تتصاعد معاناة سكان قطاع غزة بشكل متسارع في ظل الحصار المُشدد، الذي أطبق على أنفاسهم بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الإغلاق التام للمعابر ومنع دخول المساعدات الأساسية. هذا الوضع الكارثي تفاقم مع استئناف حرب الإبادة في مارس/آذار الماضي، ليجلب المجاعة والتجويع إلى كل بيت في القطاع.
منذ الثاني من مارس/ آذار، أغلقت إسرائيل جميع المعابر أمام دخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والإمدادات الطبية، مما تسبب في تدهور سريع للأوضاع الإنسانية. ورغم المحاولات المحددة لبعض المنظمات دولية لتخفيف الأزمة، لا تزال آثار الحصار تطال الجميع.
ويُعد هذا التجويع الأكثر قسوة منذ بداية الحرب، حيث بات يشمل جميع أنحاء القطاع، من شماله إلى جنوبه، في محاولة ممنهجة لتوظيف المساعدات كأداة للضغط السياسي والابتزاز، مما يزيد من معاناة السكان وسط ضغط الاحتلال لدفعهم لخيارات قسرية قد تساهم في تغيير التركيبة الديمغرافية للقطاع.
مخازن فارغة وأمعاء خاوية
في خضم التهدئة، تلاعب الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ البروتوكول الإنساني، مما أعاق وصول الإمدادات الغذائية الأساسية إلى قطاع غزة، ليزيد من المعاناة الإنسانية للأهالي الذين عانوا من التجويع لفترات طويلة نتيجة الحصار المشدد. وأدت هذه التضييقات إلى تعطيل محاولات تجهيز المخازن بما يكفي للتعامل مع احتمالية إغلاق المعابر مجددًا، مما أدى إلى تسارع تأثيرات الإغلاقات الحالية.
وفي هذا الإطار تدهورت الأوضاع بشكل سريع، وأعلنت المؤسسات الأممية عن نقص حاد في مخزوناتها من المواد الأساسية.
كان أبرز هذه المؤسسات برنامج الغذاء العالمي، الذي كان يدير مجموعة من المطابخ والمخابز الرئيسية لتوفير الوجبات الساخنة للمحتاجين. ومع نهاية أبريل/ نيسان الماضي، أعلن البرنامج نفاد مخزوناته من المواد الغذائية والدقيق والمواد الأولية، مما أدى إلى توقف مشاريع إغاثية حيوية كانت تعتمد على هذه المواد في خدمة السكان.
وفي بيان رسمي صادر عن البرنامج، الذي يعد أكبر منظمة إنسانية في العالم، تم التأكيد على أن هذه هي أطول فترة إغلاق يشهدها قطاع غزة على الإطلاق، ما يزيد من تفاقم حالة الأسواق والنظم الغذائية الهشة بالفعل.
وأسفرت هذه الإغلاقات عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 1400% مقارنةً بفترة وقف إطلاق النار. كما أشار البيان إلى نقص حاد في السلع الغذائية الأساسية، مما يثير مخاوف كبيرة بشأن تغذية الفئات الضعيفة في القطاع، مثل الأطفال دون الخامسة من العمر، النساء الحوامل والمرضعات، وكبار السن.
في السياق ذاته، أكدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في منتصف أبريل/ نيسان الماضي، أن مخازنها أصبحت فارغة وأن عشرات الآلاف من السكان في القطاع يعانون من الجوع. وأشارت إلى أن السماح بدخول المساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية دون عوائق أصبح أمرًا ضروريًا.
وتعليقًا على الوضع، قالت مديرة مكتب الإعلام في “الأونروا”، إيناس حمدان، في تصريحات صحفية، إن ما يحدث في غزة يعد من أسوأ الكوارث الإنسانية غير المسبوقة، حيث لم تشهد المنطقة في السابق انقطاعًا طويلًا للإمدادات الأساسية التي يحتاج إليها نحو مليوني شخص.
كما أكد المفوض السامي للأمم المتحدة أن الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على القطاع منذ شهور يشكل عقابًا جماعيًا، بل وقد يصل إلى حد استخدام التجويع كأداة حرب.
وفي مطلع مايو/أيار، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى قطاع غزة “منطقة مجاعة”، مؤكدًا أن الوضع الإنساني في القطاع بلغ مستوى كارثيًا لا يمكن تحمله.
ويعتمد سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة بشكل كامل على المساعدات الإنسانية كمصدر رئيسي للغذاء. وأكدت بيانات البنك الدولي أن هذه الحرب المستمرة منذ 20 شهرًا قد حولت الفلسطينيين في غزة إلى فقراء، حيث فقدوا معظم مصادر معيشتهم نتيجة للحصار المستمر والدمار الذي لحق بمنازلهم ومرافقهم الحيوية.
مأساة مركبة وقتل بطيء
وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فإن آثار إغلاق المعابر والحصار على السكان المدنيين قد أسفرت عن أعداد مفجعة من الضحايا نتيجة للتجويع. فمنذ 80 يومًا من إغلاق المعابر، تم تسجيل 58 حالة وفاة مباشرة بسبب سوء التغذية، إضافة إلى 242 حالة وفاة نتيجة نقص الغذاء والدواء، معظمهم من كبار السن.
كما أورد الإعلام الحكومي أن أكثر من 26 مريضًا من مرضى الكلى فقدوا حياتهم بسبب غياب الرعاية الغذائية والعلاجية الضرورية، بالإضافة إلى أكثر من 300 حالة إجهاض بين النساء الحوامل نتيجة نقص العناصر الغذائية الضرورية لاستمرار الحمل.
ويعد التجويع أداة من أدوات العقاب الجماعي التي يستخدمها الاحتلال بحق المجتمع في قطاع غزة لأغراض متعددة، أبرزها إجبار السكان على دفع أكبر فاتورة ممكنة من القتل والتعذيب. هذا يشمل القتل السريع بالصواريخ والغارات، تدمير البنية التحتية الصحية وعدم توفر العلاج، وصولًا إلى القتل البطيء من خلال تجويع المدنيين.
في هذا السياق، يروي الشاب سراج جمال من مدينة غزة لنون بوست، قائلاً: “الخوف الدائم من إطباق التجويع علينا والبحث المستمر عن تأمين ما يسد رمق العائلة، خوفًا من أن نصل إلى مرحلة نرى فيها أبناء عائلتنا لا يجدون أي كسرة خبز، هو أسوأ المواقف التي يمكن أن يتخيلها العقل”.
ويضيف جمال أن الذهاب إلى السوق أصبح كابوسًا، نتيجة الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الشحيحة التي ما زالت متوفرة. فقد وصل سعر كيس الطحين إلى 800 دولار أمريكي، ويصل إلى أكثر من 1000 دولار عند إضافة عمولة الدفع النقدي.
أما أم حسن، النازحة من البريج إلى غرب دير البلح، فتروي لـ”نون بوست” قائلة: “بعض أصناف الطعام أصبحت مجرد أحلام، لم نرها في قطاع غزة منذ أشهر. بعد أن كنا نحلم بتأمين وجبة من اللحوم الحمراء أو البيضاء، وصلنا الآن إلى مرحلة الحلم بالدقيق والخبز الطبيعي”.
وتشير أم حسن إلى أنه اضطروا في بعض الأحيان لإعادة تدوير المعكرونة لاستخدامها كدقيق لإنتاج الخبز، أو حتى صناعة خبز العدس لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية.
ويلجأ أهالي قطاع غزة إلى أساليب غير تقليدية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، حيث استخدموا الشعير وعلف الحيوانات في فترات سابقة من الحصار المشدد. واليوم، تزداد المعاناة اليومية مع ابتكار حلول جديدة لتأمين لقمة العيش، مثل إعادة تدوير المعكرونة والفاصولياء وكل ما يمكن الحصول عليه لسد الحاجة الأساسية للغذاء. لكن مع زيادة الطلب على هذه السلع، ترتفع أسعارها بشكل غير منطقي، مما يعيد تعقيد المشكلة.
وحول الخطط الإسرائيلية- الأمريكية، يقول عبدالله قشطة، النازح من مدينة رفح: “نحن كأهالي رفح، ورغم الأحاديث الإسرائيلية عن أن رفح ستكون محطة لتوزيع المساعدات، فإن ذلك يزيد من همنا ولا يُسعدنا، لأننا نرى يومًا بعد يوم أن العودة إلى رفح أصبحت كالحلم الذي يتلاشى مع تصاعد الخطط الإسرائيلية”.
ويضيف قشطة: “أكثر ما يكسر ظهرنا هو أطفالنا، نبذل كل جهدنا حتى لا تخلوا الخيمة من رغيف الخبز، ولكنها مهمة شاقة في هذا الواقع الأليم. نحن نضطر إلى تحديد حصص من الطعام وفق جدول مُعد مسبقًا، والأولوية للأطفال بينما يبحث الكبار عن أي خيارات أخرى لتلبية جوعهم”.
وتُظهر هذه المأساة المركبة التي يعاني منها سكان قطاع غزة بشكل مؤلم مدى قسوة الحصار والتجويع الذي يمارسه الاحتلال، وتحمل في طياتها معاناة إنسانية لا يمكن تحملها، مما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية عاجلة للتحرك لإنهاء هذا الوضع الكارثي.
ضجيج بلا أفعال
مع تزايد التحذيرات الأممية من خطر المجاعة في قطاع غزة، ارتفعت حدة الانتقادات الدولية، خصوصًا من قبل الدول الأوروبية التي أدانت استمرار المجاعة في القطاع. ومع أن التصريحات قد ازدادت شدة في كلماتها الناقدة، فإنها لم تُسفر حتى لحظة كتابة هذه الكلمات عن أي تغيير فعلي يُذكر.
في هذا السياق، حذرت 19 دولة أوروبية وأستراليا واليابان وكندا وممثلون عن الاتحاد الأوروبي من أن سكان غزة يواجهون خطر المجاعة في ظل المؤشرات التي تشير إلى استئناف محدود للمساعدات، بالإضافة إلى استمرار إسرائيل في منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع لأكثر من شهرين.
في ردها على الادعاءات الإسرائيلية بإدخال المساعدات، انتقدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بشدة ضآلة المساعدات التي دخلت إلى قطاع غزة، مشيرة إلى أن السكان بحاجة ماسة إلى دعم هائل ومتواصل لضمان عدم دخولهم في مجاعة حقيقية. وقال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني: “إسرائيل تستغل الجوع والغذاء لأغراض سياسية وعسكرية، وغزة بحاجة إلى دعم هائل ودون عوائق أو انقطاع لمواجهة الجوع المتفاقم”.
في ذات الإطار، جدد الاتحاد الأوروبي تأكيده على ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية والطبية إلى القطاع بشكل فوري، مشيرًا إلى أن ما يدخل من مساعدات “قطرة في محيط” في ظل الأزمة الإنسانية المتصاعدة. وفي هذا الصدد، أصدرت المملكة المتحدة وفرنسا وكندا بيانًا مشتركًا في وقت سابق، معارضين “بشدة لتوسع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة”، معتبرين أن السماح بدخول كمية أساسية من الغذاء إلى القطاع “غير كافٍ إطلاقًا”.
ومن الملفت للنظر، أن هذه الدول، التي ارتفعت أصوات بعضها قبل عام تحديدًا على إثر الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح، كانت قد شاركت في أنشطة شكلية لدرء المسؤولية الأخلاقية عنها.
وتضمنت هذه الأنشطة طلعات جوية فوق قطاع غزة، تم خلالها إلقاء جزء يسير من المساعدات جوًا، مع تضخيم إعلامي مبالغ فيه للادعاء بأنهم يقومون بما عليهم لوقف جريمة المجاعة المستمرة بحق أهالي القطاع المحاصرين تحت النيران من الجو والبحر والبر.
إلا أن هذه الأفعال الشكلية غابت، واستمرت التصريحات والبيانات المتتالية التي لم تُدخل أي قطعة طعام إلى معدة جائع، ولم تُسكت أي طفل يبكي من الجوع ولا رضيع يتألم لأنه لا يجد الحليب.
أما الولايات المتحدة، الشريك الأكبر للاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة، فقد سارعت للإعلان عن خطتها لتوزيع المساعدات. التي تُشكل إعادة انتاج للخطة الأمنية الإسرائيلية الهادفة لإعادة تشكيل قطاع غزة عبر الابتزاز الإنساني، إذ تهدف إلى منح الاحتلال مساحة لاستخدم المساعدات كأداة تهجير ونزوح.
فيما سلكت وزارة الخارجية الأمريكية منحى مشابهًا لسابقاتها في إدارة بايدن، حيث كان جوهر الموقف هو أن استمرار الحرب مقبول طالما يتم توفير “سعرات حرارية كافية” للسكان لكي يبقوا على قيد الحياة في انتظار موتهم بالصواريخ والقنابل الإسرائيلية الأمريكية الصنع.
ويبقى هذا الضجيج الدولي بلا أفعال صوتًا مبحوحًا في مواجهة مأساة إنسانية تفوق حدود المعاناة، ويترك الناس في غزة تحت وطأة الحصار والتجويع في انتظار خطوة حقيقية من المجتمع الدولي لإنهاء هذه الجريمة الممنهجة.