مع عودة عدد من المهجّرين إلى مناطقهم عقب سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، اصطدموا بواقع مرير: بنى تحتية مدمّرة وخدمات غائبة، وبعد اصطدام إعادة الإعمار بالعقوبات الدولية التي رُفعت مؤخرًا، برزت الحملات الشعبية كاستجابة فاعلة، تنفض الغبار عن الشوارع المنهكة، وتعيد بعث روح التضامن والانتماء من تحت الركام.
في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، بدأت أولى ملامح النهوض من وسط سوريا، حيث تحوّلت مبادرتا ““حمص بلدنا” و”حماة تنبض من جديد” من مجرد حملات تطوعية إلى ورش عمل مجتمعية نابضة بالحياة، طالت المرافق العامة، والبنى التحتية، وحتى تفاصيل الجمال في شوارع مدن أنهكها الإهمال.
وفي الشمال، التحقت حلب بالمسار ذاته، فأطلقت في مايو/أيار الجاري مبادرة “الوفاء لحلب”، التي افتُتحت بمؤتمر مانحين جمع نحو مليوني دولار، لتبدأ بتنفيذ مشاريع خدمية بمشاركة مئات المتطوعين، في مشهد يعيد للمدينة نبضها المدني.

أما في الشرق، فقد كسرت حملة “دير الزور تستاهل” حاجز النسيان. انطلقت في 8 مايو/أيار 2025، مستهدفة مدينة لطالما عانت من التهميش، وهي تسعى اليوم لإعادة الحياة إلى شوارعها، وإيصال صوتها إلى من نسيها طويلًا وإحياء خدماتها من جديد.
أسباب وأهداف الحملات الشعبية
إسماعيل ألفين، منسق حملة “حمص بلدنا” قال لـ”نون بوست”: إن “هدفنا إعادة الحياة للمدينة من خلال إزالة رموز النظام البائد، وفتح الطرقات وإعادة تأهيل المباني الحكومية والحدائق وإنارة الشوارع وترحيل الأنقاض”.
بدوره أوضح عبد العزيز مغربي مدير حملة “الوفاء لحلب”، لـ”نون بوست”، أن حاجة المجتمع المحلي الملحة دفعتهم لإطلاق الحملة، كاستجابة عاجلة لإنقاذ المجتمع، فمدينة حلب فيها أحياء مدمّرة، والنفايات متراكمة منذ سنوات والتي تؤدي لأمراض وأوبئة مثل الليشمانيا.
من جانب سلامة الحسين مدير المكتب الإعلامي لحملة “دير الزور تستاهل”، أكد لـ”نون بوست”، أن الحملة استجابة لحاجة ملحة، تراكمت عبر السنوات الماضية، مشيرًا إلى أن دير الزور عانت من تهميش متعدد الأوجه “تنموي- إعلامي- خدماتي” مقارنةً ببقية المحافظات، وهذا التهميش يعود إلى سياسة نظام الأسد البائد لعقود طويلة، مؤكدًا أنه حان الوقت لتسليط الضوء على المدينة وريفها، لإعادة رسم صورة حقيقية عن أهلها.

وفي سياق متصل، تواصل حملة “حماة تنبض من جديد” أعمالها الخدمية وآخرها البدء بإزالة الأنقاض في مدينة اللطامنة شمال حماة، تزامنًا مع عودة المهجّرين إلى المنطقة المدمرة بالكامل.
الآنسة نور العلي مهجّرة من ريف حماة الغربي، قالت لـ”نون بوست”: “عدت إلى قريتي العوينة فوجدتها مدمّرة تخلو من مقومات الحياة”، مضيفة: إن “أهمية الحملة تكمن في العمل بمناطق ريف حماة أكثر من المدينة التي تفتقر لخطوط الكهرباء بسبب سرقتها، وعدم توافر مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي، لكنها لم تتعرض للدمار مثل الريف، وشملت إصلاحات للنواعير والساعة والإنارة عبر الطاقة الشمسية، وحملة تشجير باسم “شوارعنا الخضراء“.
تضيف نور العلي: “كون معظم المدن والقرى مدمّرة بالكامل توجهت الحملة لأعمال إزالة أنقاض الأبنية والسواتر الترابية التي كانت فاصلة بين القرى، واستصلاح الطرق العامة التي كانت غير صالحة للسير، فضلاً عن حفر الآبار، وإزالة الألغام بالتعاون مع فرق الدفاع المدني”.

وفي قريتها العوينة، تم تمديد شبكات الكهرباء وتزويد القرية بالمياه، وتأهيل أقرب مشفى “سقيلبية الوطني” ضمن الحملة، ما ساهم برفع السوية الصحية للمهجّرين العائدين، وقامت الحملة بترميم عدد من المدارس وتزويدهم باللوجستيات اللازمة بالتعاون مع مديرية تربية حماة، إضافة إلى الاستصلاح الزراعي وتعزيل قنوات الري لإيصالها للمزارعين.
تحديات العمل
رغم الزخم الشعبي والإصرار المدني، تواجه الحملات التطوعية تحديات كبيرة، أبرزها ضعف التمويل، ونقص البنية اللوجستية، وتبقى جهود المتطوعين رهينة دعم غير مستقر، في ظل غياب واضح للجهات الرسمية.
وحدد عبد العزيز مغربي مدير حملة “الوفاء لحلب أبرز التحديات، وهي ضعف التمويل فأغلب التبرعات جاءت على شكل مشاريع من المنظمات، لكن هناك أعمال تحتاج أموالًا نقدية مثل حملة التنظيف، إضافة إلى تحديات تتعلق بالملكية الخاصة للعقارات المدمرة، إذ تجنّبت الحملة التدخل في رفع الأنقاض من المباني السكنية، مركّزة على الشوارع والمدارس والمرافق العامة.
ولفت إلى أن الأعمال تسير مع التعاون الحكومي مثل البلديات ومجلس المحافظة ومديرية الأمن، ورغم التحديات، فقد استطاعت حملة “الوفاء لحلب” أن تُنظم الجهود بحرفية، حسب مغربي الذي أضاف: “خلال أسبوع واحد فقط من إطلاق الحملة إعلاميًا، تواصل أكثر من 500 متطوع، تم تنظيمهم إلى فرق عمل ميدانية، توزعت المهام بينهم وفق قدراتهم وتخصصاتهم”.
أما سلامة الحسين مدير المكتب الإعلامي لحملة “دير الزور تستاهل” أكد أن أبرز التحديات هي الضغط النفسي بعد سنوات من الإحباط العام.
وقال الحسين: “تجاوزنا ذلك بالثبات، الشفافية، والتواصل المباشر مع الناس، والعمل الجماعي”، كما لعب الدعم من المتطوعين والناشطين دورًا محوريًا في الاستمرار، وكما هو الحال في أي مبادرة، كان هناك محاولات للعرقلة، لكنّها لم تؤثر على سير الحملة”، مشيرًا إلى أنهم يعملون على تجاوز العراقيل من خلال افتتاح بوابات تنسيق جديدة واعتماد منهج شفافية واضح.
أما إسماعيل ألفين منسق حملة “حمص بلدنا” فأوضح أنه رغم التعاون مع الدفاع المدني والبلديات بالإضافة إلى دعم بعض رجال الأعمال وبعض المنظمات والفرق التطوعية وإشراك المجتمع المحلي ممثلًا بلجان الأحياء، إلا أن التحديات التي تواجه القائمون على حملة “حمص بلدنا” تتمثل بـ:
- ضعف الإمكانيات المادية، وعدم وجود تجهيزات كافية
- قلة اليد العاملة، ناتج عن عدم تعاون السكان مع الحملة
- البيروقراطية التي ماتزال موجودة ضمن المؤسسات الحكومية
- المطالب الشعبية أكبر من القدرات المتاحة، نتج عنها اتهام الحملة بالتقصير.
وحول دور الإعلام فقد لعب دورًا محوريًا في إنجاح الحملات الشعبية، كما يوضح مغربي، قائلاً: “كان لحضورنا على وسائل التواصل الاجتماعي تأثير بالغ؛ فقد عرف الناس بالحملة حتى قبل أن نبدأ على الأرض، وشهدنا تفاعلًا مباشرًا وإقبالًا لافتًا، حتى من خارج المحافظة”.
وفي السياق ذاته، يشير سلامة الحسين إلى أن وسائل التواصل شكّلت المنبر الأوسع للحملة، من خلال نشر الصور وتوثيق الأنشطة بمساعدة فنانين أحرار شاركوا في الميدان.
كما ساعد الإعلام المحلي، رغم إمكانياته المحدودة، في كسر حالة الصمت، وتسليط الضوء على دير الزور المنسية، موضحًا أن البعد الإعلامي للحملة لم يكن ترفًا، بل هدفًا أساسيًا لإبراز التهميش الذي عانت منه المدينة لعقود.
إنجازات الحملات الشعبية
لم تكن الحملات الشعبية مجرد حراك رمزي، بل تحوّلت إلى فعل ملموس على الأرض، حصد نتائج واضحة في وقت قصير. من حلب إلى دير الزور وحمص، تحوّلت المبادرات إلى مشاريع تغيير حقيقية تعكس طاقات السوريين حين تتوفر الإرادة.
عن إنجازات “الوفاء لحلب”، قال عبد العزيز مغربي: إن “الهدف الرئيسي كان ردم الهوة بين أبناء المدينة، وبين الطبقات الاجتماعية، وحتى بين المقيمين والمغتربين، وفعلاً، الكل شارك بالحملة من كل الطوائف والخلفيات”.
وأوضح مغربي أنه تم إنشاء صندوق مالي تديره لجنة محاسبة مستقلة ومتخصصة توثق عبر إيصالات عملية التبرع والصرف، ما عزّز الثقة العامة، وجعل التبرعات تتزايد.
ويرى مغربي أن الحملة تطوعية شعبية يجب أن تنتهي بعد إنهاء جدول أعمالها، لتنطلق بعدها حملات جديدة أقوى وأوسع. موجهًا رسالته إلى السوريين: “المجتمع المحلي عندما يتكاتف ويشعر بالمسؤولية والانتماء للبلد، سينتج حتمًا، وعلى أي فرد ألا يتردد عن البذل والعطاء ولو على مستوى الترويج الإعلامي أو الكلمة الطيبة، فكل فرد يؤثر ضمن جماعة”.
فيما يعتقد سلامة الحسين أن أكبر إنجاز لحملة دير الزور هو إحياء الشعور بالانتماء، وخلق وعي جماعي بضرورة الاهتمام بدير الزور، فخلال فترة قصيرة، حققت الحملة انتشارًا واسعًا وتفاعل معها الآلاف من أبناء المحافظة، ووصل صداها إلى العديد من الفاعلين، ما يعكس نجاحها الإعلامي وتأثير رسالتها، حيث أطلقت حملات رديفة مثل “الأتارب تستاهل“.
وأضاف الحسين: “نطمح إلى تطوير الحملة لتصبح عملًا مجتمعيًا ممنهجًا يشمل مبادرات ميدانية، توثيقية وتنموية، كما نسعى للتعاون مع جهات إنسانية وتنموية تهتم بالمنطقة. الحملة أعادت بعض الأمل وخلقت حوارًا بين الجيل الشاب حول أهمية استعادة دير الزور، حيث شعر كثيرون أنهم لم يعودوا منسيين، وهذا كان هدفنا الأول”.
أما إنجازات “حمص بلدنا” حسب إسماعيل ألفين فكانت:
- تأهيل ما يزيد عن عشرة مواقع من ضمنها حدائق وشوارع ومساجد في مدينة حمص وريفها، أبرزها تأهيل مسجد خالد ابن الوليد وتركيب منظومة طاقة شمسية لتخديم المسجد ومحيطه، وتم تأهيل الساعة الجديدة.

- إزالة أكثر من 10000 حاجز إسمنتي، وإزالة جدران قيادة الشرطة الإسمنتية.
- حملات النظافة: شملت كافة الأماكن الحيوية كالشوارع الرئيسية والفرعية والمراكز الصحية.
- الإنارة: ما يزال العمل جارياً على إنارة الأحياء والشوارع وذلك بالتناوب ما بين إصلاح خطوط الكهرباء لبعض المناطق وتركيب أجهزة إنارة شمسية لمناطق أخرى ليبلغ عدد الأجهزة الشمسية ما يزيد عن ألف جهاز إنارة شمسي.
- التنظيف بالسفع الرملي: تنظيف عدة أبنية بالسفع الرملي كانت قد تعرضت للاتساخ والإهمال في عهد النظام البائد ما سبب بتشويه جمالية مركز المدينة.
- تنظيف الطريق الواصل بين إشارة الكواكبي والمسجد العمري حملة “حمص بلدنا”- 30 04 2025
- ترحيل النفايات: شملت حملة الترحيل كامل أنحاء محافظة حمص ليشهد واقع ترحيل النفايات ارتفاعًا ملحوظًا ليصل الإجمالي إلى 110.500 طن وبمعدل 1100 طن يوميًا.
- إشارات المرور: لمنع حالات الازدحام المتكرر تم إصلاح معظم خطوط إشارات المرور وبرمجتها بشكل يضمن سلاسة حركة السير بالإضافة لعمليات تركيب لإشارات مرور جديدة واستبدال المعطل منها في بعض المناطق.
وأشار ألفين إلى توسيع نطاق العمل ليشمل إعادة تأهيل مؤسسات وأبنية، وإطلاق منصة خاصة للتبرعات خلال الشهر المقبل، والتخطيط للبدء بحملات التشجير، وبهذا السياق يتم التحضير لدورة تدريبية بعنوان “الممارسات السليمة لزراعة الأشجار” بالتعاون مع مؤسسة بيتي والغرفة الفتية الدولية.
أحياء دمشق تشكو التهميش
رصدت “نون بوست” مبادرات شبابية فردية تطوعية في دمشق منها: مبادرة “أحباء دمشق” أطلقها متطوعون لتنظيف شوارع العاصمة، بدءًا من ساحة الأمويين، ومبادرة “بالحب بدنا نعمرها” أطلقتها مؤسسة “عمّرها”، شملت تلوين الأرصفة، ورسم الجداريات، في محاولة لإزالة آثار النظام السابق وإعادة الحياة إلى المدينة، إضافة إلى مبادرات طلابية في جامعة دمشق لتنظيفها.
لكن لم تُطلق حملة رسمية على غرار بقية المحافظات، وقال الناشط الإعلامي من حي برزة الدمشقي عمار خيرا، لـ”نون بوست”: إن الحي يفتقر لكافة المقومات أبرزها: “عدم وجود فرن آلي للخبز، وشبكات هواتف، لا تتوفر أي خدمات من مياه وكهرباء لجادة المشروح وشارع الحافظ وبساتين برزة المدمّرة بسبب القصف والمعارك مع قوات نظام الأسد”.
وحسب خيرا، فإن سكان برزة يشكون من أكوام القمامة التي تملأ المنطقة، وصعوبة سير وسائل النقل بسبب تخريب البنية التحتية، مع انزعاجهم من انتشار البسطات العشوائية وتعدي المحلات التجارية على الأرصفة المخصصة للمارة، فضلًا عن أصوات الدراجات النارية ووقوع حوادث أسفر أحدها عن وفاة لطفلة. ويحاول خيرا وعدد من الناشطين معه إطلاق مشروع فردي لإنارة شوارع برزة إلا أنه ما يزال يحتاج دعمًا لإتمامه.
وفي ريف دمشق شهدت بلدات عدرا البلد، دير قانون، والحسينية، ومدينة النبك، حملات فردية لتشجير المنصفات الطرقية، وتنظيف الأحياء، وتحسين المرافق العامة، بمشاركة واسعة من الأهالي والفرق التطوعية.
وفي دوما ومسرابا، ساهم المجتمع المحلي في تأهيل المدارس، وتأمين المستلزمات التعليمية، ما يعكس تحملًا للمسؤولية ودورًا فاعلًا في استقرار العملية التعليمية.
وأطلقت العديد من اللجان الشعبية ومجالس البلدات في محافظة درعا مشاريع مماثلة، في محاولة لسد الفجوة التي تعجز الحكومة عن معالجتها، وسط أزمة اقتصادية خانقة، ومنها في ريف درعا الغربي حملة “خنساء حوران – لأجل بلدة أجمل” التي أعلنها مجلس بلدة تسيل، في 24 فبراير/شباط 2025، بهدف تحسين مرافق البلدة وتجميلها بمشاركة من الأهالي والمتطوعين.
بالتزامن مع إطلاق الدفاع المدني السوري حملات مماثلة، من بينها مشروع لإزالة الأنقاض في مدينة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي.
مفهوم “التكافؤ المجتمعي”
هذه المبادرات تعكس روح التكافل المجتمعي والاعتماد على الذات في إعادة بناء المجتمع السوري، خاصة في ظل غياب الدعم الدولي، كما أنها تسلط الضوء على أهمية المشاركة المجتمعية في تحقيق التغيير الإيجابي وبناء مستقبل أفضل.
وقال مصطفى شعبان أخصائي بالإرشاد النفسي لـ”نون بوست”، إن هذه المبادرات لا تقتصر على إعادة ترميم جدران المدن، بل تعيد ترميم الثقة والانتماء، وتعيد وصل ما انقطع بين الإنسان ومحيطه، يمكن أن تشكّل نواة لنهضة حقيقية أكثر صدقًا من مشاريع دولية غالبًا ما تكون مشروطة.
وأضاف شعبان، أن المبادرات الشعبية تُعزّز التكافل المجتمعي والاعتماد على الذات وتُسهم في ترميم النسيج الاجتماعي، وبناء مجتمع أكثر تماسكًا وقوة، كما تُعزّز الديمقراطية والمشاركة المجتمعية، مشيرًا إلى أنها تُسهم في تقليص الفجوة الاقتصادية وتعزيز التنمية المتوازنة، وبناء مجتمع أكثر عدالة، كما أنها تعزز الاستقلالية والابتكار، وبناء مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.
اليوم، لا تزال غالبية المدن السورية تعاني من البنية التحتية المدمرة، وغياب الخدمات الأساسية، وارتفاع نسب الفقر والنزوح، لكن وسط هذا الخراب، تحضر المبادرات الشعبية، لتؤكد أن التكافل المجتمعي ليس بديلًا عن الحلول السياسية، لكنّه ضرورة للبقاء والاستمرار، ونافذة صغيرة تفتحها المجتمعات حين تُغلق أمامها الأبواب.