“لن نتضامن مع إسرائيل بالإجبار ويجب عدم استغلال كفاحنا ضد معاداة السامية، ودعمنا لأمن إسرائيل، في الحرب الدائرة حاليا بغزة”، لم يتخيل أي متابع للمشهد الإقليمي والدولي أن يصدر مثل هذا التصريح على لسان وزير الخارجية الألمانية، الدولة الداعمة بشكل مطلق للكيان المحتل تاريخيًا، وأحد أقرب شركاء حكومة بنيامين نتنياهو في حرب الإبادة التي تشنها ضد غزة منذ نحو 600 يومًا.
وزير الخارجية الألماني، يوهان ديفيد فادفول، خلال إفادة صحفية له الثلاثاء 27 مايو/أيار الجاري، أكد أن “المرحلة الراهنة تحتم علينا التفكير بجدية في أي من الخطوات الجديدة التي يلزم اتخاذها”، لافتًا إلى أنه سيجري اتصالًا بنظيره الإسرائيلي في وقت لاحق، واصفًا الوضع بأنه “لا يُحتمل”.
تصريحات فادفول تأتي في أعقاب توبيخ ربما هو الأشد، وجهه المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي اعتبر أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على غزة “تلحق خسائر بشرية فادحة بين المدنيين، ولم يعد من الممكن تبريرها باعتبارها حربًا على إرهاب حماس”، لافتًا إلى أنها لم تعد منطقية ولا يمكن قبولها، وذلك خلال مؤتمر صحفي له في فنلندا.
تصريحات المستشار الألماني ووزير خارجيته وعدد من كبار الساسة من النخبة تعكس تحولًا ملحوظًا في موقف برلين إزاء تل أبيب، وهو الموقف الذي كان يتبنى خطا واحدًا منذ بداية الحرب، خط الدعم المطلق، والشيك على بياض الذي منحه الألمان للإسرائيليين.. فما الذي تغير إذًا؟ وماذا وراء هذا التحول في الخطاب السياسي والإعلامي الألماني إزاء الكيان المحتل؟
موجة توبيخ ونبرة غير معتادة
الأيام القليلة الماضية، شهدت توبيخًا ألمانيًا غير مسبوق تجاه ممارسات الاحتلال في قطاع غزة، بعدما وصلت الأمور إلى مستوى من الوحشية والإجرام لم يعد مقبولا، أخلاقيًا وسياسيًا، تجسد في عدد من التصريحات لقيادات الصف الأول في البلد الأوروبي.
البداية كانت مع المستشار الألماني الذي انتقد ولأول مرة الضربات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، والذي استقر في يقينه أن المبررات التي ساقتها حكومة نتنياهو لم تعد منطقية ولا مقبولة، مضيفًا “أنا أيضا لست من بين أولئك الذين بادروا بقول ذلك.. لكن يبدو لي أن الوقت حان لأقول علنا إن ما يحدث حاليا لم يعد منطقيا”، فيما اتخذ وزير خارجيته مسار التوبيخ ذاته.
في ذات السياق، دعا مفوض الحكومة الألمانية لشؤون مكافحة معاداة السامية، فيليكس كلاين، إلى مناقشة موقف برلين تجاه “إسرائيل”، قائلًا إن الدعم الألماني بعد المحرقة لا يمكن أن يبرر كل ما تفعله “إسرائيل”، فيما تتصاعد دعوات من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، الشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم، لوقف صادرات الأسلحة إلى “إسرائيل” خشية مواجهة ألمانيا اتهامات بالتواطؤ في جرائم حرب.
هذا التوبيخ أثار قلق المؤرخ الإسرائيلي المعروف، موشيه زيمرمان، والذي قال إن الرأي العام في ألمانيا تجاه “إسرائيل” كان رد فعله مماثلا للموقف في بلدان أخرى، مضيفًا “يكمن الفرق في النخب السياسية، فالنخبة السياسية (في ألمانيا) لا تزال تخضع لتأثير دروس الحرب العالمية الثانية بطريقة أحادية البعد.. تتمثل في القول “كان اليهود ضحايانا خلال هذه الحرب، لذلك يتعيّن علينا أن ندعمهم أينما كانوا ومهما فعلوا”.
واستطرد “يمكنك أن تلمس ذلك في رد فعل وزير الخارجية الألماني الجديد، فاديفول، وبشكل غير مباشر في عدم تكرار ميرتس وعده بدعوة نتنياهو لزيارة البلاد. هذا وضع غير مسبوق، إذ يُجبر الضغط من الأسفل الطبقة السياسية على إعادة النظر”.
الشارع الألماني ناقم على “إسرائيل”
لم تكن موجة التوبيخ النخبوي لـ “إسرائيل” موقفًا أحاديًا للمستوى القيادي لألمانيا، إذ يمكن اعتبارها نتيجة منطقية للمزاج الشعبي الألماني الذي شهدت بوصلته تجاه تل أبيب تغيرًا ملحوظًا، كشفت عنه نتائج استطلاعات الرأي التي جرت مؤخرًا.
أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “سيفي”، ونُشر في صحيفة “تاغس شبيغل” هذا الأسبوع، أن 51% من الألمان يعارضون تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل”، فيما عبّر نحو أربعة أخماس المشاركين من ذوي الميول اليسارية عن معارضتهم الصريحة لإرسال الأسلحة من ألمانيا إلى تل أبيب.
كما بين الاستطلاع أن 34% من ناخبي حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي ينتمي إليه المستشار فريدرش ميرتس، يعارضون تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال، وفي المقابل يرى 48% من أنصار الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الشريك في الائتلاف الحاكم، أن تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل” قرار خاطئ.
يضاف إليه، مسح أجرته مؤسسة بيرتلسمان في مايو/أيار الجاري، أوضح أن 60% من الإسرائيليين لديهم رأي إيجابي أو إيجابي للغاية تجاه ألمانيا، في حين ينظر 36% فقط من الألمان إلى “إسرائيل” بشكل إيجابي، و38% ينظرون إليها بشكل سلبي، كما أظهر أن الألمان الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا أقل معرفة بـ”إسرائيل” من كبار السن، كما أنهم أقل اقتناعًا بأن العلاقات الثنائية يجب أن تُبنى على ذكرى المحرقة.
وتظهر نتيجة هذا المسح، التغير الملحوظ الذي شهده المزاج الشعبي الألماني، ففي الاستطلاع الذي أجرى عام 2021 كان 46% من الألمان لديهم رأي إيجابي تجاه “إسرائيل”، في انخفاض نسبته 10 نقاط مئوية عما كان عليه قبل 4 سنوات، في حين يعتقد 64% من الإسرائيليين أن على ألمانيا التزاما خاصا تجاههم.
تحول لافت
على جدار مكتبه في مبنى المستشارية الاتحادية في برلين، يعلّق المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، صورة فوتوغرافية لشاطئ مستوطنة زيكيم في جنوب غرب “إسرائيل”، بالقرب من غزة، وتُظهر صفًا من الأكواخ الشاطئية التي أعيد ترميمها بعد الهجوم نفذته المقاومة الفلسطينية على الشاطئ خلال حرب 2014 وكان ساحة عمليات في الحرب الجارية حاليًا في القطاع.
ميرتس يريد أن يعلن من خلال تلك اللوحة المعلقة على جدار مكتبه الذي يدير من خلاله شؤون بلاده، دعمه ودعم دولته الكامل للكيان المحتل، بما يتناسب مع انتماءه السياسي المعروف عنه والداعم بشكل كبير لـ”إسرائيل”، بما ينسجم مع التضامن الألماني التاريخي مع تل أبيب، التضامن المدفوع بالإرث الثقيل للمحرقة النازية (الهولوكوست).
وللمستشار الألماني الذي فاز في انتخابات فبراير/شباط الماضي مواقف عدة كشف من خلالها دعمه الكبير للدولة المحتلة، فبعد فوزه في تلك الانتخابات تعهد مباشرة باستضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الأراضي الألمانية في تحدٍّ لمذكرة اعتقال بحقه أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، كما فتح ترسانة بلاده التسليحية لدعم جيش الاحتلال في حربه ضد غزة.
وظلت “إسرائيل” لسنوات طويلة الجسر الأكبر لعودة ألمانيا للمجتمع الدولي مرة أخرى بعد العزلة التي تعرضت لها بعد المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تشكّلت في أعقابها أجيال من الساسة الألمان الملتزمين بأمن “إسرائيل”، فيما برّر المستشار الأول بعد الحرب، كونراد أديناور، دفع تعويضات لتل أبيب بضرورة استرضاء ما أسماه “قوة اليهود”، وهو ما ساعد في تأسيس علاقات استثنائية صلبية بين البلدين.
في ضوء ما سبق، يمكن قراءة التغير الواضح في الخطاب السياسي الألماني تجاه دولة الاحتلال على أنه تحوّل لافت لا يمكن إنكاره، ونسفًا – على الأقل من حيث الشكل- لوثيقة الشراكة التقليدية بين البلدين، التي استندت إلى قائمة مطولة من المصالح المشتركة وأرضية خصبة من التفاهمات التاريخية والسياسية، التي في كثير من محطاتها أقرب للابتزاز منها للشراكة.
وفي سياق مواز، لا يمكن إغفال التحولات الداخلية الديموغرافية في المجتمع الألماني وتأثيرها في تغير الخطاب السياسي تجاه “إسرائيل”، خاصة بعدما بات أكثر ثراءً على المستوى العرقي والثقافي مما كان عليه قبل عقود، إذ إن ما يقرب من 25% من سكان ألمانيا البالغ عددهم 80 مليون من أصول مهاجرة، خاصة الأصول الشرق أوسطية والمسلمة.
في هذا الشأن، يقول الباحث التاريخي عومير بارتوف، أحد مؤرخي المحرقة في جامعة براون الأمريكية، إنه: “من الغريب حقًا أن تطلب من ألماني من أصل سوري أن يتصالح مع مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست”، إلا أنه لازال يميل إلى أن تداعيات هذا التحول على السياسة الألمانية ما زالت غير واضحة وأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت لاختمار الأثر والتأثير.
تماهٍ مع الموقف الأوروبي
ينسجم الموقف الألماني إزاء دولة الاحتلال مع الخطاب الأوروبي الذي شهد هو الأخر تصعيدًا سياسيًا وإعلاميًا ضد تل أبيب، خاصة بعد انقضاء المهلة التي حددها الاتحاد الأوروبي لرفع الحصار عن المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كامل والتي انقضت في 25 مايو/أيار الجاري، إذ تتخوف برلين من أن تكون كيانا منبوذا بين جيرانها، يدعم حرب الإبادة ويغض الطرف عن الاعتبارات الإنسانية التي تتشدق بها ليل نهار.
وقبل أيام من تصريحات المستشار الألماني ووزير خارجيته كانت فرنسا وبريطانيا وكندا وإيطاليا قد وجهوا رسالة قاسية إلى المحتل لوحوا فيها باتخاذ إجراءات تصعيدية من حظر لتوريد السلاح وفرض عقوبات اقتصادية، فيما دعت أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا إلى منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة والاعتراف بدولتها على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وجددت التزامها بحل الدولتين.
يرافق هذا الحراك السياسي على مستوى النخبة، حراكا ثقافيًا شعبيًا أخر حيث دعا نحو 380 كاتبًا ومثقفًا من بريطانيا وأيرلندا، من بينهم أسماء أدبية مرموقة مثل زادي سميث وإيان ماك إيوان وإرفين ويلش، إلى استخدام ما وصفوه بـ”الكلمات الصحيحة” في وصف ما يجري في القطاع، مؤكدين أن ما يحدث هو “إبادة جماعية” (وهو المصطلح الذي يحمل تبعات قانونية وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948) تستدعي تحركًا فوريًا وحازمًا من المجتمع الدولي ضد “إسرائيل”.
وتأتي تلك الخطوة بعد الرسالة التي بعث بها نحو 300 كاتب فرنسي دانوا فيها ما وصفوها بـ”الإبادة الجماعية” للسكان في غزة، من بينهم اثنان من حائزي جائزة نوبل للأدب، هما آني إرنو وجان ماري غوستاف لوكليزيو، وقد دعوا إلى “وقف فوري لإطلاق النار”.
ملحمة غزة إذ تقلب العالم ضد الصهاينة وتكشف بشاعتهم!
بعد رسالة نحو 300 كاتب بالفرنسية بشأن حرب الإبادة الصهيونية في غزة (نشرت أمس)، ها إن 380 كاتبا ومنظمة بريطانية تنضم إليهم في رسالة نُشرت اليوم.
الأخيرون قالوا "إن استخدام عبارة "إبادة جماعية" أو "أعمال إبادة جماعية" لوصف ما… pic.twitter.com/hxXOZud0eh
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) May 28, 2025
تعاني دولة الاحتلال منذ بداية الحرب من اتساع رقعة عزلتها الدولية، وتدحرج كرة النار التي بدأت تأكل الكثير من مساحات الدعم العالمي الذي كانت تحظى به في السابق حين كان تخدع العالم بشعاراتها المزيفة وسردياتها المضللة وأكاذيبها حول الكيان الحضاري والدولة الديمقراطية، وهي الأقاويل التي سرعان ما افتضح زيفها فوق تراب غزة.
في المحصلة، من المبالغة الحديث عن قطيعة محتملة بين برلين وتل أبيب في ظل هذا التغير في الخطاب، فالألمان لا يزالون يبيعون السلاح للكيان، وما زالوا أكبر شريك تجاري أوروبي له، هذا فضلًا عن دعمهم الكامل له في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية. وطالما أن ألمانيا لم تتخذ بعد أي إجراءات أو خطوات ملموسة، فلا مبرر فعليًا لقلق نتنياهو في الوقت الراهن، كما يشير المؤرخ أومر بارتوف.
لكن، وبعيدًا عن التفسيرات والتأويلات المتباينة التي تحاول فهم التحول الذي شاب الخطاب السياسي والإعلامي الألماني تجاه تل أبيب، وما إذا كان تغييرًا حقيقيًا في المواقف أم مجرد رضوخٍ للضغط الشعبي والأخلاقي المتصاعد على برلين، في محاولة لامتصاص حالة الغضب المتفاقمة في ظل الهمجية الإسرائيلية التي جعلت من الكيان عبئًا ثقيلًا على حلفائه وشركائه.
فإن ما حدث لا يمكن قراءته إلا في سياق تمدد العزلة الإسرائيلية، التي تتسع مساحتها يومًا بعد يوم، مع قفز الحلفاء والشركاء من المركب واحدًا تلو الآخر. وفي المقابل، يمثل ذلك انتصارًا رمزيًا للقضية الفلسطينية، التي فرضت نفسها مجددًا على الساحة الدولية بعد تجميد متعمد استمر طويلًا، وثورة كبيرة في المزاج الشعبي العالمي الذي بدأ يميل، أكثر من أي وقت مضى، صوب حقوق الشعب الفلسطيني المهضومة منذ عقود.