في مصر، بعد يوليو 2013 وصعود عبد الفتاح السيسي إلى قمة السلطة السياسية والأمنية، دخل في صراع حاسم مع حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. هذا الصراع، الذي اتخذ طابعًا صفريًا، أدى تدريجيًا إلى إقصاء تيار الإسلام السياسي من الحياة العامة، سواء كتنظيمات أو كأنشطة دعوية وثقافية داخل المجتمع المصري.
يناقش هذا المقال الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إفراغ المجال العام في مصر من حضور الإسلام السياسي، سواء كانت هذه الأسباب ناتجة عن السياسات السلطوية التي انتهجها نظام عبد الفتاح السيسي، أو نتيجة لاختلالات داخلية تخص جماعة الإخوان المسلمين نفسها.
كما نحاول الوقوف على الفضاءات التي شغلت هذا الفراغ بعد تراجع الإسلام السياسي، ساعين للإجابة، بإيجاز، على سؤالين محوريين: أين ذهب المنتمون سابقًا لهذا التيار؟ وما الذي ملأ المساحة التي خلفها غيابه؟
القمع السُلطوي وتيه الجماعة
بعد بيان الثالث من يوليو، دخلت السلطة الجديدة في صدام مباشر مع التيارات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التي أُطيح بها من الحكم عبر تدخل الجيش. لكن الحدّ الفاصل في هذا الصراع كان يوم فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، حين أصبح واضحًا أن المواجهة تحولت إلى صراع وجودي.
في ذلك الوقت، لم تكن السلطة قد تبلورت بشكلها النهائي بعد، إذ لم يكن السيسي قد تولى الرئاسة رسميًا، ومع ذلك لم تُبدِ أي نية للتفاوض مع الإخوان. في المقابل، تمسكت الجماعة بمطالب قصوى، مثل إنهاء الانقلاب، وعودة الرئيس المعزول محمد مرسي، ومحاكمة من اعتبروهم مسؤولين عن الجرائم المرتكبة، ما جعل الوصول إلى تسوية شبه مستحيل.
في أغسطس 2013 وعقب فض الاعتصام أصبح القتل المباشر لأي احتجاجات في الشوارع صورة اعتيادية تمارسها السُلطة بحق الإسلاميين، فضلًا عن اعتقال عشرات الآلاف وسجنهم وتعذيبهم وإخفائِهم قسريا، بالإضافة إلى أحكام الإعدام والسجن الكثيرة التي صدرت بحق قيادات وأبناء الإسلاميين.
على المستوى القانوني، حظرت السلطة القضائية جماعة الإخوان المسلمين، تبع ذلك تجفيف شامل لمنابعها: مصادرة أموالها، تعطيل أنشطتها الاقتصادية والثقافية والتعليمية، إغلاق مقارها، واستيلاء الدولة على جميع ممتلكاتها. منذ تلك اللحظة، أصبح الانتماء إلى الجماعة جريمة يُعاقب عليها القانون، باعتبارها تنظيمًا محظورًا.
وتحت مظلة “حالة الاستثناء” التي فرضها النظام، لم تكن السلطة بحاجة حتى إلى سن قوانين جديدة لتبرير هذه الإجراءات، فالقمع الممنهج، بتمثلاته القانونية والأمنية، دفع كثيرين داخل الجماعة إلى التبرؤ منها، بدرجات متفاوتة. ونتيجة لذلك، أصبح مجرد التفكير في الانتماء إلى الإخوان مكلفًا لأي مصري، لما يعنيه من مواجهة محتملة مع جهاز الدولة الأمني، ما عمّق من عزلة الجماعة ووسّع دائرة الخوف من الارتباط بها.
ليس فقط قمع السُلطوية هو السبب الوحيد لجمود أنشطة جماعة الإخوان من حيث الدعوة والانتماء والتنظيم، كذلك الخلافات الداخلية والانشقاقات أدت إلى مزيد من حالة التشتت وعدم القدرة على ترميم الشروخ الذي أحدثها هذا القمع، فانقسمت الجماعة إلى جماعتين بسبب اختلاف وجهات نظر القيادة.
لاحقًا، عبّر كثير من الشباب، داخل مصر وخارجها، عن استيائهم من حالة التخبط التي عاشتها جماعة الإخوان وعدم توحد القيادة، فضلا عن العزوف عن سماع صوتهم أو شكواهم من الظروف التي مرّوا بها بعد حالة القمع والسجن والمنفى.
هذا الجمود الفكري والتنظيمي أزاد إنهاك الجماعة وأضعفها أمام بعض الأنظمة التي كانت تحتضنها وتترك لها مساحة إعلامية وسياسية كبيرة للتعبير عن رأيها وفكرها ومعارضتها للنظام المصري.
سرديات الاستهلاك والتقنية كبدائل للانتماء
منذ سبعينات القرن الماضي وحتى عام 2013 كانت دعوة الإخوان المسلمين في انتشار متزايد سواء في المدن أو القرى وما يعرف بـ”الريف” المصرين حيث سمح نظام حسني مبارك للإخوان بممارسة نشاطهم السياسي والمجتمعي والدعوي، مع تضييقات عدة بين الحين والأخرى كانت تشمل اعتقال بعض القيادات العليا والوسطى مع مصادرة بعض الأموال والتضييق على الاحتجاج الميداني.
لكن القمع لم يكن معطلًا لدعوتهم أو انتماء المُجتمع داخل تنظيمهم، والذي ازدهر بعد ثورة يناير 2011 حتى يوليو 2013، هذا العام الذي أصبح عامًا فاصلا في تاريخ الجماعة.
في المُدن المصرية، كانت دعوة الإخوان تستقطب الأساتذة والمهندسين والأطباء، فضلا عن وجود شباب من فئات تعليمية اُخرى مثل كليات التجارة والزراعة وغير ذلك، أي تستقطب فئات اجتماعية وتعليمية متوسطة وعليا. أما في الريف، حيث كان ينتمي إلى الجماعة الفئات الاجتماعية الوسطى والفقيرة بحكم وجود طبقات أقل من حيث مستوى التعليم والطبقة.
لم تكن الجماعة تمثل لمُنتميها فكرة وتنظيم فحسب، سواء في المراكز أو الأقاليم، بل كانت بمثابة حاضنة إجتماعية من حيث القرابة والنسب، كما شبكة اقتصادية من حيث تبادل فرص العمل والتوظيف والتجارة، إذ كان الانتماء للجماعة يعدُّ تحقّقاً ذاتيًا من حيث الاجتماع والاقتصاد والدين، أيضا نيل الاعتراف ضمن أوساط مُختلفة، إذ كان الانتماء للتنظيم خروجا من الهامش غير المرئي إلى المركز المرئي، كما نيل المكانة ضمن فضاءات بعينها، دينية واقتصادية واجتماعية.
بعد عام 2013، لم تملأ التنظيمات السياسية أو الدعوية الفراغ الذي تركه تراجع الإسلام السياسي، بل حلّت مكانه سرديات جديدة، أبرزها فضاءات الاستهلاك والتقنية. هذه الفضاءات، التي جذبت بالأساس ساكني المدن أكثر من الريف، اعتمدت على ثقافة معولمة، متعددة الأوساط واللغات، تجلّت في المولات، وأماكن الترفيه، والسفر، والحفلات، وكل ما يرتبط بنمط حياة حضري استهلاكي.
لم يكن جميع المنتمين إلى جماعة الإخوان متدينين بطبيعتهم فكثيرون انجذبوا إليها بدافع البحث عن معنى أو رغبة في فهم الدين، أو للتماهي مع مظاهر التدين التي كانت الجماعة تمثلها. لكن مع تفكك الخطاب الدعوي غير الرسمي، وغياب تمثلات التدين في المجال العام، برزت فضاءات جديدة كبدائل، تقدم وعودًا مختلفة للهوية والانتماء.
ومع بروز نجم إعلاناتها وشيوُع مفاهيم تحقيق الذات ونيل الاعتراف والمكانة، من خلال التواجد في فضاءاتها العمرانية والانتماء إلى سلَّعها وممارساتها، ملأتْ فراغًا كبيرًا كانت تشغله تلك الجماعات الدعوية.
أما فضاءات التقنية، متمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي استقطبت الجميع، ساكني الحضر والريف معًا، كونه من السهل اقتناء هاتف ذكي، فمن خلاله يأسّس الناس حسابات وقنوات على فيس بوك وتيك توك وانستغرام ويوتيوب، ويبدأون في تقديم المحتوى وهو عبارة عن قصص من الحياة اليومية لما يحدث داخل البيوت أو الشوارع في الريف المصري.
وهدف المحتوى ديني وَعظي، إذ يحاول مؤيدّوا المحتوى إيصال رسالة دينية وأخلاقية من خلال تمثيل بعض المشاهد وقول الحِكم، مثل برّ الوالدين والابتعاد عن الخيانة في العلاقات بين الأصدقاء أو بين الأزواج والزوجات، كما الحفاظ على أسرار البيوت والتمسّك بالتمَظهرات التدينية لجسد الرجل والمرأة، إذ ما يقدّمونه، هو نسخة دعوية لكن في إطارها الحداثيّ التقني، لا في إطارها القديم الذي كان يُقدم ضمن لقائات الجماعات الدعوية، مثل الإخوان المسلمين.
في منطقتنا العربية، وليس مصر فقط، صعدت سرديات ومفاهيم الاستهلاك والتقنية، والتي تعد هي سرديات ما بعد حداثية، كونها ليست سرديات عقلانية صلبة، بل سائلة ومتغيرة، أو بمعنى أدق، سرديات مُتجددة حسب تجدد معايير ومتطلبات المنظومة النيوليبرالية التي لديها أدوات إدارة هذه الأسواق، المولات والحفلات والرحلات، وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، فهي تُجدد أدواتها من أجل جذب واستقطاب شرائح واسعة من الجمهور.
وهي منظومات رأسمالية تسعى للربح وجني الأموال فحسب، على عكس السرديات والمفاهيم التي تعتمد عليها الحركات الاجتماعية في دعوتها وجذبها للجمهور، إذ هي سرديات متباينة الأيديولوجيا والتنظيم، واستقطابها للجمهور لا من أجل الربح، بل بهدف تحقيق تمثلات أفكارها داخل المجتمعات.
هنا عملية الانتماء دينامية، أي متغيرة باستمرار، حيث اندثار أو موات السرديات الأيدلوجية الصلبة ليس نهاية لعالم الأفكار، بل يمكن إعادة إحيائها لو توفر المناخ السياسي العربي سواء سُلطويا أو من قبل التنظيمات ذاتها، لاستقبال واحتضان السرديات مرةً أخرى من قبل المجتمعات.
لكن، لاشكَّ أن صعود سرديات الاستهلاك والفردانية والربح، والتي أصبحت بمثابة أيديولوجيا متوغّلة في الحياة اليومية للمجتمعات، لن يقف، إذ هو يمتلك القدرة على التأثير في ظل مناخ سياسي وثقافي يُشجّع على الابتعاد حيال أي أفكار أو تنظيمات تدعو لقيم الحرية والعدالة والمساواة والشفافية لدى المجتمعات وأنظمة الحكم.