منذ القرن التاسع عشر، شهد مسلمو جنوب آسيا تحولًا في وعيهم الذاتي نتيجة احتكاكهم مع الأفكار الأوروبية في ظل الاستعمار، ومع أفول الدولة المغولية بالهند في أوائل القرن الثامن عشر، نشأت مئات الإمارات المستقلة التي تحالفت تدريجيًا مع البريطانيين، لا سيما بعد أن أحكموا سيطرتهم على الهند في منتصف القرن التاسع عشر.
تُعد إمارة بوبال وسط الهند من أبرز تلك الإمارات، وقد حكمتها أربع نساء، أشهرهن سِكندر بيغم والتي أدت فريضة الحج عام 1864م وأقامت في الحجاز لمدة ستة أشهر، موثقة تجربتها في كتابها “مذكرات رحلة حج لأميرة بوبال”، وهو أول عمل منشور عن الحج تكتبه امرأة هندية.
قدمت بيغم في روايتها سردًا نقديًا لتجربة حجها، وعبرت عن انطباعاتها الخاصة تجاه مكة وسكانها، متناولة الأوضاع الدينية والاجتماعية والسياسية بجرأة، وتشكل مشاهداتها صورةً حية للحياة في الحجاز في تلك الحقبة، قبل أن تُحدث وسائل النقل الحديثة تحولًا جذريًا في تجربة الحج خلال القرن العشرين.
من الهند إلى جدة
وُلدت سِكندر بيغم في أغسطس 1818، وحظيت بتعليم متميز أهلها للتفوق في ميادين الإدارة والسياسية. وخلال الثورة الهندية عام 1857، وقفت إلى جانب البريطانيين، مما أكسبها دعمهم السياسي لاحقًا.
تميز عهدها بحزمة من الإصلاحات المالية والعسكرية والاجتماعية، إذ نجحت في سداد ديون الإمارة، وأصلحت نظام الإيرادات والقضاء، وطورت الشرطة ووسائل النقل والتعليم والإدارة المدنية في بوبال، كما أنشأت مستشفيات ومدارس وركزت على تعليم النساء، وغيرت اللغة الرسمية لمدينة بوبال من الفارسية إلى الأردية، ويُجمع كثيرون على أن عهدها كان بمثابة العصر الذهبي لبوبال.
رغم انخراطها في شؤون الحكم والإصلاح، كانت بيغم ترى نفسها امرأة متدينة، تحافظ على أداء الصلوات الخمس يوميًا، وتُكن رغبة صادقة في أداء فريضة الحج، وقد عبرت عن شعورها بالانتماء إلى الأمة الإسلامية، معتبرة الحج تتويجًا لهذا الانتماء.
في أواخر حياتها، عزمت بيغم على أداء فريضة الحج، وقبيل مغادرتها بوبال، قصدت مسجد “مَمُولا صاحبه” القريب من قصرها، فصلت فيه ركعتين، وتلت آيات من القرآن الكريم وأدعية، ثم توجهت إلى بستان فَرحَت أَفزا، وأمضت فيه يومين أنهت خلالهما المهام العاجلة للإمارة، وأجرت الترتيبات النهائية لرحلة حجها.
بدأت بيغم رحلة حجها في 22 جمادى الأولى 1280 هـ/ 5 نوفمبر 1863م، بصحبة قافلة ضمت حوالي 1500 حاج من أهل بوبال، غالبيتهم من النساء بمن فيهم والدتها. انطلقت القافلة أولًا إلى مومباي، ثم أبحرت عبر ثلاث سفن مستأجرة، حاملة معها مؤنًا تكفيهم لعام كامل، إضافة إلى حلي ومجوهرات وملابس خصصتها بيغم للتصدق بها على فقراء مكة والمدينة.
استغرقت رحلة بيغم من مومباي إلى جدة عبر المحيط الهندي أربعة أشهر، دون أن تعترضها عواصف أو صعوبات تذكر، ووصلت ميناء جدة في 13 شعبان/ 23 يناير 1863م.
لما دخلت المدينة في اليوم التالي، رأت البيوت مضاءة بالمصابيح والقناديل، فيما أصوات الطلقات النارية تملأ الجو، وعندما استفسرت عن سبب هذا الاحتفال، أخبرها بعض السكان أنه بمناسبة عيد ميلاد السلطان العثماني، فيما أكد آخرون أنه احتفال بليلة البراءة، أي ليلة النصف من شعبان.
أقامت بيغم في نُزُلٍ بسيط يتكون من غرف مربعة تُشبه خيام الجيش، لكنها مُشيدة من سَعَفِ النخيل، وتتميز بفتحات تهوية في الجدران دون الأسقف، لحجب حرارة الشمس عن الداخل، وكان هذا النمط من العرائش يُستخدم لإيواء جميع الحجاج، مع تخصيص أجزاء منها مفروشة بشكل فاخر لاستقبال الأشراف والنبلاء.
وفي جدة، أبدت بيغم إعجابها بالحلويات المحلية، كالمربيات والكعك المحشو بالفواكه، في المقابل، لاحظت معاناة السكان من ندرة المياه الصالحة للشرب، إذ كانوا يجلبونها من خزانات تبعد حوالي ميل ونصف عن المدينة.
وأخيرًا غادرت بيغم جدة متجهة نحو وادي ذي طُوَى، حيث استقبلها نحو ثمانين إلى تسعين مشاة وستين إلى سبعين فارسًا، لكنها اعتذرت عن مواصلة الرحلة معهم، مشددة على رغبتها في ألا تواصل طريقها إلى مكة قبل أن تغتسل في بئر ذي طوى طبقًا للسنة.
في رحاب مكة
وصلت بيغم إلى مكة مع قافلة الحجاج عند صلاة العشاء يوم 17 شعبان 1280هـ/ 27 يناير 1864م، وكانت أصداء الأذان تتردد في أرجاء المدينة. دخلت المسجد الحرام من باب السلام، وتوقفت عند مقام إبراهيم تتأمل بخشوع، ثم تلت الأدعية المأثورة، وأدت طواف القدوم، تبعته بالسعي بين الصفا والمروة، قبل أن تتجه إلى المنزل الذي استأجرته للإقامة خلال فترة تواجدها في مكة.
يتضح من رواية بيغم أنها لم تعش تجربة روحانية عند وصولها إلى مكة، إذ خالفت أغلب الحجاج الذين يصفون انفعالاتهم لحظة رؤية الكعبة وأداء المناسك، ونادرًا ما عبرت عن مشاعر دينية أو تأملات وجدانية، بل انصب تركيزها في المقام الأول على نقد الجوانب الاجتماعية والثقافية المصاحبة لموسم الحج.
سجلت بيغم انطباعاتها عن مكة، متناولة طيفًا واسعًا من المواضيع، من الحلويات والخيول إلى الطقس والخضروات وطواحين الهواء، إضافة إلى الحمامات الفخمة المخصصة للرجال والنساء على حدة، عبّرت عن آرائها بكل حرية، مبدية إعجابها بالخيول التي وصفتها بالأصيلة والغالية الثمن، كما أذهلها ضوء القمر في مكة، وأبدت إعجابها بالسجاد والأرائك التي تزين منازل مكة، وتقول:
“مكة ليست باردة، لكن ترتفع درجة حرارتها قبل طلوع الشمس بساعة مثل ارتفاع الحرارة في ساعات النهار، وضوء القمر رائع جميل في مكة لِخُلُو جوها من الرطوبة وخلو سمائها من الغيوم، وصفاء أفقها وخلوه من الملوثات”. صـ 168.
تذكر بيغم أن الأذان يُرفع في مكة خمس مرات يوميًا كما في الهند، لكن أهل مكة يضيفون أذانًا آخر يُرفع ليلًا، وعند غروب الشمس يدعون الله و يمجدونه، أما عند طلوع الشمس فيؤدون ذكرًا خاصًا يتلون خلاله آيات من القرآن وأحاديث عن النبي محمد والخلفاء الأربعة.
وأشارت بيغم إلى أن أهل مكة يربون الإبل بكثرة، إلى جانب الأبقار والماعز والأغنام، مع غياب الجواميس، كما لاحظت أن الحمير والبغال سريعة الحركة لكنها تُعلف بشكل محدود، ولاحظت أيضًا انتشار واسع للكلاب والقطط والحشرات.
كما تروي أن أهل مكة يستهلكون كميات كبيرة من اللحم والشاي والسمن المصنوع من حليب الأبقار والأغنام، وأشارت إلى أن البدو يأكلون طعامهم نيئًا ويفضلون العسل والتمر والسمن ويجمعون الجراد ويأكلونه، كما عبرت عن دهشتها لعدم استخدام الملح في طعام أهل مكة، رغم تنوع المخللات التي يجهزونها.
ووصفت بيوت مكة بأنها متعددة الطوابق وبدون أفنية، كما تناولت حياة أهل مكة وعاداتهم في الطعام واللباس والمسكن، مشيرة إلى أن الرقص والغناء ممنوعان رسميًا في مكة، رغم أن نساء مكة يزغردن ويصفقن ويرقصن في حفلات الزواج.
ناقشت بيغم موضوع المياه في مكة، مشيرة إلى أن بعض الآبار الصالحة للشرب، لكنها نادرة وغالية الثمن، كما يُمنع الفقراء من استخدام الينابيع التي يسيطر عليها الجنود، وتُباع القربة الواحدة من الماء في مكة بنصف قرش، في حين يحصل الرؤساء والنبلاء على حاجتهم من الماء مجانًا، وقد سُمح لبيغم بالحصول على ما تحتاجه من الماء.
أيضًا أشارت بيغم إلى تنوع أزياء أهل الحجاز، فذكرت أن سكان الحواضر يرتدون الملابس التقليدية المعتادة، بينما يرتدي البدو جلود وأغطية بسيطة مع عقال مصنوع من سعف النخيل، وأكدت عدم وجود زي موحد في مكة، حيث يرتدي كل شخص ما اعتاد عليه في بلده.
في ملاحظاتها، رصدت بيغم فروقات واضحة في مستوى المعيشة بين الأغنياء وسائر الطبقات، وقدمت وصفًا تفصيليًا لسوق النخاسة في مكة، موضحة عمليات البيع والشراء وظروف الرقيق من جنسيات متعددة، خاصة الأفارقة والجورجيين، كما بينت دورهم خلال موسم الحج وأعمالهم اليومية مثل التنظيف والطهي وجلب الماء وإشعال المصابيح، وتطرقت أيضًا إلى بعض الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجواري، وتقول:
“سوق النخاسة عامرة في مكة، والمعروضُ من الرجال والنساء من مختلف الجنسيات كثير.. ويباع في هذه السوق عبيد وجواري يأتون إلى مكة في قوافل الحج، فيشتريهم أهل مكة ويبيعونهم للحجاج”. صـ 120.
انتقادات الأميرة: بين خيبة الأمل والرغبة في الإصلاح
يحمل سرد بيغم نظرة نقدية حادة للمجتمع الحجازي، وقد ساهم موقعها كحاكمة لإمارة تبلغ مساحتها تسعة آلاف ميل مربع ويقطنها نحو مليون نسمة، في تشكيل رؤيتها المختلفة للحياة في مكة وسكانها، وفي الواقع، لم تُخفِ بيغم شعورها بالإحباط إزاء التدهور الذي لاحظته في أوضاع مكة.
كشفت روايتها أن خلافاتها مع شريف مكة وباشا جدة لم تكن مجرد نزاعات شخصية، بل كانت تعبيرًا عن صعوبات حقيقية واجهتها مع العادات والتقاليد واللغة، حتى إن شكواها من سوء الفهم المتكرر دفعها إلى اقتراح تعيين مسؤولين من كلا الطرفين لضمان احترام الآداب والسلوكيات الملائمة.
اللافت أنها عبرت صراحة في أحد المواضع عن شعورها بالاغتراب من تقاليد هذه البلاد التي بدت غريبة وبعيدة عن مألوفها، إلى جانب عجزها عن التواصل بفعالية مع من حولها، مؤكدة أنه رغم اشتراكها في الدين مع العرب والأتراك، فإنها لم تجد وسيلة تواصل حقيقية تجمعها بهم، وتقول: “بدأت أتساءل عن جدوى القدوم إلى مكة لأجل العبادة” صـ 126.
مشاكل اجتماعية متنوعة
تعبّر بيغم في روايتها عن نفورها من سلوك السكان المحليين في مكة وجدة، منتقدةً بشدة عاداتهم وممارساتهم، واصفة إياهم بالبخل، وسرعة الغضب، والقسوة، والطمع، بل اتهمتهم بالغباء والكسل.
وشكَت مرارًا من صعوبة التعاملات التجارية وانتشار الرشاوى بين العامة والخاصة في جدة ومكة، وشبهتهم بقبائل همجية في الهند تعتمد على السلب والعنف، مؤكدة أن الغش والخداع تفشى بين الموظفين والأهل بشكل كبير، واعتبرت التسول في مكة أمرًا مقبولًا اجتماعيًا، وتقول:
“سكان مكة أثرياء موسرون، لكنهم يتصفون بصفات البخل والنهم، ولا يستنكفون عن التسول سواءً أكانوا من الطبقة العليا أم كانوا من الطبقة الدنيا، وسواء أكانوا شيوخًا أم شُبانًا، ذكورًا أم إناثًا، صغارًا أم كبارًا، فكلهم شحاذونَ مع تفاوت درجات التسول بينهم، ولا يرضون بما تعطيهم مهما كان”. صـ 112.
كما انتقدت نساء مكة بشدة، ووصفتهن بالصخب وضخامة البنية، ورأت أن سلوكهن يتناقض مع المفاهيم التي تؤمن بها، وقد ركزت انتقاداتها بشكل خاص على ظاهرة الزواج المتعدد الذي رأت فيه أمرًا صادمًا، إذ أشارت بدهشة إلى أن بعض النساء يتزوجن عشر مرات، في حين نادرًا ما تقتصر حالات الزواج على مرتين فقط.
ولفتت إلى أن الزوجة في مكة، إذا كبر زوجها أو رغبت في غيره، تتوجه إلى الشريف تطلب أن تفتدي نفسها من زوجها، ثم تتزوج من آخر، غالبًا لأسباب تتعلق بالعمر أو الوسامة أو المال، إلا أن مثل هذه الزيجات كما لاحظت لا تدوم عادة أكثر من عام أو عامين.
من أكثر المشاهد التي أثارت دهشة بيغم، انتشار بيع وشرب الخمر سرًا في مكة وجدة، وخاصة بين الأتراك والهنود، وهو ما اعتبرته صادمًا وغير متوقع في الأرض المقدسة، كما عبرت عن اشمئزازها من سوق النخاسة في مكة.
ولاحظت كذلك تفاوتًا واضحًا في مستوى المعرفة الدينية، إذ رأت أن سكان المدن يملكون قدرًا من التعليم الديني، في حين رأت أن أهالي المناطق الجبلية يجهلون تعاليم الإسلام بشكل شبه تام.
تفشي الفساد
شكَت بيغم من تفشي الفساد وسوء الإدارة بين الضباط الأتراك، مشيرة إلى أن الرشوة والغش كانا سائدين لا سيما في مكة، وأوضحت أن تقديم الهدايا لموظفي الجمارك كان أمرًا لا مفر منه لتيسير الإجراءات، ومع ذلك، لم تلقَ معاملة لائقة، ووصفت سلوك المسؤولين بالخداع والتملق.
وتحدثت بيغم عن حادثة نهب ممتلكاتها في جدة على يد بعض البدو، ما ترك لديها انطباعًا سلبيًا منذ اللحظات الأولى لوصولها، وأثار استياءها من مظاهر العنف وسوء المعاملة، كما وثّقت بتفصيل دقيق معاناتها مع الجمارك والضرائب التعسفية التي فُرضت على جميع أمتعتها، بما في ذلك الهدايا والصدقات، إضافة إلى ما تعرّضت له من سرقات متكررة، وبلغت المعاناة ذروتها عندما قام البدو باختطاف والدتها، وتقول:
“بدأ البدو بتنزيل أمتعتنا من على ظهور الجمال، فتبعثرت الأمتعة، وفُقد كثيرٌ منها، بل لقد سُرق منها الكثير، ولم نستطع أن نعرف الضائع منها والمسروق”. صـ78.
عبرت بيغم عن استغرابها من غياب مشاريع حيوية كإنشاء سكة حديد أو خدمة البرقيات بين مكة والمدينة، أو بين جدة ومكة، وتعد انتقاداتها العلنية للإدارة العثمانية في الحجاز من أبرز ما ميز روايتها، إذ رأت أن الأتراك لم يؤدوا دورًا فعالًا في حماية الحرمين.
كما حملت العرب مسؤولية التقاعس عن واجباتهم، وانتقدت الشريف محملة إياه والعثمانيين مسؤولية انتشار الفساد وغياب النظام، خصوصًا في الطرق المؤدية إلى الأماكن المقدسة، كما سلطت الضوء على مظاهر التبذير الفاحش لدى الشريف، لا سيما في الطعام.
أوضاع النظافة والصحة
عند وصولها إلى جدة، عبّرت بيغم عن خيبة أملها من حال المدينة التي بدت مهيبة من بعيد، لكنها اتسمت بالقذارة، وهو ما لاحظته أيضًا في مكة، ووجهت نقدًا شديدًا للبنية التحتية في المدينتين، مشيرة إلى أن الشوارع عشوائية وغير نظيفة، والمباني تفتقر إلى التخطيط الجيد.
كما استغربت من تصميم البيوت، حيث تُجاور غرف الجلوس والنوم، المطابخ والحمامات، وتُستخدم حفر داخلية لجمع الفضلات تُفرغ لاحقًا وتُستعمل كسماد في أعمال البناء، وهو ما أثار دهشتها واستهجانها، وتقول:
“الداخل إلى مدينة جدة يجدها في حالة مزرية، فشوارعها قذرة عشوائية، وليس فيها مجاري للصرف الصحي، ومبانيها رديئة الإنشاء والتخطيط.. والنظافة في مكة لا تختلف كثيرًا عما ذكرته من حال جدة، فالشوارع قذرة، وليس فيها مجاري للصرف الصحي”. صـ109.
كما انتقدت بيغم بشدة انتشار القاذورات الناتجة عن الأعداد الكبيرة من الجمال والماعز والأغنام التي تأتي مع قوافل الحجيج، والتي تُذبح في موسم الحج دون اتخاذ إجراءات كافية لتنظيف فضلاتها، وأبدت استغرابها من تفشي الأمراض خلال موسم الحج، وتقول:
“تفشت في مكة أمراض خطيرة أثناء زيارتي لها، عانى مِنها سُكَانُها معاناة شديدة، وأُصيب تسعة من رجال حاشيتي بأمراض مختلفة”. صـ105.
رغم تأثرها بالبيئة الاستعمارية، فإن رواية بيغم تحتفظ بطابع إسلامي، فقد ربطت بين مظاهر انعدام النظافة في الحجاز والمبادئ الإسلامية، وقد طرحت هذه المسألة مع المسؤولين، متسائلة عن سبب ارتداء أهالي مكة “ملابس متسخة جدًا”، وعندما حاول الباشا تبرير ذلك بعجزه عن توفير ملابس نظيفة للجميع، رفضت حجته، واقترحت حلولًا عملية، كزيادة أعداد الغسالين وتقليل تكلفة الغسيل.
كما وجهت انتقادًا لإهدار ميزانية صيانة المدن المقدسة، مؤكدة أنها تمتلك الخبرة والكفاءة لإدارة شؤون هاتين المدينتين بشكل أفضل، وتقول:
“يُخَصصُ السُّلطان العثماني ثلاثة ملايين روبية كل سنة لإنفاقها في صيانة المشاعر المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولا يرى أثر ذلك في النظافة ولا في الخدمات والتسهيلات الضرورية.. ولو مَنَحَ السُّلطانُ هذا المبلغ لي، لكلَّفت به بنتي وزوجها، ولسوف ترون كيفَ أُحسِنُ تدبير الأمور، وكيف أضمن النظافة في هاتين المدينتين المقدستين، وكيف أتخذ الإجراءات اللازمة لصيانة المشاعر المقدسة على أحسن وجه، وَلَعَرَفَ السُّلطانُ أَن الخَوَنَةَ مِن رجاله ينفقون هذه المبالغ الطائلة في غير ما يخصصها له، وأنهم لم يُصلحوا شيئًا من شؤون المدينتين”. صـ 164.
المدينة المنورة: حلم مؤجل بسبب المخاطر
كانت بيغم تأمل زيارة المدينة المنورة، خاصةً مع الإلحاح المتزايد من قافلتها، لكنها عدلت عن ذلك بعد سماعها روايات مروعة عن حوادث سلب وهجمات شنّها البدو على الطرق بين مكة والمدينة، ولم يكن بإمكان الشريف ضمان سلامتها.
وقد ساهم في اتخاذها هذا القرار قلة عدد الجنود المرافقين لها، وافتقارها إلى المال الكافي لاستئجار حراس من جنود الشريف أو الباشا، وحتى لو توفر لها المال، فقد كانت تجهل التكاليف الدقيقة وتخشى التعرض للاستغلال أو السرقة من قبل المسؤولين.
وفي النهاية، غادرت بيغم مكة متجهة إلى جدة، ومنها واصلت رحلتها إلى عدن، حيث توقفت ليوم واحد للتزود بالفحم، ثم أبحرت إلى مومباي التي وصلتها في 21 يوليو 1864م. وبينما عادت بيغم من رحلة حجها مثقلة بخيبة الأمل، كانت تجربة حج حفيدتها في مطلع القرن العشرين مغايرة تمامًا، إذ رجعت إلى بلادها بشعور أعمق بالتدين وتعلق أكثر بالإسلام.