بينما كان الشارع المصري مشغولًا بمخرجات قانون “الإيجار القديم” وتعديلات “قانون الانتخاب” اللذين نوقشا خلال الأسبوع الماضي داخل البرلمان بغرفتيه، النواب والشيوخ، فوجئ قطاع كبير من المصريين بقانون جديد تم إقراره برلمانيًا دون أن يأخذ حقه في النقاش المجتمعي ولم يٌسلط عليه الضوء أسوة بغيره من القوانين التي تزامنت معه.
قانون تنظيم مياه الشرب والصرف الصحي.. هذا القانون الذي وافق عليه مجلس النواب بشكل نهائي خلال الجلسة العامة للمجلس التي عقدت الاثنين 26 مايو/أيار الجاري، وذلك بعد مناقشته بشكل تفصيلي خلال جلسة الأحد الماضي، بعيدًا عن أعين الإعلام والاهتمام الشعبي والجماهيري.
ويهدف القانون بحسب رئيس لجنة الإسكان بالبرلمان، محمد عطية الفيومي، إلى تطوير هذا القطاع الحيوي، وتعزيز كفاءته، وضمان استدامة خدماته، بما يتوافق مع التحديات المتزايدة التي تواجهها مصر في مجال إدارة الموارد المائية، والتي تتطلب تحديث البنية التشريعية المنظمة لقطاع المياه والصرف الصحي، والتي تعاني من تشتت القوانين واللوائح القديمة التي لم تعد قادرة على مواكبة المتطلبات المعاصرة.
القراءة المتأنية للمشروع بعد الانتهاء من دراسته برلمانيًا أثارت الكثير من الجدل والمخاوف معًا في ضوء ما يتضمنه من بنود يعتبرها البعض كارثية، كونها تكرس لسياسات انتهاكية واضحة، تفرض طوقًا مشددًا على ألسنة المصريين وتحول دون التعبير عن أرائهم في مستوى جودة ونظافة ووفرة المياه، وتضع مصالح محدودي ومتوسطي الدخل في مهب الريح في ظل شرعنة الخصخصة في هذا المرفق الحيوي، ثم تفتح الباب على مصراعيه أمام السؤال الأبرز: ما علاقة سد النهضة بمثل هذا المشروع المٌريب؟
تكريس لسياسة تكميم الأفواه
تنص المادة (73) من القانون على أنه “يعاقب بغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه، ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه، كل من قام بترويج شائعات، أو معلومات غير صحيحة بأية وسيلة كانت عن جودة المياه، بقصد تكدير السلم والأمن الاجتماعي لدى المواطنين بشأن حالة المياه، وجودتها”، وهي المادة التي اعتبرها البعض تكريسَا لسياسة تكميم الأفواه وتضييق الخناق على المواطنين فيما يتعلق بالتعبير عن أرائهم بشأن المرفق الأهم في حياتهم.
وتحت شعار “اشرب وأنت ساكت” عبر نشطاء ومعارضون لتلك المادة عن مخاوفهم من اتساع رقعة استخدامها لتمثل مستقبلا حائط صد أمام أي اعتراضات على مستوى المياه وجودتها ونظافتها، الأمر الذي يعتبره البعض تمريرًا للفساد والإفلات من العقوبة وغض الطرف عن التقصير إزاء مرفق بهذه الخطورة يمس حياة وصحة الملايين من المصريين.
كارت مدفوع مسبقًا للاستهلاك وغرامات على نشر شائعات بشأن جودتها.. جدل حول قانون تنظيم مرفق المياه في #مصر pic.twitter.com/G9TMKSEYYb
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 28, 2025
وكان النائب أحمد البرلسي طالب بحذف تلك المادة قائلا “هل سيجد الصحافيون أنفسهم متهمين بتكدير السلم العام إذا أجرى أحدهم تحقيقًا عن المياه؟”، محذرًا من خطورتها على حرية التعبير عن الرأي في البلاد، إلا أن البرلمان رفض طلبه وتمسك بالإبقاء على تلك المادة ما أثار الشك والريبة.
وردًا على مخاوف البرلسي قال وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، محمود فوزي: إن “النص لا يتعلق بالصحافيين، هناك قلة قليلة جدًا قد تقول كلامًا غير حقيقي يترتب عليه بلبلة في المجتمع، ومن مصلحة المجموع أن يكون النشر في هذه الموضوعات بحرص ومسؤولية”، مضيفًا: أن “تقدير العقوبة وثبوت الجريمة يكون من جهات التحقيق وتحت نظر القاضي، الذي يحدد مدى توافر أركان الجريمة، ومن الصالح العام مواجهة هذا السلوك بالأدوات الجنائية وتحت رقابة القضاء”.
العدادات مسبقة الدفع.. الاستهلاك بالتنقيط
وتنص المادة (64) من القانون على “اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعظيم الاستفادة من المياه النقية بما يحقق سياسات وأهداف الدولة في ترشيد استهلاك المياه، بما في ذلك تعميم استخدام العدادات مسبقة الدفع أو الذكية”، في محاولة لتكرار تجربة العدادات الكهربائية مسبقة الدفع مع مرفق المياه.
وكان هذا التوجه قد فرض نفسه على ساحة النقاش المجتمعي والفني منذ سنوات، ووثقته السينما المصرية من خلال فيلم (صرخة نملة) إنتاج عام 2011، غير أن التعاطي التخيلي حينها كان من قبيل السخرية والمخاوف الاحتمالية بعيدة المدى، ولم يتوقع أحد أنه في غضون عشرة سنوات سيتحول هذا التناول السينمائي الساخر إلى حقيقة وواقع يعيشه المواطن، حيث لا يستطيع أن يتناول شربة ماء أو يستحم دون أن يدفع مقدمًا.
ولا شك أن مثل هذه النظام الجديد سيكون له تأثيره على محدودي الدخل ممن لا يملكون كلفة شحن كروت العدادات مسبقة الدفع، مما سينعكس سلبًا على صحتهم وسلامتهم، وهو ما حذر من أحد النواب قائلًا: “لو شحنت العداد والرصيد نفد، وبنتي عطشانة، كيف أسقيها”، ليرد عليه وزير الإسكان المصري، شريف الشربيني، بقوله إن العدادات مسبقة الدفع تُصدر إضاءة أو أصوات إنذار قبل انتهاء الرصيد، في حوار مأساوي قدر سخريته.
الخصخصة.. مخاوف على محدودي الدخل
المشروع يهدف إلى توسيع مشاركة القطاع الخاص والسماح له بالمشاركة في إنشاء وتشغيل وصيانة وتمويل شبكات المياه والصرف الصحي، كما نص بشكل رسمي على وجود ممثل للقطاع الخاص في مجلس إدارة الجهاز التنظيمي لمرفق مياه الشرب والصرف الصحي، والذي من بين اختصاصاته وضع التعريفات المادية لتسعير المياه.
وهنا تكمن الخطورة، فالقطاع الخاص حين يدخل قطاعًا بعينه فحتمًا يبحث عن الربح والمكاسب، وعليه لا يجد أي غضاضة في تحقيق ذلك دون أي اعتبارات إنسانية أو اجتماعية، وبدعوى رفع كفاءة التشغيل وجودة الخدمات المقدمة سيلجأ الجهاز لرفع أسعار متر المياه بشكل تصاعدي، في محاولة لجني الأرباح التي هي في الأساس دافعه ومحركه الأساسي.
ومن ثم قد يجد المواطن، لاسيما متوسط ومحدودي الدخل، نفسه في مأزق كبير، حيث زيادة الأعباء الملقاة على كاهله، لتزيد معاناته بندًا جديدًا إلى جانب الكهرباء والغاز والوقود والطعام والخضروات واللحوم والخدمات وغيرها من قائمة الاحتياجات التي قفزت بمستويات جنونية خلال السنوات الأخيرة بفعل التضخم وانهيار قيمة العملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية.
وكالعادة في مثل تلك المناسبات يخرج بعض المسؤولين ليؤكدوا ويقسموا بأغلظ الأيمان على عدم تأثير هذه السياسات على جيب المواطن ولا حياته المعيشية، حدث قبل ذلك مع ارتفاع أسعار الوقود ومع زيادات الكهرباء ومع ارتفاع أسعار العقارات، مخدرات ومسكنات اعتادها المصريون منذ عقود طويلة، ليفاجأوا بعد أيام قليلة من دخولها حيز التنفيذ وقد سقطوا في مستنقع الابتزاز الرخيص وفي أسفل مفرمة خلاط الحياة الذي لم يترك شيئَا إلا وفرمه عن أخره.
ماذا عن سد النهضة؟
لا يمكن قراءة قانون المياه الحالي وما به من ثغرات وانتقادات بمعزل عن تطورات ملف سد النهضة، فهو المشروع الذي حمل منذ اليوم الأول له تهديدًا مباشرًا وصريحًا للأمن المائي المصري، والملف الذي تعهد النظام الحالي في مصر بحسمه حين قدم عشرات الوعود والتعهدات والتحذيرات بأن لا أحد يستطيع مس نقطة مياه واحدة من حصة الدولة المصرية من مياه النيل والمقدرة بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًا
وجاء إقرار هذا القانون بعد 10 أشهر فقط من انتهاء إثيوبيا من الملء الخامس لخزان السد والذي كان في يوليو/تموز الماضي، لتحسم الجدل بشأن فشل الحكومة المصرية في إدارة هذا الملف بعد أكثر من عقد كامل شهد خلالها عشرات الجولات المكوكية من المباحثات والاجتماعات الطائرة بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم، دون أي إنجاز ملموس.
لينجح الإثيوبيون عبر استراتيجية التسويف في تحقيق أهدافهم بعدما منحتهم السلطة المصرية هدية على طبق من ذهب بتوقيع اتفاقية إعلان المبادئ 2015 التي منحت أديس أبابا الضوء الأخضر في بناء السد والحصول على التمويل والدعم الدولي له، وهو ما لم يكن يحدث لولا الموافقة المصرية وتوقيعها على الإعلان.
وتعاطيًا مع هذه الكارثة كونها “أمر واقع” والاستسلام لما حدث، بعيدًا عن التصريحات العنترية الصادرة بين الحين والأخر، اضطرت السلطة لفرض حزمة من الإجراءات القاسية منها استخدام نظام معالجة مياه الصرف لإعادة استخدامها مرة أخرى كمياه للشرب لتعويض العجز الكبير الذي سببه السد.
ورغم ما يثار حول دقة وجودة محطات المعالجة الثلاثية، فإن خبراء الصحة والبيئة يشيرون إلى أنها تحمل الكثير من الأضرار بسبب طبيعة الصرف الصحي المصري المختلط، كونه مزيجًا من الصرف الزراعي والصناعي والشخصي في آن واحد، ما يجعل هناك صعوبة بالغة في تحلية هذه المياه، فضلًا عن الأمراض الناجمة بسبب تناول هذه المياه كفقر الدم عند الأطفال وسرطان البلعوم والمثانة عند الكبار.
علاوة على إجبار المواطن على ترشيد استهلاكه للمياه، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على حياته وصحته اليومية، وذلك إما بقطع المياه لفترات طويلة وإما رفع أسعارها بما يجعلها عبئًا على محدودي ومتوسطي الدخل، فيضطرون للترشيد قهرًا، وهو ما يحدث اليوم ويقره القانون الجديد الذي يمكن اعتباره شهادة اعتراف رسمية على فشل السلطة المصرية في معركة سد النهضة.