في خطوة دبلوماسية بارزة تشير إلى تحوّل لافت في علاقات دمشق مع الرباط، أكدت مصادر دبلوماسية مغربية لوكالة “ماب” الرسمية أن السلطات السورية أغلقت مقار جبهة “البوليساريو” في دمشق، وذلك بحضور ممثلين عن الحكومة المغربية ومسؤولين سوريين كبار.
الخطوة التي تأتي في سياق التحضيرات لإعادة فتح السفارة المغربية في سوريا، ولم تُعلن رسميًا من قبل الحكومة السورية، لكنها عُدّت على نطاق واسع بمثابة إنهاء فعلي لدور الجبهة الانفصالية في العاصمة السورية بعد نحو 44 عامًا من الدعم السياسي الرمزي.
ونقلت الوكالة المغربية عن ذات المصادر أن هذه الخطوة تعبّر عن التزام دمشق باحترام وحدة الأراضي المغربية ورفضها لأي شكل من أشكال دعم الكيانات الانفصالية، كما تعكس الرغبة السورية في تعزيز الاستقرار الإقليمي وبناء علاقات ثنائية قوية مع المغرب في مرحلة ما بعد الحرب.
الخطوة السورية اعتبرها وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أنها “إعادة تصويب دبلوماسي يخدم الاستقرار في المنطقة” ويمهد لتنفيذ اتفاقات تعاون اقتصادية وأمنية بين البلدين.
ويأتي هذا القرار في سياق استعداد المغرب لإعادة فتح سفارة له في دمشق بعد انقطاع دبلوماسي دام أكثر من 13 عامًا، فيما اعتبره مراقبون ترجمة فعلية لبيان الملك محمد السادس في قمة بغداد بشأن تعزيز “أواصر الأخوة والتعاون” بين البلدين، والتشديد على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا الترابية وسيادتها الوطنية.
يشير هذا التحول إلى نهاية مرحلة كانت تتسم بالتعاطف مع الحركات الانفصالية وبداية نهج سياسي أكثر انفتاحًا، في وقت باتت الدول تُعيد ترتيب أولوياتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية كأساس لمواقفها الدبلوماسية، وهو ما يفسر تنامي الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل عملي للنزاع في الصحراء.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى سياق الاعتراف السوري بـ “الجمهورية الصحراوية” في أبريل 1980، كانت دمشق ثاني دولة عربية تمنح هذا الاعتراف بعد الجزائر، في زمن كان فيه التوتر بين المغرب وجارته الشرقية على أشده بشأن ملف الصحراء.
مسمار جيوسياسي
تبدو مرحلة جديدة من التقارب بين دمشق والرباط قد بدأت، بعد أكثر من عقد من “التباعد البارد” الذي ساد العلاقات في ظل حكم الأسد، بينما تضع هذه الخطوة العلاقات السورية – الجزائرية في اختبار حقيقي، لكون الجزائر الراعية التقليدية لجبهة البوليساريو ستجد نفسها أمام واقع دبلوماسي جديد، قد يزيد من حدة صراعها المستمر مع الرباط حول النفوذ الإقليمي.
خلال العقدين الأخيرين، حدثت تطورات جمة رسمت المسار السياسي السوري، بما في ذلك الحرب الأهلية الطاحنة التي اندلعت في مارس 2011، وما تلاها من تغييرات دفعت دمشق إلى إعادة تقييم مواقفها التقليدية إزاء مختلف الملفات، دون استثناء ملف الصحراء، الذي بات اليوم مسمارًا جيوسياسيًا في علاقة دمشق بالجزائر.
يتفق محللون على أن قرار دمشق إغلاق مكاتب جبهة البوليساريو لا يمكن قراءته بمعزل عن سلسلة مراجعات استراتيجية تقودها القيادة السورية الجديدة، التي باتت تعتمد مقاربة برغماتية تستند إلى المصالح الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، مبتعدة بذلك عن الإرث الأيديولوجي السابق.
وحتى الآن لم يصدر تعليق رسمي من الجانب الجزائري، وتجاهلته وسائل إعلامه، في حين تصدر الخبر عناوين وسائل إعلام مغربية، التي توقعت أن تشهد المرحلة المقبلة زيارات رفيعة المستوى متبادلة وتوقيع اتفاقيات تشمل مجالات إعادة الإعمار والاستثمار الفلاحي والطاقة المتجددة، وإحياء اتفاقيات مجمدة منذ عام 2011، أبرزها مذكرة تفاهم لإقامة منطقة تجارة حرة وقعت في أكتوبر 2001.
بفضل هذا التقارب، يأمل المغرب أن يحظى بفرص أكبر للفوز بعقود لإعادة بناء موانئ اللاذقية وطرطوس وخطوط النقل الداخلي، مستفيدا من خبراته التقنية والمالية في مشاريع مماثلة بإفريقيا.
في المقابل، توفر سوريا سوقًا استهلاكية واعدة، وبوابة للمغرب نحو المشرق العربي، فضلًا عن رصيد من الكفاءات والموارد الطبيعية.
في الزراعة، رغم أن السوريين يمتلكون أراضٍ زراعية خصبة تاريخياً، فإن سنوات الصراع أحدثت خللاً إنتاجيا؛ وهنا قد يساهم المغرب بمعرفته الميدانية في تقنيات الري الموفر للمياه وتنويع المحاصيل، إلى جانب توفير الأسمدة الفوسفاتية التي تعدّ المملكة المصدر الأكبر عالمياً لها.
جبهة موحدة ضد الإرهاب
أمنيا، يجمع البلدين اهتمامًا مشتركًا بمواجهة التطرف والإرهاب، فكلاهما واجه في السنوات الماضية هجمات وتحديات أمنية متطرفة، حيث من المنتظر أن يسهم التعاون في هذا المجال، من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعزيز التنسيق في مواجهة الشبكات الإجرامية العابرة للحدود، في دعم جهود البلدين لحفظ الأمن وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
من جانبها، نجحت الأجهزة الأمنية المغربية في التصدي المبكر للتهديدات الإرهابية بتفعيل منظومة استباقية للدعاية المتطرفة وتعزيز المراقبة الحدودية، إلى جانب تطبيق قوانين صارمة في مواجهة العائدين من بؤر التوتر.
بينما على الجانب السوري، تواجه الإدارة الجديدة ملف المقاتلين الأجانب باعتباره “أحد الأعباء الأكثر تعقيدا” على استقرار البلاد، حيث تظهر الخطوات المعلنة من جانب دمشق رغبة واضحة في ضبط معسكرات المقاتلين وإعادة دمج المتورطين حسب المعايير الأمنية الجديدة.
كما قد يفتح التقارب بين البلدين الباب أمام تدريبات مشتركة وتبادل خبرات في قوات الأمن ودوريات الحدود، بما يكفل حماية المصالح المشتركة ضد أي خطر إرهابي محتمل.
وفي تعليقه على هذه الخطوة، وصف وزير الإعلام المغربي السابق، مصطفى الخلفي، المبادرة بأنها “موقف نبيل من القيادة السورية”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن “عناصر من جبهة البوليساريو سبق أن شاركت في القتال إلى جانب نظام الأسد”.
وقبل شهور، اتهمت وكالة الانباء الجزائرية السلطات المغربية بترويج أخبار زائفة عن وجود مئات من الجنود الجزائريين وعناصر من البوليساريو في سوريا، حيث كانوا يقاتلون إلى جانب نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، بينما لم يصدر أي رد رسمي من المغرب.
في ذات السياق، أفادت إذاعة مونت كارلو الدولية، نقلا عن مراسلها في سوريا، أن الرئيس السوري أحمد الشرع رفض طلبا تقدم به وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، بالإفراج عن عسكريين جزائريين من رتبة لواء وحوالي 500 جندي جزائري ومقاتل من جبهة البوليساريو، كانوا يقاتلون في صفوف النظام السوري السابق.
انعطافة في التوازنات
يشكل هذا الموقف السوري انعطافة في التوازنات الإقليمية، بالنظر إلى أن الجزائر ظلت تراهن على موقف دمشق كواحد من آخر الحلفاء العرب الذين لا يعترفون بسيادة المغرب على الصحراء، في ظل تقلص تدريجي لعدد الدول الداعمة للبوليساريو.
وإذا كانت الرباط قد كسبت نقطة إضافية في ساحة الصراع الدبلوماسي، فإن هذا القرار السوري قد لا يمر دون تداعيات على علاقات دمشق مع قصر المرادية، خاصة أن الجزائر تعيش مرحلة توتر مكتوم مع دول، مثل فرنسا وإسبانيا، بسبب إعلانها دعما صريحا لمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
بالتالي، من المرجح أن تتسع دائرة الدول التي سترى في موقف دمشق سابقة تستند إليها لإعادة النظر في علاقاتها مع “الجمهورية” المعلنة من طرف واحد، بما في ذلك دول عربية تحتفظ بمواقف رمادية من النزاع مثل لبنان والعراق والكويت وسلطنة عمان.