كشف مصدران، مصري وقطري، مطلعان على جهود الوساطة بشأن قطاع غزة، عن تحركات إماراتية مكثفة خلال الأونة الأخيرة لتوطين سكان غزة ببعض دول المنطقة ومنها جمهورية السودان، في تماهي واضح من أبو ظبي لتمرير مخطط التهجير الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فبراير/شباط الماضي، ورفضته الدول العربية بالإجماع، حين عبر عن رغبته في تفريغ القطاع من سكانه تمهيدًا لتحويله إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”.
المصدران وبحسب ما قالا لموقع “المنصة” المصري استعرضا العرض الإماراتي المطروح والذي يتضمن استقبال مئات الآلاف من سكان غزة في عدد من المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا الدعم السريع بالسودان، مقابل حصول قائد الميليشيا، محمد حمدان دقلو (حميدتي) على شرعية دولية وإعادة دمجه في المشهد السياسي السوداني، بعد الضربات التي تعرض لها مؤخرًا على أيدي الجيش الوطني الذي نجح في تكبيد الدعم خسائر فادحة منذ مارس/أذار الماضي.
وتبذل الإدارة الأمريكية رفقة حكومة بنيامين نتنياهو جهودًا دبلوماسية واسعة النطاق، وتُجري اتصالات سرية مع بعض دول المنطقة لإقناعهم باستقبال عدد من سكان القطاع ضمن مخطط التهجير الطوعي، وذلك بعدما أعلنت كل من مصر والأردن رفضهما المطلق لتلك الخطة التي اعتبروها بجانب أنها تقويض للأمن القومي العربي فهي تصفية رسمية للقضية الفلسطينية بشكل عام.
اتصالات بين دقلو وواشنطن برعاية إماراتية
بحسب ما ذكر المصدر المصري المطلع على مفاوضات إنهاء الحرب في غزة فإن الإمارات رعت اتصالات جرت مؤخرًا بين حميدتي ومسؤولين بالإدارة الأمريكية، بهدف الحصول على دعم أمريكي لميليشيا الدعم والاعتراف بها ككيان مسلح شرعي له الحق في أن يكون له دورًا في مستقبل السودان.
وتحاول أبو ظبي توظيف حلم وطموح حميدتي السياسي لتحقيق نقطة إيجابية أخرى لدى واشنطن وتل أبيب، حيث المساومة على قبول استضافة عدد من الغزيين في المناطق التي يسيطر عليها، نظير تحقيق هذا الطموح عبر الدعم الأمريكي، في ظل الدعم الموازي الذي يقدمه أبناء زايد لقائد قوات الدعم عسكريًا وسياسيًا وماليًا.
يأتي هذا العرض الذي تسعى به الإمارات لضرب عصفورين بحجر واحد، توطيد علاقتها بالأمريكان والإسرائيليين من جانب وتوسيع نفوذها داخل السودان لتنفيذ أجندتها التوسعية هناك من جانب أخر، في وقت رفض فيه الجيش السوداني ومجلس السيادة الانتقالي الانخراط في مفاوضات غير معلنة مع ممثلين عن الإدارة الأمريكية، وحكومة “إسرائيل” من أجل مناقشة خطة توطين سكان غزة في السودان، وهو العرض الذي قوبل بالرفض القاطع، شعبيًا وسياسيًا وعسكريًا.
أبو ظبي.. السير عكس البوصلة العربية
في فبراير/شباط الماضي كشف ترامب بشكل صريح ودون أي مقاربة نية بلاده في الاستيلاء على قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيين منه إلى دول مجاورة بداعي تطويره وتحويله إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، وهي الخطة التي عرض على دول الجوار، مصر والأردن، مساعدته في تنفيذها، لكنها قوبلت بالرفض المطلق.
وخلال القمة العربية التي عقدت في مارس/أذار الماضي، ومن قبلها قمة الرياض المصغرة في فبراير/شباط، تبنت الدول العربية الخطة المصرية المقدمة كبديل لخطة ترامب، وهي الخطة المبنية على إعادة إعمار القطاع دون إخراج الفلسطينيين، على أن يستغرق تنفيذها 5 سنوات تقريبًا بكلفة إجمالي تصل لنحو 53 مليار دولار، مع تشكيل لجنة إسناد عربية لإدارة شؤون القطاع خلال مرحلة انتقالية مدتها 6 أشهر، تشمل رفع الأنقاض وتركيب المساكن المؤقتة في 7 مواقع تستوعب أكثر من 1.5 مليون شخص.
وبينما يٌشدد العرب على التمسك بالخطة المصرية الرافضة للتهجير، هاهي أبو ظبي تغرد خارج السرب، ساعية لتمرير مخطط ترامب من خلال استغلال نفوذها في السودان لإقناع حميدتي بقبول الغزيين في المناطق التي يسيطر عليها، ضاربة بكل الاعتبارات والمقاربات والمرتكزات القومية العربية عرض الحائط.
وبمنطق برغماتي بحت فإن حميدتي لن يمانع مثل هذا العرض، خاصة بعد الخسائر التي تعرض لها مؤخرًا والتي قد تطيح به خارج المشهد تمامًا، وعليه تحاول أبو ظبي توظيف هذا الطموح، واستثمار علاقات قائد ميليشيا الدعم ببعض الكيانات والدول التي من الممكن أن تُدرج ضمن قائمة الدول المطروحة لاستضافة الغزيين مثل تشاد التي تربطها علاقات جيدة مع الجنرال السوداني، كذلك المشير الليبي المتقاعد خليفة حفتر والعلاقات الوثيقة التي تربط الدعم بجنوب ليبيا.
التغريد الإماراتي خارج السرب العربي لم يتوقف عند حاجز الملف الفلسطيني وفقط، بل هو مسار ممتد عبر محطات عدة، من ليبيا غربًا إلى اليمن شرقًا، مرورًا بالسودان وإثيوبيا ودول القرن الأفريقي، حيث تتحرك أبو ظبي بمنطق أنوي بحت، لا يضع ثقلا لأي اعتبارات عربية، بل يضع الأمن القومي العربي في مرمى الاستهداف والتهديد.
ليست السودان وحدها من تغازلها الإدارة الأمريكية لتوطين الغزيين، حيث كشفت تقارير نشرتها وكالة “أسوشيتد برس” وقناة “سي بي إس” الأميركية عن اتصالات أمريكية أجريت مع الصومال قبل شهرين بشأن استخدام أراضي الصومال لاستضافة عدد من سكان القطاع.
فيما أكد وزير الخارجية الصومالي أحمد معلم رفض بلاده لمثل هذه المحاولات، قائلًا “نرفض أي خطة تتضمن استخدام الأراضي الصومالية لإعادة توطين سكان آخرين”، مضيفًا “نرفض أي مقترح من أي طرف لتقويض حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام على أرضه التاريخية”.
رفض سوداني للعبث الإماراتي
منذ اندلاع حرب الجنرالات في السودان في أبريل/نيسان 2023 وتحاول الإمارات فرض أجندتها الخاصة الرامية إلى تعزيز نفوذها في الشأن السوداني والسيطرة على موانئ الدولة ومواردها وذلك من خلال دعم ميليشا الدعم السريع وتقديم كافة أوجه المساعدات العسكرية والمالية في مواجهة الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان.
ونجحت بالفعل في تحقيق التوازن في الكفة العسكرية ميدانيًا لأكثر من عام ونصف تقريبًا، وذلك قبل أن يحقق الجيش انتصارات ميدانية كبيرة، سحب من خلالها البساط من تحت أقدام ميليشيا الدعم، وجردها من الكثير من المكاسب التي حققتها منذ بداية الحرب، وهي الهزائم التي دفعت أبو ظبي لإعادة تقييم المشهد، من أجل البقاء داخل اللعبة والمناورة بشأنها.
وكشفت مصادر دبلوماسية عن زيارة سريعة قام بها حميدتي لأبو ظبي مؤخرًا لإعادة هندسة ميليشياته مرة أخرى، حيث التقى هناك مع كبار مسؤولي الأمن في النظام الإماراتي، وعلى رأسهم اللواء راشد الكتبي والعميد سالم النيادي – المسؤولَين عن ملفي السودان والساحل الإفريقي في ديوان مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد.
ودارت اللقاءات الممتدة لعدة أيام حول دعم الميليشيات عسكريًا بالعديد من الأسلحة ومنها المسيرات، وطرح بدائل قيادية جديدة والتخطيط لإنشاء “مجلس عسكري انتقالي” يُدار من الخارج لتقسيم السودان بحكم الأمر الواقع.
وبالفعل وعقب عودته من الإمارات بدأ حميدتي في نقل بقايا قيادات الدعم السريع إلى جنوب ليبيا وتشاد، تمهيدًا لإعادة هيكلتها بمعسكرات تدريب بغطاء “مرتزقة حماية حدود”، بجانب مساعيه لتجنيد مقاتلين جديد من دارفور ووسط إفريقيا بالتنسيق مع مهربين من النيجر ومالي، ممولا ذلك من خلال ضخ أموال جديدة عبر شركة “نور كابيتال” الإماراتية فضلا عن عائد الذهب الذي يهربه للإمارات سنويًا.
المصادر ذاتها كشفت عن حملة إعلامية دولية تمولها الإمارات وتدعمها بما لديها من نفوذ مالي وسياسي وعلاقات جيدة بالأوساط الغربية، لتلميع حميدتي، وتقديمه للعالم كـ “زعيم قبلي” ثائر على الظلم، وأنه ممثل عن قطاع كبير من السودانيين ينتفض لأجل استعادة مواردهم وكرامتهم، وليس كمجرم حرب كما تعرفه الكثير من المؤسسات الدولية والإقليمية.
وأمام هذا الإصرار على العبث في المشهد السوداني رفع السودان في مارس/أذار الماضي دعوى قضائية ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية، متهماً إياها بالتواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في السودان من خلال دعمها ميليشيات الدعم السريع المتورطة في هجمات بولاية غرب دارفور، كما قررت الحكومة السودانية قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الخليجية وأعلنتها دولة عدوان.
وهكذا يواصل أبناء زايد السير بأعين مغمضة في درب تعزيز نفوذهم الإقليمي، وباستراتيجية برغماتية بحتة، يضربون بكل الأعراف الأخلاقية والقيمية والسياسية عرض الحائط، دون أي اعتبارات قومية أو عروبية أو إنسانية أو تاريحية، فالغاية لديهم -وبمنطق ميكافيللي- تبرر الوسيلة، في الوقت الذي يروجون فيه لدعمهم للقضية الفلسطينية في مفارقة مثيرة للسخرية والشفقة معًا.