ما بين الفينة والأخرى، يتصدر الحديث عن القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط (أو غرب آسيا) الواجهة الإعلامية والسياسية، سواء في سياق التحركات العسكرية، أو التحالفات الأمنية، أو زيارات القادة والجنرالات الأمريكيين إلى المنطقة، أو في التدريبات المشتركة التي تجمع بين عدة دول يجمعها قاسم مشترك: الوجود العسكري الأمريكي الفاقع على أراضيها.
من أبرز المداولات التي شغلت العام 2025 حتى الآن، تحركات القطع العسكرية الأمريكية بين المحيط الهندي والخليج العربي، ونشر قاذفات استراتيجية، ورفع مستويات الجاهزية القتالية والقدرات الدفاعية، في إطار الهجمات على الحوثيين وردع إيران، إضافة إلى ما يُشاع حول تقليص محتمل للوجود الأمريكي في سوريا، ومستقبل هذا الوجود في العراق بعد عام 2026.
في كل هذه الملفات، تحضر القواعد العسكرية الأمريكية كثابتٍ يتحكم بالحاضر، ويُعيد رسم خرائط النفوذ في المستقبل، وكأنها فوهة بندقية مشدودة الزناد، مصوّبة نحو صدور شعوب المنطقة، لا يفصلها عن الإطلاق سوى ومضة قرار.
من هنا، تنطلق هذه المادة لتسلّط الضوء على بدايات الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وانتشار قواعده المتعددة، من حيث العتاد والحجم والتكلفة والأدوار، وتتبع تطوره ودوافعه، ومآلاته المحتملة، ومخاطره على الأمن والسيادة الإقليمية.
قدمٌ أمريكية في الشرق الأوسط
لا يُعد الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط متقدّمًا على موقعها العالمي الحالي، الذي تبوأته منذ الحرب العالمية الثانية، حين بدأت الولايات المتحدة تُوجه أنظارها عسكريًا خارج حدودها، نحو أوروبا وما حولها، للتصدي للنازية وحلفائها في الشرق الأوسط والشرق الأقصى.
في عام 1945، وقّع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت اتفاقًا مع الملك السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود، عُرف بـ”اتفاق كوينسي” (Quincy Pact)، نصّ على تقديم واشنطن ضمانات أمنية للمملكة مقابل حصولها على إمدادات نفطية بأسعار معقولة.
وخلال العقدين التاليين، ومع انحسار الاستعمارين البريطاني والفرنسي عن المنطقة، والانقلابات التي اجتاحت معظم الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أُتيح للولايات المتحدة توسيع نفوذها لملء الفراغ الأمني الناشئ، ما مهّد الطريق أمام ترسيخ وجودها العسكري في المنطقة.
وبحلول عام 1983، أطلقت وزارة الدفاع الأمريكية ذراعًا عسكرية متخصصة لإدارة وجودها في الشرق الأوسط وجنوب ووسط آسيا، عُرفت باسم “القيادة المركزية الأمريكية” (CENTCOM)، والتي تشمل منطقة عملياتها اليوم 21 دولة، من بينها السعودية وقطر والبحرين والكويت والإمارات وعُمان، إلى جانب العراق والأردن ولبنان ومصر واليمن.
منذ ذلك الحين، أصبحت القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) الجهة المسؤولة عن التخطيط والتنفيذ والإشراف على جميع العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة، بما يشمل القواعد الجوية والبرية والبحرية، ومعسكرات التدريب، والمناورات العسكرية المشتركة، واتفاقيات الدعم اللوجستي، إضافة إلى المهمات الإقليمية المرتبطة بما يُعرف بـ”مكافحة الإرهاب”.
ورغم تعدد أشكال الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، إلا أن القواعد المرتبطة مباشرةً بالقيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) اقتصرت على عدد محدود من الدول العربية، جرى اختيارها بعناية وفق تموضع استراتيجي يخدم أهداف واشنطن العسكرية ونفوذها الجيوسياسي في العالم العربي، ويؤمّن في الوقت ذاته “مسارات النفط والطاقة”، ويدعم أنظمة إقليمية حليفة ومساندة لها.
وقد انعكس هذا الانتشار في قدرة الجيش الأمريكي على تنفيذ تدخلات سريعة، وتوفير حركة مرنة للقوات والعتاد، في محطات محورية شملت: حرب الخليج عام 1991، وغزو أفغانستان عام 2001، وغزو العراق عام 2003، وسلسلة العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا منذ عام 2014، وإدارة الصراع مع إيران منذ عام 2017، فضلًا عن ملف الأمن الإقليمي منذ عام 2021، خاصة بعد انتقال “إسرائيل” إلى نطاق عمليات القيادة المركزية بعد أن كانت سابقًا ضمن نطاق القيادة الأوروبية (EUCOM).
ويُقدّر عدد الجنود الأمريكيين المنتشرين ضمن مناطق عمليات القيادة المركزية (CENTCOM) بما يتراوح بين 30 و40 ألف جندي، يتمركزون في دولٍ عدة هي: تركيا وسوريا والعراق والأردن و”إسرائيل” والكويت والبحرين وقطر والسعودية والإمارات وسلطنة عمان ومصر.
ويمكن الإضاءة على طبيعة هذا الوجود العسكري، والأبعاد العملياتية لأدوار الجنود والقواعد في كل من هذه الدول، وفق ما يلي:
- قطر
يعود تاريخ الوجود العسكري الأمريكي في قطر إلى عام 1992، عقب توقيع اتفاقية دفاعية بين الجانبين، أتاحت لواشنطن نشر قواتها وتخزين معدات عسكرية على الأراضي القطرية، وبناءً عليها أُنشئت قاعدة العديد الجوية عام 1996 بكلفة تأسيسية بلغت نحو مليار دولار، تلاها افتتاح قاعدة السيلية العسكرية عام 2000، التي خُصصت لاحتضان مستودعات كبيرة للأسلحة والمعدات الأمريكية، ضمن ما عُرف بمواقع ما قبل التموضع (Prepositioning Sites).
لكن المنعطف الأكبر في هذا الوجود حدث عام 2002، عندما نقلت القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) عملياتها من السعودية إلى قطر، استجابةً لضغوط سعودية لتقليص الحضور العسكري الأمريكي العلني في المملكة، ما أدى إلى توسّع الوجود الأمريكي في قطر، ليصبح الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، حيث يُقدَّر عدد الجنود الأمريكيين اليوم بما يتراوح بين 11 و13 ألف جندي، يتمركزون أساسًا في قاعدة العديد، بعد إغلاق قاعدة السيلية عام 2021 ونقل معداتها إلى الأردن.
تؤدي قاعدة العديد وظائف جيوستراتيجية متعددة، فهي تُعد مركز العمليات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتضم مقر القيادة المتقدم للقيادة المركزية، بالإضافة إلى مركز العمليات الجوية المشتركة (CAOC) الذي يشرف على الطلعات الجوية اليومية لأكثر من 18 دولة.
كما تضم القاعدة مدرجات واسعة تُعد من الأطول في منطقة الخليج، قادرة على استيعاب طائرات ضخمة مثل B-52 وC-17، ما يجعلها محطة أساسية للقوات الملكية الجوية البريطانية وشركاء التحالف العسكري الأمريكي.
- البحرين
تُعد البحرين من أوائل الدول العربية التي فتحت أبوابها للوجود العسكري الأمريكي بعد السعودية، بل حتى قبل استقلالها عن بريطانيا، ففي خضم الحرب العالمية الثانية، احتاجت القوات البريطانية إلى الدعم الأمريكي، فسمحت بتواجد مفرزة تُعرف بـ”قوة الشرق الأوسط الأمريكية” في قاعدة الجفير البحرية عام 1948.
وعقب استقلال البحرين عام 1971، تولّت البحرية الأمريكية فورًا مهام البحرية البريطانية – بموافقة الأمير حمد بن عيسى – وعززت وجودها لاحقًا عبر معاهدات تعاون أمني خلال عامي 1971 و1991، أسفرت عن إنشاء قاعدتين جويتين إضافيتين، هما: قاعدة الشيخ عيسى، وقاعدة المحرق (التي تُعد جزءًا من مطار البحرين الدولي).
ومع غزو العراق والحاجة المتزايدة لتعزيز عدد القوات، شهدت القواعد توسعات كبيرة، شملت بناء مبانٍ وثكنات لاستيعاب أكثر من 9 آلاف جندي أمريكي، وفي عام 2021، منحت وزارة الدفاع الأمريكية “وكالة الأمن القومي في البحرين” جائزة التميز، تكريمًا للأفراد الذين يديرون ويشغّلون المنشآت العسكرية الأمريكية على الأراضي البحرينية.
- الكويت
بدأ الوجود الأمريكي في الكويت بعد عام 1991، في أعقاب قيادة الولايات المتحدة لتحالف دولي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وهو ما تحوّل لاحقًا إلى اتفاقية دفاعية وعسكرية أرست وجودًا أمريكيًا طويل الأمد على الأراضي الكويتية، شمل بناء قواعد عسكرية، وإجراء تدريبات مشتركة، وتخزين معدات عسكرية استراتيجية.
وتعزز هذا الوجود بشكل كبير خلال غزو العراق عام 2003، حيث لعبت الكويت دور المنطلق الرئيس للعمليات العسكرية، ولاحقًا للهجمات ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وبرغم تقليص التواجد الأمريكي في العراق، لا يزال الحضور العسكري الأمريكي في الكويت قويًا ومؤثرًا.
بحسب أرقام عام 2021، بلغ عدد الجنود الأمريكيين في الكويت نحو 13 ألفًا، موزعين بين قوة المهام المشتركة، والقوة الجوية الأمريكية 386، والفرقة الأمريكية الثالثة للمشاة، إلى جانب قوات الدعم المشترك وقوات التحالف الدولي، موزعين في عدة قواعد رئيسية، أبرزها: قاعدة عريفجان (المقر الرئيسي للوجود الأمريكي في الكويت)، وقاعدة علي السالم الجوية، وقاعدة معسكر الدوحة، وقاعدة بيورينغ.
- العراق
بسقوط العراق في قبضة الاحتلال الأمريكي، بات البلد مستباحًا أمام الآلة العسكرية الأمريكية، التي أنشأت خلال السنوات الأولى أكثر من 500 موقع وقاعدة ومركز لوجستي، شملت مراكز إدارية وسياسية، وقواعد تدريب ودعم لوجستي، ومرافق لصيانة الطائرات ومدارج كبيرة، لكن مع نهاية عام 2011، انسحبت القوات الأمريكية رسميًا، تاركة عددًا محدودًا من القواعد غير الرسمية.
غير أن هذا الانسحاب لم يدم طويلًا؛ فتحت شعار “محاربة تنظيم الدولة الإسلامية”، عادت القوات الأمريكية عام 2014، وعززت وجودها العسكري في 7 قواعد رئيسية، ثم أعادت واشنطن تقليص قواتها مجددًا، ليبلغ عدد الجنود الأمريكيين في العراق اليوم نحو 2500 جندي، ينتشرون ضمن اتفاقيات أمنية مع الحكومة العراقية، في كلٍّ من: قاعدة عين الأسد الجوية بمحافظة الأنبار، وقاعدة أربيل الجوية في إقليم كردستان، إلى جانب مواقع أخرى متفرقة، بالإضافة إلى ضباط وخبراء تدريب يتبعون للسفارة الأمريكية في بغداد.
- السعودية
قبل حرب الخليج عام 1991، لم يكن الوجود العسكري الأمريكي في السعودية يتجاوز حدود التدريب المشترك وصفقات التسلّح والحماية والاستخدام المحدود للمرافق، وعلى رأسها قاعدة الظهران الجوية، لكن مع اندلاع الحرب، فتحت المملكة أراضيها أمام القوات الأمريكية، فتمركز أكثر من 500 ألف جندي أمريكي في المنطقة الشرقية وعلى الحدود الفاصلة مع الكويت، حيث شكّلت هذه القواعد نقطة انطلاق رئيسية للعمليات العسكرية.
وبعد انتهاء الحرب، تواصل الوجود العسكري الأمريكي تحت ذرائع متعددة، أبرزها فرض منطقة حظر الطيران على جنوب العراق، ومراقبة الأجواء العراقية، وحماية المنشآت النفطية في الخليج.
خلال هذه الفترة، تمركزت القوات الأمريكية في عدة قواعد رئيسية، أبرزها: قاعدة الأمير سلطان الجوية، التي أصبحت مقر قيادة العمليات الجوية للقيادة المركزية الأمريكية في الخليج، إلى جانب قاعدة الظهران (قاعدة الملك عبد العزيز الجوية)، وقاعدة الرياض الجوية. وقد تراوح عدد الجنود الأمريكيين حينها بين 5 إلى 10 آلاف، حتى عام 2003.
في ذلك العام، تم الإعلان عن إنهاء الوجود العسكري الأمريكي الرسمي في السعودية، ونقل مقر القيادة الجوية إلى قطر، مع إغلاق قاعدة الأمير سلطان، غير أن الأمور تغيرت مجددًا في منتصف 2019، حين أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن نشر مؤقت لنحو 3000 جندي، بالإضافة إلى بطاريات دفاع جوي وطائرات F-15 وF-22، في سياق التصعيد مع إيران، ما أعاد تفعيل جزء من قاعدة الأمير سلطان الجوية لتعمل كمركز عمليات واستطلاع ودفاع جوي.
ويُقدّر اليوم عدد الجنود الأمريكيين في السعودية بما يتراوح بين 2500 إلى 3000 جندي، يتمركز أغلبهم في قاعدة الأمير سلطان، التي تُستخدم مركزًا لتنسيق العمليات الجوية والدفاعية، لاسيما في مواجهة التهديدات الإيرانية.
كما ينتشر أفراد آخرون في مواقع مؤقتة للدفاع الجوي، مثل قاعدة الإسكان، وبعض المناطق القريبة من المنشآت النفطية، ورغم ذلك لا تزال السعودية خارج تصنيف “القواعد الثابتة الكبرى” للولايات المتحدة في الخليج، كما هو الحال في قطر أو الكويت.
- الإمارات
تعتبر الإمارات العربية المتحدة إحدى الدول التي تُمارس فيها الولايات المتحدة نمطًا مرنًا من التواجد العسكري، فعلى العكس من البحرين وقطر والكويت، حيث تُخصص قواعد عسكرية ضخمة وخاصة، تتواجد القوات الأمريكية التي يبلغ قوامها 3500 جندي في الإمارات، في قواعد إماراتية مشتركة.
وذلك وفقًا لاتفاقيات دفاعية بين عامي 1994 و2017، تضمن للقوات الأمريكية استخدامًا فوريًا للمرافق والبنى التحتية الإماراتية عند الحاجة، فيما تدعم مشاركة دورية في التدريبات العسكرية المحلية والإقليمية.
أما أبرز هذه المرافق، فهي قاعدة الظفرة الجوية في أبو ظبي، والتي يتم استخدامها من قبل نحو 2000-2500 جندي أمريكي، إضافةً لعددٍ آخر من القوات الفرنسية، حيث تؤمن مرافقها انتشار الطائرات الأمريكية المقاتلة إقليميًا، ودعم العمليات في العراق وسوريا والخليج، وتحقيق السيطرة الجوية الإقليمية.
هُناك أيضًا، ميناء جبل علي في دبي، فعلى الرغم من عدم وجود قاعدة أمريكية فيه، فإنه يستخدم بانتظام كنقطة إسناد بحرية رئيسية للقطع الأمريكية، وتتم فيه أعمال إصلاح الأسطول الأمريكي، وإعادة تزويده بالوقود والغذاء، كما أنه نقطة عبور واستراحة من وإلى المحيط الهندي والبحر الأحمر، ومتصل بقاعدة الفجيرة البحرية التي تضمن صلة برية لوجستية له في حال إغلاق مضيق هرمز.
– سلطنة عُمان
تتشابه سلطنة عُمان في طبيعة الوجود الأمريكي على أراضيها مع الإمارات العربية المتحدة، حيث ينطلق أي تمثيل عسكري أمريكي من اتفاقيات تعاون تفتح المرافق العسكرية العمانية أمام القوات الأمريكية عند الحاجة، بدءًا من اتفاقية عام 1980 ونسختها المحدثة عام 1990، ونسختها الأخيرة والأكثر توسعًا عام 2019.
أتاح ذلك للقوات الأمريكية استخدام كلٍ من قاعدة مصيرة الجوية، كموقع لإعادة التزود بالوقود وللدعم اللوجستي، خاصة خلال حرب الخليج وحرب أفغانستان، وقاعدة ثمريت الجوية للتمركز المؤقت خلال العمليات في أفغانستان والعراق، وميناء الدقم، وقاعدة السيب الجوية، وجميعها مفتوحة أمام مناورات مشتركة ودعم لوجستي وتمويني، وتخزين معداتٍ مسبق.
- الأردن
بعد حرب الخليج عام 1991، بدأ الأردن يتلقى مساعدات عسكرية أمريكية كبيرة، وشارك بانتظام في التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة. وفي عام 2003، تحوّلت الأراضي الأردنية إلى ممر لوجستي رئيسي للقوات الأمريكية المتجهة إلى العراق، ما استدعى إقامة منشآت مؤقتة قرب الحدود.
ومع اندلاع الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في 2014، تحوّل الأردن إلى قاعدة أمامية لعمليات التحالف الدولي ضد “داعش”، ثم اكتسب الوجود العسكري الأمريكي طابعًا أكثر رسوخًا بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك عام 2021، إذ منحت القوات الأمريكية حرية الحركة على الأراضي الأردنية، وسمحت باستخدام 12 منشأة وقاعدة عسكرية، كما منحت الجنود الأمريكيين حصانة قانونية من الملاحقة أمام القضاء المحلي.
نتج عن ذلك تمركز دائم في قاعدة “موفق السلطي” الجوية التي خضعت لتوسعة عام 2019 بتمويل أمريكي بلغ 143 مليون دولار، وقاعدة “البرج 22” الحدودية التي تعرّضت لهجوم بطائرة مسيّرة في يناير 2024 أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة آخرين.
كما أُنشئت مراكز تدريب وتخزين، أبرزها مركز تدريب الملك عبد الله الثاني للعمليات الخاصة، الذي تم إنشاؤه بتمويل وإشراف أمريكي، ويستخدم لتدريب القوات الأردنية وقوات من دول شريكة.
وبحلول منتصف عام 2024، بلغ عدد القوات الأمريكية في الأردن 3,813 جنديًا، وهو أعلى رقم منذ غزو العراق عام 2003، بزيادة تقارب 20% عن أرقام ديسمبر 2023، وذلك في إطار تعزيز الدفاعات الجوية الأردنية، وتكثيف التدريبات المشتركة، والمساهمة في ردع التهديدات الإقليمية، وحماية المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
- مصر
يُعد الوجود الأمريكي في مصر من أقدم أشكال التعاون الدفاعي للولايات المتحدة في المنطقة، غير أنه يختلف عن غيره بغياب القواعد العسكرية الدائمة أو التمركز المنتظم، فالتعاون قائم على شراكة ممتدة ضمن اتفاقيات ثنائية، أبرزها اتفاقية “كامب ديفيد” الموقعة عام 1979، والتي تؤمن لمصر مساعدات عسكرية أمريكية تُقدّر بـ1.3 مليار دولار سنويًا حتى اليوم.
في العقود التالية، تطور هذا التعاون ليشمل تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة، ومشاورات أمنية عبر قسم التعاون العسكري في السفارة الأمريكية. كما يتمركز جنود أمريكيون ضمن قوة المراقبة متعددة الجنسيات في قاعدة الجورة الجوية بشمال سيناء، حيث تشكل القوات الأمريكية العنصر الأكبر في هذه القوة، بنحو 400 إلى 500 جندي، مع إمكانات لزيادة العدد خلال مناورات “النجم الساطع” التي تُجرى دوريًا في قاعدة محمد نجيب العسكرية قرب العلمين، بمشاركة آلاف الجنود الأمريكيين.
وتتيح الاتفاقيات الثنائية استخدام المجال الجوي والموانئ المصرية في حالات الطوارئ، ولأغراض الإمداد واللوجستيات. كما تتنوع المهام العسكرية الأمريكية بين مراقبة تنفيذ اتفاقية السلام مع “إسرائيل”، والتعاون في مكافحة الإرهاب، خصوصًا في سيناء، إضافة إلى الإشراف على برامج المساعدات العسكرية، ونقل التكنولوجيا والأسلحة.
- تركيا
منذ انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، أصبحت ساحة استراتيجية للولايات المتحدة ضمن إطار الحرب الباردة، وسرعان ما تحوّلت إلى منصة أمامية لمراقبة الاتحاد السوفيتي ونشر منظومات الرصد والصواريخ.
وشهدت العقود التالية تأسيس عدد من القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية، أبرزها قاعدة إنجرليك الجوية التي تُستخدم منذ الخمسينيات في المهام اللوجستية والاستخباراتية، وتعد من أهم القواعد الأمريكية في المنطقة، إذ يُعتقد أنها تضم نحو 50 قنبلة نووية تكتيكية، رغم عدم الاعتراف الرسمي بذلك.
تتمركز القوات الأمريكية أيضًا في قاعدة كورجيك، حيث نُشرت منظومة رادار متقدمة ضمن مشروع “الدرع الصاروخي الأوروبي” لمراقبة الصواريخ الإيرانية، فضلًا عن وجود عسكري في منشآت مشتركة بأنقرة وإسطنبول وأزمير.
ويُقدَّر عدد الجنود الأمريكيين في تركيا بين 1700 و2500، معظمهم في قاعدة إنجرليك، يدعمون الهيمنة الجوية واللوجستية الأمريكية في الشرق الأوسط، ويُشاركون في مهمات حلف الناتو انطلاقًا من الأراضي التركية.
- سوريا
تمثل سوريا الوجه الصفيق للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، حيث تضع البندقية الأمريكية فوهتها بدون موافقة أو تفويض من الحكومة، بمبررات مختلفة بدأت عام 2014 حين أعلن تنظيم الدولة الإسلامية سيطرة الخلافة على مناطق واسعة من العراق وسوريا، فأطلقت الولايات المتحدة حملة عسكرية بدأت بضربات جوية.
لاحقًا، أرسلت قوات خاصة لمساعدة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تلاها نشر مئات الجنود من القوات الخاصة، ومستشارين عسكريين واستخباراتيين، في مناطق شمال وشمال شرق سوريا ما بين 2016-2017، ثم إنشاء قواعد أمريكية مؤقتة ومطارات عسكرية صغيرة في مناطق سيطرة “قسد”، خصوصًا في الحسكة والرقة ودير الزور.
ثم توسعت قواعدها لاحقًا لتشمل كل من عين العرب (كوباني)، وتل أبيض، ومنبج، ورميلان، والشدادي، والتنف (جنوب شرق سوريا)، وفي نهاية 2018 بلغ عدد القوات الأمريكية في سوريا نحو 2000 جندي، بينهم قوات خاصة ومشاة البحرية ووحدات دعم لوجستي.
وكان من أبرز ميزاته الانتشار الاستراتيجي مثل الوجود في قاعدة رميلان قرب حقل رميلان النفطي، وقاعدة دير الزور المتاخمة لحقل العمر النفطي، وقاعدة التنف، في المثلث الحدودي السوري–العراقي–الأردني، الذي يُعد موقعًا استراتيجيًا بين الدول الثلاث.
لم يكن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا يومًا مستقرًا أو محكومًا بسياسة واضحة؛ فإلى جانب تجاهل السيادة السورية، واقتصار التموضع على المناطق الغنية بالنفط والطرق الاستراتيجية شمال شرق البلاد، ظل التردد عنوانًا للقرارات الأمريكية بين الانسحاب وإعادة الانتشار، فمنذ ولاية ترامب الأولى، مرورًا بولايته الثانية، ووصولًا إلى إدارة بايدن، شهدت خريطة القوات تغيّرات متكررة، انخفض خلالها عدد الجنود إلى نحو 900، قبل أن يرتفع مجددًا إلى حوالي 2000 في نهاية ولاية بايدن.
وفي أبريل/نيسان الماضي، أعلن البنتاغون خطة لتقليص عدد القوات إلى أقل من ألف جندي، وإغلاق ثلاث قواعد صغيرة في الشمال الشرقي، غير أن محللين اعتبروا ذلك مجرد إعادة تموضع هدفها تقليل الكلفة السياسية والعسكرية، دون التخلي عن النفوذ الأمني، إذ يرتبط الانسحاب الأمريكي – وفق كثير من القراءات – بإعادة تعريف العلاقة مع دمشق، وانتظار تحول النظام إلى شريك إقليمي “مقبول”، لا بالمعايير الميدانية أو الإنسانية، بل بما يخدم خريطة المصالح الأمريكية في المنطقة.
- لبنان
لا يُعرف في لبنان قواعد عسكرية أمريكية مباشرة، لكن العلاقة العسكرية بين الحكومة والنظام اللبناني والولايات المتحدة عسكريًا في أحسن أحوالها، فوزارة الدفاع الأمريكية هي الممول الأول للجيش اللبناني، بما يزيد عن 3 مليارات دولار منذ عام 2006.
يتُرجم ذلك على شكل عربات مدرعة، وذخائر وأسلحة فردية، وطائرات استطلاع خفيفة، وأجهزة اتصال وتكنولوجيا مراقبة حدودية، وبرامج تدريب أبرزها مناورات “العاصفة المتصاعدة”، التي تُجرى دوريًا على الأراضي اللبنانية بمشاركة وحدات من مشاة البحرية الأمريكية (المارينز).
كما يشمل ذلك، استخدام مرافئ لبنانية أو مطارات بشكل محدود، أو الرسو قبالة الشواطئ لأغراض لوجستية، وبتنسيق مباشر مع الحكومة اللبنانية أو قيادة الجيش.
المفصل الأبرز الذي ارتبط بالمصالح الأمريكية- الإسرائيلية، وليس اللبنانية، كان في أكتوبر 2023، حين أعلنت واشنطن إرسال حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط، حيث تمركزت قبالة السواحل اللبنانية كنوع من “الردع” تجاه حزب الله خلال تصاعد التوتر على الجبهة الشمالية.
الحال كذلك، فإن الانتشار الغزير للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وتمظهراتها “الإسرائيلية” والأوروبية المختلفة التي تخدم جميعًا هدفًا واحدة هو الهيمنة على الشعوب العربية، وإسناد الأنظمة الرديفة لها، لا يتوقع له أن ينحسر، في العقد الحالي على الأقل، خاصة في ظل السعي الغربي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وتحويله إلى واحة تطبيعية تتوسطها “إسرائيل”، واستحكام الأنظمة وترهل شعوبها الخاضعة لسكين الجزار، وحتى يحين الوقت لخروجٍ أمريكي من الشرق الأوسط لا يمكن التكهن إن كان المستقبل سيحمل مستعمرًا آخر أم فجرًا من الحرية، لم يألفه سُكان المنطقة من قبل.