تبدو “إسرائيل” وكأنها تتطبّع ضد طبعها وتحاول التأقلم مع سيرورة رفع العقوبات الغربية والأمريكية والأوروبية عن سوريا الجديدة، ورغم التغيير النسبي في اللهجة والصمت، وعدم إعلان موقف واضح وعلني من مسألة رفع العقوبات، إلا أن موقع “أكسيوس” الأمريكي الوثيق الصلة والحسن الاطلاع في واشنطن وتل أبيب نقل الأسبوع الماضي عن مصادر مطلعة أن “إسرائيل” طلبت من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدم رفع العقوبات عن سوريا.
وحسب مصادر الموقع فإن “إسرائيل” تفضّل حالة عدم الاستقرار في سوريا لمنع أي تهديد محتمل ضدها مماثل لما جرى بـ7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بغزة، إضافة إلى قناعة الدولة العبرية إن رفع العقوبات سيؤدي إلى زيادة الحضور التركي المعادي في سوريا الجديدة والمنطقة ما ينعكس سلباً على حضورها ونفوذها.
تجاهل ترامب بالطبع هذا الطلب الإسرائيلي غير المنطقي، بل ووصل إلى حد إعلان رفع العقوبات من الرياض منتصف مايو/ أيار الجاري حتى دون إبلاغ تل أبيب مسبقاً، ما خلق سيرورة أدت إلى خطوة مماثلة من الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء الماضي، دون أي اعتبار للموقف غير المتعقل للدولة العبرية المستلبة للقوة والخيار العسكري، والتي أقصت نفسها عن سيرورة التغيير في سوريا والمنطقة.
إذن، وحسب مصادر موثوقة أمريكية وإسرائيلية وثيقة الصلة فقد طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أثناء زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض نيسان/ أبريل الماضي من الرئيس ترامب عدم رفع العقوبات عن سوريا الجديدة، وإبقاء حالة عدم الاستقرار فيها في مقاربة غبية منفصلة عن الواقع والتطورات في المنطقة حيث طرحت “إسرائيل” سلة أسباب أمنية وسياسية كعادتها غير واقعية وغير متعقلة بالطبع.
وبدا المطلب الإسرائيلي خارج أي منطق، والمغزى كان إبقاء حالة عدم الاستقرار في سوريا الجديدة بحجة إزالة أي تهديد محتمل ضد الدولة العبرية من الأراضي السورية مماثل لما جرى في غزة في 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023.
تبدو المقارنة غير منطقية وغير متعقلة حسب التعبير الذي استخدمه ترامب بمواجهة نتنياهو مباشرة بزيارته الأخيرة للبيت الأبيض، والخلفية هنا هي استغلال التعاطف مع “إسرائيل” بعد هجمات أكتوبر لتحقيق مكاسب وابتزاز الدعم والتأييد الدولي والغربي تحديداً لمقاربتها بحجة عدم تكرار الهجمات على جبهات أخرى.
الأمر هنا مماثل للمحرقة النازية التي تعاطت معها “إسرائيل” بانتهازية ونفاق إلى أبعد درجة لتحقيق سلة مكاسب نفسية وسياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية رغم إن لا تشابه بين الحالتين أبداً، ناهيك عن إن “إسرائيل” نفسها تقول أنها قامت بإجراءات واستعدادات عسكرية ولوجستية واستراتيجية كي لا تتكرر هجمات 7 أكتوبر.
علماً أن توغلاتها وهجماتها وممارساتها في سوريا الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد تتجاوز هذا الأمر إلى الجشع والتوسع، وخلق وقائع على الأرض وطرح اشتراطات مستحيلة وبسقف عالي لحيازة أكبر قدر ممكن من الأوراق لابتزاز القيادة في سوريا الجديدة وداعميها من العرب والأتراك والمجتمع الدولي.
من هذه الزاوية أيضاً تعرف تل أبيب ما نعرفه جميعاً عن ترك نظام الأسد وراءه أرض مدمرة ومحروقة، وسوريا الجديدة تحتاج إلى سنوات طويلة وحتى عقود لإعادة بناء ما دمره النظام، وهي ليست بوارد تهديد أحد، وغير قادرة حتى لو أرادت مع الالتزام باتفاقية فك الاشتباك مع تل أبيب 1974 وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة التي تنتهكها “إسرائيل” بشكل منهجي.
ومن زاوية أخرى يظهر التمعن في رفض تل أبيب رفع العقوبات ليس فقط عدم العقلانية وإنما نسف كل الخطاب الإسرائيلي الدعائي عن واحة الديموقراطية بالمنطقة وعدم إعطاء الفرصة للشعب السوري بتقرير مصيره بنفسه والمضي قدماً دون عقوبات وعراقيل في عملة بناء سوريا الجديدة. ما يفسر أيضاً موقف “إسرائيل” المعادي لسيرورة التحول الديموقراطي في العالم العربي.
برهان آخر على النوايا الإسرائيلية وسعيها المنهجي لمنع بناء الدولة السورية الجديدة، يتبدى في الغارات والهجمات غير المشروعة على مقدرات ومكامن قوة سوريا واللعب بل المتاجرة بورقة الأقليات وطرح أفكار انفصالية وتقسيمية ولو بأسماء حركية من قبيل الفدرالية وأقاليم حكم ذاتي وهي خطط “إسرائيل” ورغم أنها مستحيلة التطبيق لكنها تخدم هدفها كي تبقى الفوضى وعدم الاستقرار بسوريا الجديدة.
في السياق التركي، نجد المنحى الانتهازي المنافق نفسه، حيث اعتبر نتنياهو أن رفع العقوبات يمثل مكسبًا خاصًا لتركيا كما سيرورة بناء سوريا الجديدة، كون زيادة وتقوية الحضور التركي بظل السياسات المتبعة من قبل أنقرة يصب ضد المصالح الاستراتيجية كما تتخيلها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية.
هنا يجب توضيح السياسات التركية تجاه تل أبيب وحكومتها الأكثر تطرّفاً، والتي فقدت دعم حتى الحاضنة الغربية الداعمة التاريخية لها حيث تعترف أنقرة بالدولة العبرية وتدعم المبادرة العربية للسلام وحل الدولتين وموقفها الرافض لجرائم الحرب بغزة والممارسات الإسرائيلية الحربجية بسوريا ولبنان والمنطقة تدعمه العواصم العربية الكبرى وحتى الدولية بما فيها تلك الداعمة التقليدية لإسرائيل.
في الاتجاه العربي تتجاهل حكومة نتنياهو كذلك كل المواقف العواصم العربية الداعمة والحاضنة بقوة لسيرورة قيام سوريا الجديدة ما يناقض وبهدم الرغبة المزعومة للدولة العبرية في التطبيع ونسج علاقات جيدة مع المحيط العربي.
ولا يقل أهمية عما سبق، تجاهل الرئيس ترامب ثم الاتحاد الأوروبيي للمقاربة والمواقف الإسرائيلية وإعلان رفع العقوبات دون إبلاغ تل أبيب مسبقاً في انحياز واضح إلى السيرورة الجديدة والمصالح المشتركة مع تركيا والدول العربية ضمن فهم حقيقي لأهمية دعم بناء سوريا الجديدة حيث الاستقرار فيها مهم فعلاً للمنطقة والعالم، كما قال الرئيس أحمد الشرع حرفيًا.