بينما تخطو تركيا بإلحاح كبير نحو تنفيذ خططها الاقتصادية الممتدة حتى منتصف القرن الحالي، والهادفة إلى رفع مركزها بين الدول المتقدمة وتأمين مقعدٍ لها في مقدمة العالم، بدأت تظهر ملامح الارتكاس الديموغرافي كنذير كارثة يلوح في الأفق، يُهدد بانهيار هذه الخطط الاقتصادية والمسيرة التنموية برمتها.
وليس التراجع الديموغرافي وحده الحاضر في قائمة الكوارث، بل تُضاف إليه هجرة العقول التي تشهد اضطرادًا متزايدًا، وتضفي على الوضع الديموغرافي المثقل أصلًا مزيدًا من القيود، لتجعل من أولويات الساسة والحكومة بذل أقصى الجهود لوقف هذا الارتكاس وسد النزيف بأسرع وقت ممكن، وتحقيق مستوى من الإحلال الديموغرافي والتعافي في استرداد العقول والكفاءات.
آخر محطات هذا الجهد تمثّلت في خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان الأسبوع المنصرم، الذي دعا فيه الأسر التركية إلى إنجاب 3 أطفال على الأقل، معتبرًا التراجع الحالي “تهديدًا ديموغرافيًا وجوديًا”، ومعلنًا أن العقد القادم (2026–2035) سيكون “عقدًا للأسرة”، ومدعومًا بسلسلة من الإجراءات الحكومية لمواجهة الانخفاض السكاني، تبدأ من تعزيز بنية الزواج وتنتهي بإجراءات تشجيعية واعدة للأسر والشباب، مشددًا في الوقت ذاته على أن النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية لم ينجحا حتى الآن في تحفيز الإنجاب أو دفع الشباب نحو الزواج.
خطاب أردوغان لم يكن الإنذار الحكومي الأول تجاه المستقبل الديموغرافي التركي، بل سبقته في عام 2020 حزمة من القوانين والدعم المالي لتعزيز وضع الأم العاملة، بما يتيح لها إنجاب المزيد من الأطفال دون الإخلال بمشاركتها في سوق العمل.
وقد ترسّخ هذا التوجه لاحقًا ضمن الحملة الرئاسية لأردوغان عام 2023، التي وضعت الأسرة التركية وزيادة عدد المواليد في مقدمة أولوياتها، وتُوّج بسعي حكومته أواخر عام 2024 لإطلاق صندوق الأسرة والشباب وتقديم حوافز للمتزوجين حديثًا، إلى جانب إعلان عام 2025 عامًا للأسرة.
لكن الرياح حتى الآن تجري بما لا يشتهي التخطيط الاستراتيجي التركي، وذلك على مستويين: أولهما الشيخوخة الديموغرافية المهددة للمستقبل التركي، وثانيهما نزيف العقول الذي يستنزف أي خطة اقتصادية أو سياسية أو تنموية طموحة، بل ويسحب من الدولة ذهبها الفتي لصالح دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وهولندا، وكندا، عبر برامج استقطاب المهاجرين المتخصصين أو من خلال التحاق الأتراك بسوق الابتكار العالمي.
شيخوخة ديموغرافية سريعة
مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، بدأت التحوّلات الديموغرافية في تركيا تلفت أنظار واضعي السياسات وصنّاع القرار، لكن التسارع الكبير في تدهور المؤشرات السكانية منذ عام 2020، حوّل الانتباه من مجرد ملاحظة إلى إنذار وطني ورسمي، استنفر أجهزة الدولة نحو طرح إجراءات وخطط عاجلة لمعالجة التركيبة السكانية قبل أن تخرج عن السيطرة.
بحسب بيانات معهد الإحصاء التركي (TÜİK)، شهدت الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2025 انخفاضًا في معدل الخصوبة من 2.16 طفل لكل امرأة إلى 1.62، كما تراجع عدد الزيادة السنوية في المواليد من مليون و300 ألف عام 2015 إلى قرابة 300 ألف مولود فقط مع نهاية العام الماضي، وانعكس ذلك أيضًا على نسب التغيير السكاني السنوي، التي هبطت من 1.76% إلى 0.29%، ونتيجة لهذه التغيرات، ارتفع متوسط عمر السكان من 29.6 عامًا إلى 33.9 عامًا.
هذه الأرقام لا تعكس مجرد انخفاض في معدلات المواليد أو وتيرة النمو، بل ترسم مستقبلًا مختلفًا تمامًا لبلدٍ بُنيت كثير من خططه الاقتصادية على أساس ديموغرافي يتوقع أن يبلغ فيه عدد السكان ما بين 96 إلى 100 مليون نسمة بحلول عام 2050، على أن يشكّل الشباب وصغار السن أكثر من 75% منهم. غير أن التغييرات المتسارعة خلال الأعوام الأخيرة قلبت تلك التوقعات رأسًا على عقب.
فوفقًا لموقع الإحصائيات العالمي (World Meters)، يبلغ عدد سكان تركيا اليوم 87,685,426 نسمة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بشكل طفيف فقط حتى عام 2045 ليصل إلى نحو 91,392,535 نسمة، قبل أن يبدأ منحنى السكان بالانخفاض التدريجي ليصل إلى أقل من 55 مليونًا بحلول عام 2100.
ووفقًا للمنظور قصير المدى “استراتيجيًا”، فسيرتفع متوسط أعمار السكان في تركيا ليصل إلى 44.3 عامًا بحلول عام 2050، فيما سينخفض معدل التغيير السكاني السنوي إلى ما دون −0.03%، ما يعني أن التغير العددي في السكان سيتمثل بزيادة عدد الوفيات على عدد المواليد، بمتوسط 26,895 وفاة سنويًا.
ويمكن ترجمة هذه الأرقام بالقول إن تركيا قد خرجت فعليًا من معدل الإحلال السكاني البالغ 2.1 طفل لكل امرأة، ما سيؤدي إلى تقلّص حجم القوى العاملة، وزيادة نسبة كبار السن، التي وصلت حاليًا إلى 10%، وهذا يعني تباطؤًا في النمو الاقتصادي، وارتفاعًا في أعباء الرعاية الصحية والاجتماعية وأنظمة التقاعد، في حين سيؤدي انخفاض عدد المواليد إلى تقليص الاستثمارات في البنى التحتية التعليمية والترفيهية، نتيجة تراجع الطلب.
وفي ظل ضعف السياسات الحكومية، التي لا تزال تتحرك ضمن فلكٍ تقليدي يقتصر على رفع سن التقاعد، وتوفير قروض للزواج، ومنح مالية ومساعدات شهرية للمواليد، بالإضافة إلى تمديد مدة إجازة الأمومة، يُتوقع أن تكون قطاعات التعليم والصحة والسياحة من بين الأكثر تضررًا من الخلل الديموغرافي، بل وأن يتجاوز هذا التأثر ما تعانيه اليوم بعض الدول الأوروبية من انكماش سكاني حاد.
على سبيل المقارنة، دخلت فرنسا مرحلة الشيخوخة الديموغرافية بعد أن ارتفعت نسبة كبار السن فيها من 7 إلى 14% خلال 115 عامًا، بينما يُتوقع أن يبلغ المجتمع التركي النسبة ذاتها خلال مدة لا تتجاوز 27 عامًا فقط، وهو ما يدفع عددًا من خبراء السكان إلى التحذير من أن النموذج الياباني قد يتكرر في تركيا، مع ما يعنيه ذلك من انكماش سكاني واقتصادي، بل وربما نشهد في السنوات القادمة “موتًا بطيئًا” لكثير من القرى والأرياف التركية التي دخلت بالفعل في عصور الشيخوخة المظلمة.
عقولٌ وأيدٍ مهاجرة
على الصعيد نفسه، هناك استنزافٌ من نوعٍ آخر، يتمثل في انتقال العقول والكفاءات الشابة إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية، حيث تتمركز قطاعات التكنولوجيا وأسواق المال، ووفقًا لبيانات وزارة الخارجية التركية، يُقدَّر عدد المواطنين الأتراك المقيمين خارج البلاد بنحو 7.5 ملايين شخص.
يعيش 6.5 ملايين منهم في أوروبا الغربية، ويشكلون جاليات ومجتمعات كبيرة شبه مغلقة تتيح لهم الحفاظ على هويتهم الوطنية والثقافية، مع الاستفادة في الوقت ذاته من المستوى الاقتصادي المتقدم في دول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا والمملكة المتحدة وبلجيكا والسويد.
ورغم التحديات المرتبطة بالاندماج في المجتمعات الغربية، خاصة بالنظر إلى الخلفية الإسلامية لأغلبية الجالية، إلا أن وتيرة الهجرة وانتقال الأيدي والعقول إلى الخارج لم تتوقف، بل شهدت تزايدًا ملحوظًا بفعل عدد من المتغيرات. من أبرزها حالة الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم في تركيا، إلى جانب الفجوة في مستوى المعيشة بينها وبين الدول المضيفة، فضلًا عن تنامي الحاجة الأوروبية للأيدي العاملة.
كما لعبت الأزمات السياسية الداخلية دورًا فاعلًا في تحفيز موجات الخروج، بالإضافة إلى تأثير الزلزال الأخير، الذي دفع كتلة بشرية بأكملها بعيدًا عن قلب الأناضول.
وتُعزز البيانات الرسمية هذه المؤشرات، حيث أظهرت إحصاءات عامي 2022 و2023 تصاعدًا كبيرًا في أعداد المهاجرين، ففي عام 2022، غادر تركيا نحو 466,914 شخصًا، بزيادة بلغت 62.3% مقارنة بالعام الذي سبقه، وفي عام 2023، ارتفعت النسبة مجددًا بنسبة 53%، ليصل عدد المهاجرين الأتراك إلى 714,579 شخصًا.
يُلاحظ أيضًا على صعيد الفئة العمرية أن 15% من المهاجرين الأتراك ينتمون إلى الفئة العمرية 25-29 عامًا، بينما يشكّل من تتراوح أعمارهم بين 30 و36 عامًا نحو 13%، أما من حيث التخصصات العلمية، فتُظهر البيانات أن 6.8% من المهاجرين يتمتعون بمهارات في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، و5.1% يعملون في تخصصات الهندسة والبناء والتصنيع، في حين درس 3.2% منهم الرياضيات والإحصاء والعلوم.
وتُشير البيانات المفصلة إلى أن حملة الدراسات العليا أكثر ميلاً للهجرة مقارنة بحملة البكالوريوس، وأن معظمهم ينتمون إلى تخصصات محورية في خطط التنمية الاقتصادية التركية، فالجامعات والمراكز البحثية والعلمية في أوروبا، على سبيل المثال، تستقطب ما نسبته 18% من مختصي علم الوراثة، و10% من خبراء الهندسة الحيوية، و9% من العاملين في مجال هندسة الإلكترونيات.
أما الجامعات الأمريكية فتجذب 9.8% من مهندسي الأعمال و8.9% من مهندسي الحاسوب، في حين تشير إحصاءات أخرى إلى أن أكثر من 10 آلاف طبيب غادروا البلاد خلال الفترة بين عامي 2012 و2023، ما يضع هذا النزيف في خانة الخسارة الاقتصادية والمهنية البالغة، وقد دفعتهم الظروف الاقتصادية الصعبة والأزمات السياسية المتراكمة إلى البحث عن فرص في بيئات أكثر استقرارًا وتقديرًا لمهاراتهم.
وفي مواجهة هذا الاستنزاف المتواصل، حاولت الجهات الرسمية احتواء الأزمة عبر حزمة من السياسات المستحدثة أو المجددة، شملت رفع سن التقاعد، وتطوير النظام التعليمي، وتقديم منح دراسية للمتفوقين والباحثين، فضلًا عن دعم المشاريع العلمية والبحثية، والعمل على تحسين الرواتب وجودة الحياة للعاملين في المؤسسات الأكاديمية والبحثية
لكن المشكلة الحقيقية أن الحلول والسياسات الحكومية المطروحة لمعالجة نزيف العقول أو الشيخوخة الديموغرافية لا تتناسب مع طبيعة المشكلة، بل تنطلق من تكرارٍ عقيم لتجارب محلية ودولية سابقة.
لا سيما أن التقدم العلمي والنمو الاقتصادي في تركيا، منذ عام 1975 وحتى اليوم، اقترن بتراجع متباطئ أو متسارع في النمو السكاني، فيما لم تنجح السياسات التي استهدفت النساء من خلال إطالة إجازات الأمومة وتقديم منحٍ إنجابية في تحفيز الإنجاب، وذلك في ظل انخفاض مشاركة المرأة التركية في سوق العمل، واتساع الفجوة الاقتصادية بين الأجور والتضخم، ما يجعل الحوافز النقدية أشبه بمكافآت قصيرة الأمد.
في المقابل، تغيب سياسات حقيقية لاحتضان العقول واستعادة الأدمغة، فالجامعات والميادين الأكاديمية تشكو من تضييق الحريات وارتفاع منسوب القمع، وسيطرة الحكومة على موازناتها وتعييناتها وتوظيف طلابها.
في الوقت ذاته، يُفترض بالمنح الدراسية – كما المنح الإنجابية – أن تخضع لزيادات منتظمة تتماشى مع التضخم الشهري، لكنها لا تزال بعيدة عن تغطية الحد الأدنى من احتياجات الطلبة، ما يحول دون تفرغهم للبحث العلمي، وينعكس سلبًا على جودة الجامعات التركية وإنتاجها الأكاديمي، ويدفع بالمزيد من الطلبة المحليين والدوليين للبحث عن بدائل في الجامعات الأوروبية المجاورة التي توفّر لهم اكتفاءً علميًا واقتصاديًا وسياسيًا.
بالمحصلة، وربما بعد عقود من اجترار التجربة ذاتها، يبدو أن الأنسب لتجاوز الأزمة الديموغرافية والمهنية في تركيا هو فتح البلاد أمام العمالة المهاجرة – على غرار النموذج الألماني – خاصة وأن هذه الأزمة تتجلى بصورة معاكسة في دول الجنوب التي تعاني من الاكتظاظ السكاني، كما أن تركيا قد تمثل “أرضًا ذهبية” أو وسيطًا مناسبًا للكفاءات والخبرات القادمة من بلدان لا تجد لها موطئ قدم في أسواق الغرب، لكنها تتطلع لتحسين ظروفها الحياتية في بيئة أكثر انفتاحًا واستقرارًا.
غير أن تبني هذا الخيار – كما أثبتت التجربة السورية – لا ينجح دون سياسات حكومية واجتماعية تهيئ المجتمع التركي لاستقبال “الآخر”، وتعزز ثقافة الاعتراف بدور المهاجرين في إنقاذ بلد يقف على حافة الشيخوخة. فهل تنجح تركيا، بحكومتها ومعارضتها، في خوض هذا التحول الضروري؟