وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن “مستوى المعاناة في غزة لا يُحتمل”.
استفاقة متأخرة
في منتصف فبراير/شباط 2024 وجّه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، ونظيره الأيرلندي ليو فارادكار، رسالة إلى المفوضية الأوروبية يطلبان فيها مراجعة عاجلة لمدى احترام “إسرائيل” لالتزاماتها ببنود اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد الأوروبي وتل أبيب في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، وهي الاتفاقية التي تشكل الأساس القانوني للعلاقات الاقتصادية بينهما.
وتنص المادة الثانية من اتفاقية الشراكة على أن الموقعين عليها مُلزمون باحترام المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما لم تفعله “إسرائيل” وعليه كان دافع إسبانيا وأيرلندا من وراء هذا التوجيه الضغط على دولة الاحتلال بعدما وصلت الانتهاكات المرتكبة بحق فلسطيني غزة إلى مستويات إنسانية كارثية، أقرب لحرب الإبادة، حيث لم يترك المحتل نافذة للوحشية والإجرام إلا نفذ منها، لكن التوجيه قوبل بالتجاهل من المفوضية وغض الطرف عما يحدث في القطاع.
اليوم وبعد مرور نحو 15 شهرًا على التوجيه الإسباني الأيرلندي، ها هي المفوضية الأوروبية تستفيق من سباتها وتتخلى عن تجاهلها، وذلك بعدما بات المشهد كارثيًا ولا يحتمل الصمت، وأصبح من الصعب التهرب من تلك المأساة في أعقاب افتضاحها إعلاميًا وسياسيًا، وبعدما باتت الجرائم تُرتكب على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من الجميع، لتعلن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد، كايا كالاس، أن المفوضية ستجري مراجعة لمدى التزام “إسرائيل” بمبادئ حقوق الإنسان.
جدير بالذكر، أن الاتحاد الأوروبي يُعتبر أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال على مدار أكثر من 25 عامًا تقريبًا، إذ يمثل 32% من إجمالي تجارتها العالمية، حيث تتحصل تل أبيب على 34.2% من وارداتها الخارجية من دول الاتحاد، فيما تصدر لها 28.8% من صادراتها، بإجمالي تبادل تجاري يبلغ حجمه 42 مليار يورو 2024
استفاقة أوروبية متأخرة، مدفوعة بطبيعة الحال بحزمة ضغوط متراكمة سياسية وإعلامية وأخلاقية، باتت تُحرج كل من يواصل دعم الاحتلال أو التغطية على جرائمه، وتضع حلفاء “إسرائيل” في خانة المتواطئين في ما يتعرض له أطفال ونساء غزة من حرب تجويع وجريمة إبادة مكتملة الأركان، ولكن كما يقول المثل العربي: أن تأتي متأخرًا… خير من ألا تأتي أبدًا.
التحركات الأمريكية.. سياق مهم لفهم الأحداث
لا يمكن قراءة هذا التغير اللافت في الموقف الأوروبي، حتى وإن بدا الانقسام واضحًا، بمعزل عن التطورات الجيوسياسية التي تشهدها الخارطة العالمية خلال الأيام الأخيرة، خاصة التحول الواضح في التوجه الأمريكي إزاء بعض الملفات الملتهبة في منطقة الشرق الأوسط والتي غرًدت فيها إدارة دونالد ترامب بشكل منفرد بعيدًا عن الاعتبارات الإسرائيلية.
البداية كانت مع الملف الإيراني، حيث فوجئ الإسرائيليون بانطلاق مباحثات غير مباشرة بين الإدارة الأمريكية وطهران، بوساطة عُمانية، بمعزل كامل عن الحضور الإسرائيلي، كذلك ملف غزة، فلأول مرة في التاريخ تٌجري الإدارة الأمريكية مباحثات مباشرة مع قيادات حركة حماس على طاولة واحدة وجها لوجه، في محاولة للتوصل إلى اتفاق تهدئة يُفضي بحلحلة الأزمة في القطاع.
وأخيرًا الملف اليمني مع الحوثيين، فرغم تصنيفها كمنظمة إرهابية إلا أن الأمريكان لم يجدوا حرجًا على الإطلاق في التفاوض مع الحوثي بشكل فردي، والتوصل إلى اتفاق أولي بشأن التهدئة، يتضمن وقف استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر مقابل وقف القصف الأمريكي المتكرر ضد اليمن.
مثل تلك التحركات التي حاول من خلالها ترامب الخروج تدريجيًا من العباءة الإسرائيلية والتحرك بشكل منفرد في الملفات الحساسة التي تهدد سمعة أمريكا وتقوض ثقل وصورة الإدارة الأمريكية، حيث ارتأى الانتقال من استراتيجية الشراكات الثابتة التي في الغالب تضع مقاربات الاحتلال في المقدمة، إلى الاستراتيجية البرغماتية العملية التي تنتصر للمصالح الأمريكية أولا بصرف النظر عن أي اعتبارات أو حساسيات إسرائيلية، إذ يبدو أنها أغرت الأوروبيين وحثتهم على المضي قدمًا في المسار ذاته حفاظا على سمعتهم التي باتت هي الأخرى على المحك بسبب الشيك على بياض الذي منحته لنتنياهو وحكومته منذ بداية الحرب.
وعليه، ساهم التوجه الأمريكي الجديد في رفع الحرج السياسي عن القرار الأوروبي، وشجّع الاتحاد على اتخاذ مواقف أكثر جرأة تجاه تل أبيب، وقد كان الصمت الأمريكي إزاء الخطوات التصعيدية التي اتخذتها بعض العواصم الأوروبية في البداية، من العوامل التي دفعت الاتحاد الأوروبي للمضي قُدمًا في هذا المسار بثقة أكبر.
وهو ما فُسِّر من قبل كثيرين على أنه، إن لم يكن موافقة مباشرة، فهو على الأقل عدم ممانعة، وربما إشارة ضمنية إلى قبولٍ ضمني لاستخدام هذا التصعيد كأداة للضغط على حكومة نتنياهو.
رضوخ لا يحتمل التأجيل
بعيدًا عن التفسيرات الوردية التي تحاول إصباغ الموقف الأوروبي بصبغة إنسانية، وتقييم هذا التحول في سياق أخلاقي بحت، فإن ما حدث لا يعدو كونه رضوخا واستجابة لا تحتمل التأجيل لعدد من المتغيرات جعلت من الالتزام بمقاربة الصمت مقامرة تُعرض سمعة أوروبا وصورتها الدولية للحرج والتشويه.
أول تلك المتغيرات التطورات الميدانية في قطاع غزة، حيث الإجرام الوحشي وحرب التجويع التي يمارسها جيش الاحتلال بحق أكثر من مليوني إنسان، تفرض عليهم قوات الاحتلال حصارًا مطبقًا، حوّلهم إلى رهائن في معسكرات الاحتجاز القهري، فضلا عن رفض كافة الضغوط الأممية والمناشدات الدولية التي تطالب بإدخال المساعدات في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الوصول إلى الكارثة التي لا يمكن الصمت حيالها.
ثم يأتي المزاج الشعبي العالمي والذي مالت كفته بشكل واضح دعما لحقوق الفلسطينيين، وتنديدًا بجرائم الاحتلال، وتصاعد الخطاب الجماهيري الرافض لسياسات حكومة نتنياهو، والمطالب بفرض العقوبات واتخاذ مواقف صارمة لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهة قوة غاشمة لا تبالي لأي نداءات أو مناشدات، قوة تخترق القانون الدولي برصاص التجاهل في سويداء قلبه.
هذا المزاج الذي انتقل من الشارع إلى الجامعات ومنها إلى النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، هذا الرفض الذي تتزايد رقعته يومًا بعد يوم، من واشنطن إلى نيويورك إلى لندن ثم باريس ومنها إلى استوكهولم وبرلين ودبلن ولاهاي وغيرها من عواصم المعسكر الغربي، مما مثل ضغطا كبيرًا على الحكومات والأنظمة التي باتت في مأزق أخلاقي حرج أمام شعوبها.
وفي ظل تلك الضغوط الشعبية والإعلامية والسياسية، لم تجد عواصم أوروبا سبيلا سوى الرضوخ والتخلي ولو شكليًا عن دعمها المطلق للكيان المحتل، ورفع البطاقة الصفراء في وجه حكومة نتنياهو الضاربة بكل الاعتبارات والمقاربات والقوانين الإنسانية والدولية عرض الحائط.. لكن يبقى السؤال: هل يمكن أن يكون لتلك الهُبّة الأوروبية من تأثير عملي على أرض الواقع على دولة الاحتلال؟
هل من تأثير مُحتمل؟
حتالخطوات الملموسة عمليًا بفرض عقوبات على “إسرائيل” بسبب جرائمها في غزة لا تتناسب وحجم التهديدات والتصريحات الصادرة عن حكومات القارة العجوز وهو ما يدعو للتساؤل حول احتمالية أن تفرض أوروبا عقوبات رادعة على تل أبيب وقدرة تلك العقوبات على إثناء نتنياهو وحكومته عن جرائمهم التي لا تتوقف في القطاع.
أولا: ما يتعلق باتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية الموقعة عام 1995، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2000، فإن تعليقها -كما لُوّح به- يتطلب إجماعًا من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما لم يتوفر حاليًا في ظل وجود فريق من المعارضين بزعامة ألمانيا ومعها إيطاليا واليونان وقبرص وكرواتيا والتشيك والمجر وبلغاريا.
لكن في المقابل، فإن غياب الإجماع لا يعني بالضرورة انتفاء احتمالات فرض عقوبات على تل أبيب، خاصة بعد التحول الواضح في مواقف الدول الداعمة للكيان المحتل، فألمانيا على سبيل المثال والرافضة شكلا ومضمونا لتوقيع عقوبات على “إسرائيل” انتاب موقفها بعض التغير النسبي، خاصة بعد إصرار حكومة نتنياهو على مواصلة حرب الإبادة وإطلاق النار على الوفد الدبلوماسي الأوروبي أول أمس.
مثل تلك التطورات، وضعت برلين في مأزق كبير، ما دفعها لانتقاد الحرب على غزة، والإعلان رسميًا عن رفض التهجير غير القانوني لسكان القطاع والمطالبة بوقف إطلاق النار، وهي الدولة التي طالما ردد وزير خارجيتها، يوهان فادفول، قوله إن دعم بلاده لتل أبيب غير مشروط، مؤكدًا أكثر من مرة على أن حكومته ستجد طريقة للسماح لنتنياهو بزيارة برلين رغم مذكرة اعتقاله الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم الحرب في غزة.
يذكر أن الاتحاد الأوروبي كان وقد سبق له فرض عقوبات، أكثر من 26 مرة ، على العديد من الدول بسبب انتهاكات حقوق الإنسان بها، دون أن يحظى ذلك بإجماع أعضاء الاتحاد، وعليه فإن “إسرائيل” ليست استثناء ولا تستحق أي استثناء من فرض عقوبات عليها كما أشار الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية هيو لوفات.
ثانيًا: العقوبات الفردية بعيدًا عن مظلة الاتحاد الأوروبي، كما تحاول بريطانيا وفرنسا وكندا فعله، وهو ما ألمح إليه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في بيان مشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني، الاثنين 19 مايو/أيار الجاري، حيث هددوا باتخاذ “إجراءات ملموسة” ضمنها عقوبات فعلية، إذا لم توقف “إسرائيل” عملياتها العسكرية في غزة.
وأعلن ستارمر بشكل رسمي أن بلاده ستعلق المفاوضات مع إسرائيل بشأن اتفاقية التجارة الحرة، مشددًا في كلمة له أمام البرلمان البريطاني على عدم كفاية الكميات القليلة من الغذاء التي سمحت بدخولها دولة الاحتلال للقطاع، مؤكداً على ضرورة التنسيق بين مختلف الدول في ظل استمرار الحرب لمدة طويلة جدا، منوها أنه لا يمكن السماح لشعب غزة بالجوع.
وتبقى الأيام القليلة القادمة ساحة تقييم واختبار لتلك الانتفاضة الأوروبية، وما إذا كانت بالفعل استفاقة – حتى وإن كانت متأخرة- في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية وحرب الإبادة التي تشنها ضد شعب أعزل، أم بروباجندا إعلامية مؤقتة، مدفوعة بقائمة مطولة من الضغوط السياسية والأخلاقية، لتجميل الصورة التي شوهها الدعم المطلق للكيان المحتل وغض الطرف عما يرتكبه من إجرام ضد الإنسانية.
ماذا عن الموقف العربي؟
بصرف النظر عن مدى جدية المواقف الأوروبية من ترجمة تصريحاتها التصعيدية ضد الاحتلال إلى إجراءات ملموسة، إلا أن السؤال الأكثر حضورًا الآن بعد توالي تلك المواقف والتحولات الجذرية في بعضها، ماذا عن الموقف العربي، الغائب تقريبًا عن المشهد، والبعيد عن هذا السجال الكاشف لكثير من المقاربات والحسابات التي تنسف أحيانًا المرتكزات الوطنية والتاريخية التي تتشدق بها كثير من البلدان العربية؟
بينما تتسابق دول أوروبا، المنضوية تحت لواء الاتحاد والبعيدة عنه، تنديدًا بجرائم الاحتلال وإشهارًا لأوراق العقوبات في وجه تل أبيب، تعاني العواصم العربية من حالة ارتخاء سياسي وصمت أخلاقي وخذلان إنساني، فلا صوت يعلو فوق “صمت القبور” الذي حوّل الشارع العربي الثائر تاريخيًا إلى جثة هامدة، لا تتحرك إلا بأمر ولا تصرخ إلا بتعليمات.
وفي الوقت الذي تلوح فيه 17 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بإعادة تقييم اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع الاحتلال، ترتفع معدلات التجارة البينية بين العواصم العربية وتل أبيب منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بأضعاف مما كانت عليه قبل الحرب.
وبينما تٌشهر فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا، ورقة الاعتراف بدولة فلسطين، لم تفكر – حتى مجرد التفكير- دول الخماسي المطبع مع الاحتلال ( مصر- الأردن- الإمارات- البحرين- المغرب) إشهار ورقة تقييم العلاقات مع “إسرائيل” كأحد أوراق الضغط التي كان من الممكن توظيفها إذا ما توفرت الإرادة السياسية.
في الأخير، يبقى التغير الذي شهدته بعض المواقف الأوروبية تجاه “إسرائيل” وإن لم يتحوّل بعد إلى إجراءات ملموسة كالعقوبات التي يُلوَّح بها، تحولًا رمزيًا مهمًا، يضيف إلى افتضاح العنصرية والإجرام الإسرائيلي، ويضع ما تُسمى بـ”الحضارة الغربية” أمام اختبار أخلاقي قاسٍ، أمام التاريخ من جهة، وأمام المنصفين من أبنائها من جهة أخرى.
في المقابل، يظل الموقف العربي الرسمي سُبّة لا تُمحى من جبين حكومات المنطقة، ما لم تُبادر إلى مراجعة جادّة، تنتصر فيها للإنسان أولًا، قبل التاريخ، وقبل القواسم المشتركة التي كثيرًا ما تُرفع كشعارات فارغة.