تمتدّ سوريا أرضًا وشعبًا من أقصى شرقها إلى غربها، ومن جنوبها حتى شمالها في فسيفساءٍ من المدائن والقرى، إلا أن توزيع مشاريع إعادة الإعمار لا يعكس هذا التنوع بشكل متوازن. ففي الوقت الذي تحظى فيه العاصمة دمشق بتركيز واضح من حيث الاستثمارات والمخصصات المالية، تعاني العديد من المحافظات الأخرى من بطء في وتيرة الإصلاحات، مما يخلق فجوة ملموسة في مستوى الخدمات والتنمية بين المركز والأطراف.
فالمبادرات الشعبية التي انطلقت من دهاليز التضامن المجتمعي، تحوّلت إلى “مستنقعٍ اضطراري” يملأ فراغ الدولة في العديد من المحافظات السورية، خصوصاً في محافظات شرق سوريا.
ومثال على ذلك في دير الزور التي استجاب أهلها لحملات التبرّع وصرفوا مئات آلاف الدولارات لترميم مستشفياتٍ تعثّرت خدماتها، ولإصلاح شبكات مياهٍ وكهرباء تضرّرت بفعل سنوات الحرب، لكن هذه الجهود، وإن بدت بطولية على المستوى المحلي، لا تملك صفةَ التنسيق المؤسسي ولا تستند إلى دراساتٍ وطنية، ما يضعها تحت طائلة العشوائية ويقلّص من فرص تحويلها إلى نموذج يُحتذى به على نطاقٍ أوسع.
المركز والأطراف: تفاوت في التنمية
تُظهر المقارنة بين العاصمة دمشق ومحافظات الشرق السوري تفاوتًا واضحًا في حجم التنمية وتوزيع الموارد، فبينما تشهد دمشق تحسنًا تدريجيًا في البنية التحتية وتدفقًا مستمرًا في الاستثمارات، لا تزال المحافظات الشرقية تعاني من ضعف في الخدمات الأساسية وغياب الدعم الحكومي الكافي/ هذا التفاوت لا يرتبط فقط بنتائج الحرب، بل يعكس أيضًا نمطًا طويل الأمد في توزيع الموارد يركز على المركز على حساب الأطراف.
في دمشق، تُنفذ مشاريع الإصلاح والتطوير في قطاعات متعددة مثل الطرق، والكهرباء، والمياه، والتعليم، مدعومة بموازنات حكومية ومبادرات من القطاع الخاص، أما في دير الزور ومحيطها، فغالباً ما تعتمد عمليات إعادة التأهيل على جهود مجتمعية ومساعدات من منظمات دولية ومحلية، في ظل غياب منظومة متكاملة لإعادة الإعمار.
المشكلة لا تكمن فقط في حجم المشاريع، بل في الاستدامة والقدرة على خلق بيئة اقتصادية مستقرة, فبينما يستطيع المستثمر في دمشق أن يحصل على تسهيلات إدارية وقانونية نسبياً, تفتقر مناطق الشرق إلى بيئة قانونية مستقرة، مما يحد من قدرة القطاع الخاص على الدخول والمشاركة في التنمية.
هذا التفاوت يُنتج آثاراً ملموسة على مستوى المعيشة، فرص العمل، والهجرة الداخلية، ويُسهم في ترسيخ شعور بالإقصاء لدى سكان هذه المناطق، لذلك، فإن معالجة هذا الخلل تتطلب إعادة النظر في سياسات التخطيط والتمويل، وتبنّي نهج تنموي متوازن يراعي احتياجات جميع المحافظات بشكل عادل وشفاف.
هل تتغير سياسة التهميش تجاه الشرق؟
انتهج نظام الأسد سياسة “الحرمان المتعمّد” للمنطقة الشرقية منذ توليه الحكم في البلاد ابتداء بالأسد الأب وصولاً لخليفته بشار المخلوع، حيث قام بتحويل موارد محلية مخصّصة لإعادة الإعمار (بما يقدّر بنحو 2.7 مليار دولار) إلى مشاريع تخدم المقارّ الأمنية وأحياء النخبة في دمشق وما حولها، بينما تُركت بنياتُ المياه والكهرباء والمستشفيات في ديرالزور والحسكة والرقة تئنّ تحت وطأة الإهمال دون صيانة أو إعادة تأهيل حقيقية.
ورغم سقوط النظام في ديسمبر 2024 وتشكيل حكومة الرئيس أحمد الشرّع الجديدة، لوحظ نهج قد يكون غير متعمد للتمييز الجغرافي، إذ ركّزت خطة الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) البالغة 1.3 مليار دولار للسنوات الثلاث المقبلة على “تحسين البنى التحتية في المحاور الاقتصادية الرئيسة” من دون تحديد آليات واضحة لضمان وصول الدعم إلى المحافظات الشرقية المنكوبة.
في هذا السياق أشار الناشط المجتمعي “إسحق الأيوب” على أن التركيز المكثف على العاصمة يرتبط بمحاولة الحكومة الجديدة إظهار ديناميكية وإنجازات ملموسة أمام الزوار المحليين والدوليين، لكن هذا النهج يُمارس على حساب المحافظات الأخرى، مثل دير الزور التي لا تزال تعاني من دمار واسع وإهمال تنموي، في الوقت الذي تتزين فيه شوارع دمشق، تعيش مناطق كدير الزور على وقع الأنقاض وغياب الخدمات، ما يعكس اختلالاً واضحاً في أولويات التنمية.
من جهة أخرى قال المستشار الإعلامي “نضال ناصيف” لـ”نون بوست” إن العواصم عادةً ما تكون هي مراكز الإدارة والتجمع وربط مؤسسات الدولة عبر التاريخ، وذلك لاحتضانها الدوائر الرسمية، البعثات الدبلوماسية، والثقل الحكومي المُعد ليكون إلى جانب السلطة، لكن الإهمال لا يوزَّع بالتساوي بين المحافظات، فكلما ابتعدت المحافظة جغرافياً عن المركز، كلما زاد الإهمال تجاهها، وخاصة إذا كانت قليلة التمثيل في الحكومة والسلطة التشريعية.
ويُضاف إلى ذلك عقلية النظام التي زرعها الأسد في مؤسسات الدولة وفي عقول بعض المسؤولين، رغم أن بعضهم تحرر اليوم من النظام، إلا أنهم لا يزالون أسرى لأفكاره، مثل النظرة النمطية إلى المنطقة الشرقية بأنها مجرد “نفط وغاز وأموال”.
هل عوّضت المبادرات المحلية غياب الدولة؟
يشير البعض من الناشطين القائمين على المبادرات المحلية والمهتمين بالشأن الداخلي السوري بأن الحكومةُ السورية راقبت هذه المبادرات عن كثب، ثم اختارت بقراءة ضيقة للمصالح أن تعتمد بشكل أو بآخر على هذه المبادرات التي هي من ضمن مسؤولياتها التقليدية، بينما لا تزال البنى التحتية في المحافظات ترزح تحت وطأة التردّي، وتلوح في الأفق فاتورةٌ ضخمةٌ قد تتهدّد الموازنة العامة إن لم يُعالج هذا الخلل قبل فوات الأوان كون التركيز المفرط للحكومة على العاصمة دمشق وتنميتها عمرانياً وخدمياً يشي بأن بقية المحافظات باتت مهمّشة، وهو “مرضٌ بطيء” قد يكلف الحكومة مستقبلاً أموالاً طائلة.
وفي حديث “نون بوست” مع الناشط “محمد أبو القاسم” عن المبادرات المحلية وهو أحد القائمين على مبادرة (موحسن أحلى) بريف ديرالزور قال: “أرى أن التركيز الكبير على العاصمة يعود لكونها مركزًا سياسيًا وسكانيًا، وهي أيضًا محطة للزيارات الدبلوماسية، مما يجعل الأنظار تتجه إليها بشكل دائم. لكن، من وجهة نظري الشخصية، لا توجد محافظة أهم من محافظة أخرى، بل على العكس تمامًا الجميع يعاني بشكل متساوٍ”.
وأضاف: أن “حجم الدمار الذي لحق بالمحافظة كبير جداً، ولا يمكن تعويضه بالمبادرات الأهلية أو الجهود الفردية فقط، مهما كانت كبيرة، هذا الدمار يتطلب تدخلاً فعّالًا من الحكومة والمنظمات الدولية, ومع ذلك، منذ انطلاق الحملات الأهلية، لمسنا عزيمة قوية وإصراراً من الأهالي، رغم إدراكهم لصعوبة المهمة لم يكن هناك مانع من البدء، حتى بخطوات بسيطة؛ كإعادة تأهيل بعض المدارس، لنمنح أبناءنا الذين حُرموا من التعليم فرصة للعودة إلى مقاعدهم الدراسية بعد سنوات من الانقطاع”.
وتحدث أبو القاسم عن الصعوبات التي واجهتهم في البداية من أبرزها تأمين اليد العاملة، وارتفاع أجورها، إضافة إلى صعوبات في التنسيق مع الجهات الرسمية التابعة للنظام السابق، لكن بعد أن تولّى بعض أبناء الثورة مسؤوليات محلية، أصبح التواصل أكثر سلاسة، رغم غياب الدعم المادي والمعدات والدعم المعنوي وحده شكّل دافعاً كبيراً للاستمرار.
وفي نفس السياق يقول السيد” إسحق الأيوب” لـ”نون بوست” أنه وبالرغم تواضع الإمكانيات، لعبت المبادرات المحلية دوراً محورياً في ملء فراغ الدولة بعد انسحابها من بعض مناطق دير الزور، انطلقت هذه المبادرات من حس عالٍ بالمسؤولية، ونجحت في حماية النسيج الاجتماعي وتقديم خدمات أساسية، لكنها تبقى جهوداً غير كافية أمام ملفات كبرى تحتاج إلى تدخل حكومي مباشر مثل البنى التحتية والخدمات الحيوية.
ويقول الأيوب إن المبادرات المجتمعية تواجه تحديات عدة، أبرزها غياب التشريعات والإطار القانوني المنظّم لعملها، مما يعرّضها للتشتت وضعف الاستدامة. عدد منها أُنشئ كرد فعل سريع دون رؤية مؤسسية، في حين أظهرت بعض الفرق المنظمة – خصوصاً تلك المدعومة بخبرات من مناطق الشمال – قدرة أعلى على الفاعلية. ومع بقاء فجوة في التنسيق الرسمي، تظل إنجازات هذه المبادرات محدودة الأثر وطويلة الأمد.
ويؤكد الأيوب على أهمية وجود جهاز مركزي لتنظيم المساعدات، حيث أن إنشاء جهاز مركزي لتنسيق جهود التبرعات والمبادرات أمر ضروري لضمان عدالة التوزيع وتكامل العمل الأهلي. فالهدف ليس السيطرة، بل توجيه الجهود نحو الاحتياجات الحقيقية ومنع تكرار الأنشطة في مناطق دون أخرى. غياب هذا الجهاز يؤدي إلى ضعف الأثر وضياع الموارد، رغم وجود دور محدود لمكتب الشؤون الإنسانية حالياً، إلا أنه لا يحقق التنسيق المطلوب بالشكل الكافي.
أما المستشار الإعلامي “نضال ناصيف” وهو مطلع على عمل بعض المبادرات في ديرالزور، قال أنه لا يمكن لأي جهد محلي أن يسد الفجوة الكبيرة الناتجة عن غياب الدولة، هذه المبادرات تشبه الضماد السريع لوقف نزيف طارئ، لكنها لا تعوّض عن غياب الطبيب أو المشفى أو سيارة الإسعاف أو غرفة العمليات، ولو جمعنا كل المبادرات التي أُطلقت في دير الزور، فلن تعادل حتى قيمة السيارات الفاخرة التي اقتناها النظام من أموال السوريين وعثر عليها الثوار في قصور آل الأسد.
ويضيف ناصيف أنه من التحديات التي تواجه المبادرات الأهلية هو استغلال بعض المجرمين وأتباع النظام السابق للمبادرات كوسيلة للتسلق وتلميع صورتهم وتوجيه بعض المبادرات إلى أماكن غير مناسبة، فقط لإرضاء رغبات بعض الداعمين، بالإضافة لاعتقاد بعض المسؤولين في دير الزور والمناطق المهمشة بأن المبادرات كافية، ما يؤدي لتقاعسهم عن المطالبة بحقوق محافظاتهم من حكومة المركز، وإن الاستمرار بالاعتماد على هذه المبادرات يستهلك طاقة الفئة المغتربة، وقد يؤدي مع الوقت إلى نفورها من العمل الوطني، وولادة مشاعر الغضب وعدم الرضا تجاه الدولة.
تجربة حكومة الإنقاذ في إدلب وإمكانات التعميم
إن هذا التفاوت المستمر بين أولويات دمشق والمحافظات الأخرى يؤكد أن استنساخ تجربة الإنقاذ في إدلب أو تعميمها على كامل البلاد يظلّ بعيد المنال ما لم تُستكمل عملية هيكلة المؤسسات وتبني معايير إنصاف تنموية صريحة تضمن توزيعاً عادلًا للموارد.
تأسَّست حكومة الإنقاذ السورية في إدلب خلال أواخر 2017 لسد الفراغ الإداري والخدمي في المحافظة وريفها، بعدما فشلت تشكيلات المعارضة السابقة في تأسيس إدارة مركزية فعّالة. وقد نجحت هذه الحكومة نسبياً في إعادة افتتاح المشافي والمدارس، وتجميع موارد محلية لصيانة شبكات المياه والكهرباء، وإنشاء أكاديمية للشرطة.
إلا أن هذه التجربة لم تَنضج بعد إلى نموذج يمكن تعميمه على كامل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أو حتى على المحافظات الجنوبية والشرقية؛ لأسباب جوهرية منها:
الارتباط بفصائل مسلحة:
تُدار الحكومة عملياً عبر شبكات «هيئة تحرير الشام»، ما يجعل استقلال مؤسساتها شكلياً أكثر منه حقيقياً.
غياب الشرعية الوطنية والتوافق المجتمعي:
لا تحظى حكومة الإنقاذ بشرعية ناتجة عن توافق سياسي أو اجتماعي واسع، بل ارتبطت بنشأتها بجهات عسكرية محددة، مما حدّ من قدرتها على تمثيل جميع مكونات المجتمع شمال سوريا, وأضعف من إمكانية بناء نموذج إداري جامع.
انعدام الانفتاح على الكفاءات غير المرتبطة بالفصائل:
طغت الاعتبارات الأمنية والفصائلية على اختيار الكوادر الإدارية، مما أدى إلى تهميش العديد من الخبرات المحلية والمهنية المستقلة، وهو ما أضعف أداء المؤسسات وأفقدها التنوّع والكفاءة.
ضعف الشفافية والمساءلة:
لا توجد آليات رقابة مستقلة تضمن الشفافية في إدارة المال العام أو في تنفيذ المشاريع الخدمية، الأمر الذي خلق فجوة ثقة بين الحكومة والسكان المحليين، خاصة في ظل اتهامات بالفساد والمحسوبية.
الاعتماد شبه الكامل على التمويل المحلي:
بالرغم من بعض النجاحات في تجميع الموارد الداخلية، إلا أن غياب قنوات تمويل دولية مستدامة حدّ من قدرة الحكومة على توسيع مشاريعها وتحقيق استقرار خدمي واقتصادي حقيقي.
الهشاشة الأمنية وتقاطع مناطق النفوذ:
تعاني المنطقة من حالة عدم استقرار أمني دائم بسبب تضارب المصالح بين فصائل العسكرية منفلتة خارج إطار المؤسسة العسكرية، ما ينعكس سلباً على جهود بناء مؤسسات مستقرة وفعالة.
بالمقابل، لم تكلف الحكومة السورية نفسها عناء استنساخ أو دراسة الجانب الإيجابي في تجربة إدلب لإطلاق خطة إصلاح شاملة في بقية المحافظات، عدا دمشق التي بقيت محور الاهتمام الرسمي، ولم تصدر أي وثيقة حكومية تشير إلى الاستفادة من التجربة الإدلبية لتطوير إدارة محلية جديدة أو تحديث آليات التمويل الذاتي في ظل الدولة السورية الجديدة.
غياب هذا التفاعل لا يُفسَّر فقط بالإهمال، بل يعكس نمطاً تقليدياً في آليات صنع القرار، يقوم على تجاهل التجارب التي نشأت خارج الإطار المركزي أو تلك التي لا تخضع للسلطة المباشرة للدولة، فعلى الرغم من أن مؤسسات الدولة تمرّ بمرحلة ما بعد الحرب، وما يرافقها من حاجة لإعادة التأسيس المؤسساتي، لم تصدر حتى اليوم أي وثيقة حكومية رسمية تشير إلى نية الاستفادة من التجربة الإدلبية أو مقارنتها مع نماذج إدارة محلية في مناطق أخرى.
لماذا لم تُستفد الحكومة من تجربة حكومة الإنقاذ في إدلب؟
يشير الناشط المجتمعي “اسحق الأيوب” أنه وبالرغم نجاح حكومة الإنقاذ في إدارة بعض الملفات الخدمية، لم تحاول الحكومة المركزية الاستفادة من تجربتها، ربما لأسباب سياسية أو لعدم تقبل فكرة الشراكة المجتمعية الحقيقية، إلا أن الواقع يفرض الاعتراف بدور المجتمع المدني كفاعل رئيسي في المرحلة القادمة، فهو يملك شرعية شعبية وأخلاقية، ويتميّز بالمرونة والقدرة على الاستجابة، ما يجعله شريكاً أساسياً في بناء دولة حديثة قائمة على العدالة والتشاركية، بعيداً عن مركزية السلطة وأساليب الحكم التقليدية.
ويضيف أن البلاد بحاجة ملحّة لوضع استراتيجية وطنية تأخذ بعين الاعتبار التوازن الجغرافي والعدالة التنموية. دير الزور، رغم غناها بالنفط والقمح، لم تحظَ بأي استثمار تنموي حقيقي طوال السنوات الماضية، ما جعلها مستودعاً للثروات دون مقابل، معتبرًا أن تصحيح هذا الخلل يتطلب توزيعاً عادلاً للموارد، وتمكين المحافظات المهمّشة من المساهمة الفعالة في الاقتصاد الوطني، لتفادي عواقب اجتماعية وسياسية وخيمة مستقبلاً.
أما فيما يتعلق بتجاهل بعض التجارب الناجحة، فقد قال الناشط “محمد أبو القاسم”: “ربما يعود السبب إلى التنوع الجغرافي وتوزّع المحافظات، أو لاعتقاد البعض بأن تعميم تجربة إدلب قد لا يكون قابلاً للتطبيق في باقي المناطق. أتذكر أن السيد أحمد الشرع، في بداية تولّيه المسؤولية، صرّح بأن من غير الممكن تطبيق تجربة إدلب بالكامل على سوريا. وقد تكون الضغوط السياسية والاقتصادية والعقوبات المفروضة قد أعاقت تبنّي بعض الأدوات التي أثبتت نجاحها في الشمال السوري. فالوضع الاقتصادي الضعيف والتفكك الداخلي الكبير، يدفعان الحكومة اليوم إلى محاولة كسب ثقة المجتمعين العربي والدولي، في مسعى لرفع العقوبات وإنعاش خزينة الدولة”.
ويضيف: “أؤمن بأهمية وجود استراتيجية فعالة وعادلة لإعادة الإعمار، لا تقوم على المحاصصة أو التمييز، بل تستند إلى العدالة والاحتياجات الفعلية، حتى نتمكن جميعاً من إعادة تأهيل المدن والمحافظات بشكل منظم وصحيح”
وأكد أبو القاسم على أهمية وجود مراكز موثوقة في القرى والمدن، ذات طابع اجتماعي وتحظى بثقة السكان، لتقوم بتنظيم العمل وتحديد الأولويات بما يخدم الناس بشكل مباشر وسريع, للأسف، في غياب هذه المراكز، كان العمل غير منظم بالشكل المطلوب، وغابت عنا أولويات لم نكن على دراية بها، وربما لو وُجدت هذه المراكز فعلياً على الأرض وزودتنا بالمعلومات، لكانت نسبة النجاح أعلى بكثير
سوريا الدولة بعد الثورة والحرب
في سياق الحديث عن الدول الخارجة من صراعات أو كوارث، مثل سوريا تبرز حاجة البلاد المُلحّة إلى استراتيجية وطنية متوازنة لإعادة الإعمار منعاً للتهميش وتعزيزاً لعملية العدالة الاجتماعية، إذ أن الاستراتيجية الوطنية لم تكن متوازنة، فقد يتم التركيز على مناطق معينة دون غيرها، مما يؤدي إلى تهميش فئات أو مجتمعات والتوازن يضمن توزيعاً عادلاً للموارد والمشاريع بما يحقق العدالة بين كافة مكونات المجتمع.
كما أن الاستراتيجية الوطنية المتوازنة تُظهر للمواطنين أن الدولة تهتم بجميع المناطق والمجتمعات، ما يعزز الثقة بالدولة ويقلل من احتمالات النزاع مستقبلاً وتشجع العودة الطوعية للنازحين واللاجئين وتجذب الاستثمارات الدولية إذ أن المانحين والمستثمرين يفضلون الدخول في بيئات تُظهر شفافية وعدالة في إدارة عمليات الإعمار.
ويرى السيد “اسحق الأيوب” أن الحاجة ملحّة لوضع استراتيجية وطنية تأخذ بعين الاعتبار التوازن الجغرافي والعدالة التنموية، فمحافطة دير الزور، رغم غناها بالنفط والقمح، لم تحظَ بأي استثمار تنموي حقيقي طوال السنوات الماضية، ما جعلها مستودعاً للثروات دون مقابل وإن تصحيح هذا الخلل يتطلب توزيعاً عادلاً للموارد، وتمكين المحافظات المهمّشة من المساهمة الفعالة في الاقتصاد الوطني، لتفادي عواقب اجتماعية وسياسية وخيمة مستقبلاً.
ومن جانبه قال السيد “نضال ناصيف”: إن وجود استراتيجية وطنية هو من البديهيات, عندما سقطت اليابان ودُمّرت بالكامل، كان أول إجراء حكومي هو الاجتماع لوضع خطة نهوض من تحت الركام. شملت تلك الخطة بناء الإنسان إلى جانب المباني، وتوزيع التنمية بعدالة، وجعل كل ولاية كأنها عاصمة، فبدأوا ببناء المدارس قبل قصور الولايات، وهو ما نفتقده اليوم في سوريا.
ولمعالجة التحديات التي تعيق إعادة الإعمار في سوريا، يمكن اعتماد مجموعة من التوصيات العملية التي تركز على التوازن في توزيع الموارد وتحسين آليات التنفيذ.
أولى الخطوات المقترحة هي إعداد استراتيجية وطنية واضحة تحدد أولويات الإعمار وتوزع الميزانيات بشكل عادل بين المحافظات، بعيداً عن أي تمييز سياسي أو جغرافي، على أن تستند هذه الاستراتيجية إلى بيانات دقيقة تعكس احتياجات كل منطقة، كما أن إشراك المجتمع المدني، بما يشمله من خبرات أكاديمية ومحلية، يمكن أن يسهم في تحسين جودة التخطيط والتنفيذ، شريطة أن يتم ذلك ضمن إطار تنظيمي واضح يحافظ على دور الدولة في الرقابة والإشراف.
وفي جانب التمويل، يُقترح تأسيس هيئة مركزية لإدارة التبرعات والمساعدات، تلتزم بسياسات مالية منظمة تمنع التداخل في الصلاحيات وتضمن توزيع الموارد بشكل فعّال، ويمكن أيضاً الاستفادة من تجربة “حكومة الإنقاذ” في إدلب، من خلال تحليلها بشكل موضوعي عبر لجنة فنية مستقلة، بهدف استنباط دروس قابلة للتطبيق في سياقات أخرى، ولضمان جودة التنفيذ، من المهم إنشاء لجان رقابية تجمع بين ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني، تُشرف على تنفيذ المشاريع وتتحقق من التزامها بالمعايير الفنية والإدارية، ما يعزز الشفافية ويزيد من ثقة السكان بجهود الإعمار.
ختاماً، إن تحقيق تنمية متوازنة في سوريا يتطلب تجاوز السياسات المركزية التي ركزت على العاصمة على حساب المناطق الأخرى من خلال وضع استراتيجية وطنية تضمن تعزيز التعاون بين الحكومة والمجتمع المدني، ما يُمكّن تحقيق تنمية عادلة تشمل جميع المحافظات، وتساهم في إعادة بناء سوريا على أسس من العدالة والتوازن فإن تجاهل هذه التوصيات لا يعني فقط تفويت فرصة للإصلاح، بل أيضاً ترسيخ واقع يفتقر للعدالة والاتساق.
إن بناء سوريا المستقبل يبدأ من الإيمان بأن الإنصاف في التنمية هو حجر الأساس لوحدة وطنية حقيقية. فحين يُنظر إلى دير الزور كما يُنظر إلى طرطوس، وتُعامل الحسكة كما تُعامل القنيطرة، نكون قد وضعنا أول لبنة في مشروع وطني جامع، يقوده عقل راجح وإرادة سياسية مؤمنة بأن كل شبر من هذا الوطن يستحق الحياة والاهتمام والتطور.