في عشرينيات القرن العشرين، تدهورت علاقة الشريف حسين ببريطانيا بعد الحرب، مما دفع الأخيرة لدعم غزو ابن سعود للحجاز. وبعد حملات عسكرية ضد خصومه بين 1902 و1926، أعلن ابن سعود توحيد مملكته عام 1932 في ظل ظروف اقتصادية صعبة، مركزًا على تأمين البلاد واستقرارها.
بعد سيطرة السعودية على الحجاز وفرضها سياسات دينية تعكس تفسيرها للإسلام، اختلف تأثير ذلك على الحجاج، ورغم هذه التحولات، واصل الحجاج القدوم إلى مكة من أنحاء العالم بوسائل نقل متنوعة، من البواخر إلى العربات والجمال وحتى مشيًا على الأقدام، ومن بين هؤلاء الأرستقراطية الاسكتلندية الليدي إيفلين كوبولد، التي أسمت نفسها زينب بعد إسلامها.
وفي عقدها السادس، أدت إيفلين فريضة الحج، ودونت تجربتها في كتابها “الحج إلى مكة”. وثقت أول انتقال بالسيارة من منى إلى عرفات، كما قدّمت ملاحظات عن العادات المحلية، والتغيرات التي طرأت على الحج في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ السعودية، وتعتبر إيفلين نفسها أول امرأة إنجليزية توثق رحلتها إلى الديار المقدسة.
لماذا ذهبت للحج
وُلدت إيفلين في إدنبرة عام 1867 لعائلة أرستقراطية اسكتلندية عُرفت بشغفها للترحال، وتميزت طفولتها بتنشئة غير تقليدية، إذ قضت معظم سنواتها الأولى بين الجزائر والقاهرة ودمشق، الأمر الذي أثّر على تكوينها، وكما تروي في مذكراتها، فقد تعلّمت العربية في سن مبكرة، وكانت كثيرًا ما تهرب من مربيتها في الجزائر لترافق أصدقاءها في زيارة المساجد.
وفي إحدى زياراتها إلى روما للقاء أصدقائها الإيطاليين، أُتيحت لإيفلين فرصة لقاء البابا/ وفي مقدمة كتابها تروي أنه عندما سألها البابا عن انتمائها الديني مفترضًا أنها كاثوليكية، فوجئت للحظة، ثم ردّت بثقة: “أنا مسلمة”، رغم انتمائها لعائلة مسيحية، ودون أن تكون قد خطّطت لاعتناق الإسلام أو امتلكت معرفة عميقة به حينها.
وتذكر إيفلين أن تلك اللحظة كانت نقطة التحوّل التي دفعتها لدراسة الإسلام بجدية، وكلما تعمّقت في القراءة، ازداد إيمانها بأنه الدين الأقرب إلى الفطرة والأكثر وضوحًا، وتعبّر عن قناعتها بقولها: “منذ ذلك الحين، لم أشكّ لحظة في أن هناك إلهًا واحدًا”.
وعلى غير العادة لشخص لم يولد لعائلة مسلمة، ادعت إيفلين أنها كانت مسلمة طوال حياتها، وأن الإسلام قد غُرس فيها منذ سنوات طفولتها في شمال أفريقيا. وتشرح ذلك في الفقرة الأولى من كتابها: “لم أعتنق الإسلام، بل عدت إليه، فقد كنت مسلمة في قلبي دون أن أعي”.
بعد إعلان إسلامها، غيّرت إيفلين اسمها إلى زينب، وتحكي أن هناك حلمًا طالما راودها، وهو زيارة مكة وأداء فريضة الحج التي اعتبرتها من أعظم التجارب الإنسانية، كما تستحضر في ذاكرتها مشهدًا من سنوات ماضية في القاهرة، حين تجمّعت الحشود ووقف الخديوي محاطًا بالوزراء والعلماء وأعيان مصر في ساحة القلعة، أثناء مغادرة المحمل الذي يحمل كسوة الكعبة الجديدة. وكان هذا المشهد مصدر إلهام عميق لها في شبابها.
وفي عام 1933، قررت تحقيق هذا الحلم رغم بلوغها 65 من العمر، وحاولت تحدي القيود التي فرضتها السلطات السعودية آنذاك على المسلمين الجدد، حيث اشترطت إقامتهم في جدة لمدة عام كامل لإثبات صدق إسلامهم قبل السماح لهم بدخول مكة.
ومع ذلك، ألقت إيفلين اللوم في هذا الوضع على الأوروبيين الذين تسللوا إلى مكة متخفّين بعباءة الإسلام، وأثاروا مشاكل في الأراضي المقدسة، مما دفع السلطات السعودية إلى تشديد شروط الدخول، وللالتفاف على هذه القيود، لجأت إيفلين إلى حافظ وهبة، السفير السعودي في لندن حينذاك، الذي أبدى تفهّمًا وتعاطفًا مع رغبتها، ورفع طلبها إلى كبار المسؤولين.
وبناءً على ذلك، بدأت إيفلين رحلتها إلى الحج، متجهة أولًا إلى مدينة بورسعيد المصرية، ومنها استقلت القطار نحو السويس، في ظروف صعبة تخللتها عاصفة رملية، وهناك تلقت لقاح الجدري والكوليرا استعدادًا للرحلة، وبعدها توجهت إلى ميناء بورتوفيق، حيث استقلت الباخرة الإيطالية المتجهة إلى جدة، وقد حجزت لنفسها قمرة خاصة على متنها، استغرقت الرحلة البحرية أربعة أيام، حتى وصلت إلى سواحل الحجاز.
في جدة: بانتظار الحصول على تصريح الحج
وصلت إيفلين إلى جدة، ووصفت المدينة بأنها محاطة بأسوار عالية من ثلاث جهات، تتخللها مآذن شامخة تلوح في الأفق. وقد بدا لها أن نمط الحياة في جدة يختلف تمامًا عن أي مدينة شرقية زارتها من قبل، إذ لم تجد فيها أكشاكًا للشرب أو متاجر حديثة أو دور سينما أو أجهزة جراموفون، باستثناء الأسواق التي تلبي احتياجات أهلها، ومع ذلك أبدت إعجابها بالطابع المعماري المميز للمدينة.

أثناء إقامتها في جدة، استضافتها عائلة البريطاني المسلم “مستر فليبي”، المقرب من الملك السعودي، حيث أقامت في بيت يُعرف باسم البغدادي، منتظرة صدور الإذن لها لأداء فريضة الحج. وخلال تلك الأيام، زارها عدد من الشخصيات البارزة، من بينهم الأمير فيصل بن عبد العزيز، الذي سيعتلي لاحقًا عرش المملكة.
كما اغتنمت إيفلين الفرصة لاستكشاف معالم جدة والتجول في أسواقها وأزقتها الضيقة، وتروي أنها تناولت العشاء في الفندق الجديد الذي افتتح حديثًا لاستقبال الحجاج، وكان حينها يضم عددًا من المهندسين الأمريكيين الذين قدموا للتفاوض مع الملك بشأن الحصول على امتيازات نفطية.
وتروي أيضًا مشهدًا لافتًا من شوارع جدة، حيث كان الصيارفة يجلسون عند الزوايا يعرضون أموالهم، وما إن يُرفع الأذان حتى يتركونها مكشوفة وينطلقون إلى الصلاة دون أدنى خوف، واثقين أن لا أحد سيمد يده إليها، فمن بين الإصلاحات التي أجراها الملك الحالي، القضاء على السرقة تمامًا.
ومن المشاهد التي خلّدتها إيفلين في ذاكرتها عن جدة، لحظة رسو السفينة الإنجليزية “توليدو” كل أسبوعين، حاملةً البريد والسلع والصحف، حيث كان السكان يرقبون هذه السفينة بلهفة وقلق للتعرف على العالم، ومع مغادرتها تعود العزلة لتخيّم على المدينة من جديد.
وخلال إقامتها في جدة، راودت إيفلين شكوك حول ما إذا كان الملك عبد العزيز سيمنحها الإذن لأداء الحج، وتروي كيف كانت عيناها تلاحقان قوافل الحجيج المتجهة إلى مكة، متلهفة لليوم الذي تطوف فيه حول الكعبة، غير أنها فوجئت حين علمت أن الملك أُعجب بقصتها ووافق على منحها إذنًا خاصًا في 12 مارس. تصف تلك اللحظة قائلة: “لقد عشت نوبات من الأمل واليأس، حتى إنني بالكاد صدّقت أن أمنيتي الكبرى ستتحقق أخيرًا”. صـ57.
في المدينة المنورة
كانت أول محطاتها في رابغ، حيث استراحت لساعة، وزُوّدت السيارة بالماء والبنزين، وأثناء طريقها إلى المدينة المنورة، فُحص جواز سفرها عدة مرات من قبل الشرطة الوهابية التي وفّرت دوريات لحماية طريق الحجاج، وهو أمر كان جديدًا مقارنة بالماضي الذي شهد نهبًا واعتداءً على الحجاج الفقراء، كما مرّت إيفلين بأراضي القبائل البدوية التي كانت تهاجم الحجاج سابقًا، لكنها باتت تعتمد على التسول على جانب الطريق.
استغرقت رحلة إيفلين من جدة إلى المدينة المنورة 15 ساعة بسيارة فورد، ولمرة واحدة فقط، اضطر السائق والسوداني العجوز للنزول ودفع السيارة بعد أن علقت في وادٍ عمي،. بينما تستغرق قوافل الجمال نحو عشرة أيام، ويحتاج الحجاج الذين يسيرون على الأقدام إلى ثلاثة أسابيع لإكمال نفس الرحلة.
وصلت إيفلين إلى المدينة المنورة ليلًا، وأقامت في فندق حديث، حيث قضت أكثر من أسبوع في المدينة، زارت خلاله المسجد النبوي، وتروي أنها عندما وقفت أمام قبر النبي، شعرت برعشة من هيبة المكان، وسعادة لأنها عبرت العتبة التي نادرًا ما تخطاها رجال أوروبيون، ولم تطأها امرأة أوروبية من قبل كما زعمت.
تفاعلت إيفلين مع نساء المدينة المنورة، والتقت بأصدقاء قدامى من دمشق، كما نسجت علاقات جديدة مع شخصيات محلية بارزة، وتجولت في أبرز معالم المدينة المنورة، من جبل أحد إلى مسجدي قباء والقبلتين.
ورغم الحظر المفروض على الكاميرات، كانت إيفلين تحمل كاميرتها سرًا، فوثقت بعدساتها صورًا فريدة للمدينة ومساجدها ومعالمها، وتصف المدينة بأنها واحة من الهدوء والسكينة، خالية من الترام والحافلات والزحام، حيث تجولت في أسواقها التي أسرت قلبها، خصوصًا سوق العطور والفواكه الذي أعجبها كثيرًا.
ورغم أن زيارة قبور وأضرحة الشخصيات الإسلامية كانت جزءًا من الرحلة التقليدية لكثير من الحجاج، فإن الحكم السعودي ألغى هذه الممارسات ودمّر عددًا من تلك المواقع، وقد أيدت إيفلين هذا التوجه، ودافعت عن إزالة قبور وأضرحة آل البيت والصحابة.
تسرد إيفلين حوارًا دار بينها وبين بعض الحجاج المغاربة، حيث رأى بعضهم أن الصلاة عند قبور الشخصيات الإسلامية تُعد مخالفة لتعاليم الإسلام، لكنهم انتقدوا في الوقت ذاته شدة الوهابيين في تطبيق هذه الرؤية.
غير أن إيفلين لم تشاركهم هذا النقد، بل دافعت عن النهج الوهابي، معتبرة أن تسوية القبور بالأرض يعود إلى توجيه من النبي محمد نفسه، وقد رأت في السياسات الدينية السعودية تنظيمًا إيجابيًا للحج، واعتقدت أن الملك عبد العزيز هو الأجدر بحراسة الحرمين.
في تجوالها المسائي، لفت انتباه إيفلين تجمع الناس حول رواة القصص في المقاهي، وأسواق المدينة، ومخيماتها، حيث كانت هذه المهنة الشعبية حاضرة بقوة، إذ كان الحكواتي يروي بحماس حكايات من حياة الملك عبد العزيز بن سعود، منذ طفولته مرورًا باستعادة الرياض، وتوحيد القبائل، وانتصاراته على خصومه، وإرسائه النظام بعد أعوام من الفوضى.
غادرت إيفلين المدينة المنورة مثقلةً بألم الفراق، وودّعت أصدقاءها هناك، وقبلت منهم الهدايا التي أهدوها إليها. وانطلقت بالسيارة عائدةً إلى جدة وهناك اغتسلت وارتدت ملابس الإحرام، واستعدت للذهاب نحو مكة، منطلقة مجددًا بالسيارة.
في رحاب مكة
لم تستغرق رحلة إيفلين من جدة إلى مكة سوى ساعتين بالسيارة، بينما كان الحجاج يقطعونها على ظهور الجمال في يومين، وحتى عام 1933، كانت رحلة الحج بالسيارة حكرًا على الأسرة الحاكمة السعودية وكبار المسؤولين وقلة مختارة.
كانت تجربة الطواف حول الكعبة من أعمق اللحظات الروحية التي عاشتها إيفلين، إذ اجتاحها مشاعر من الدهشة والفرح والسكينة، وذكرت أن الطواف رمزٌ للعاشق الذي يطوف حول بيت محبوبه، مضحيًا بكل همومه، ومكرّسًا نفسه بالكامل من أجل محبوبه. وتصف اللحظة التي أبصرت فيها الكعبة للمرة الأولى قائلة:
“تأثرتُ عميقًا بتلك العيون التي تشع إيمانًا، وتلك الدعوات المتضرعة، والأيدي الممتدة برجاءٍ صادق. غمرتني حالة روحانية لم أشهدها من قبل. كنت واحدة من جموع الحجيج في استسلام تام لإرادة الله.. انضممت للحشود التي تطوف حول الكعبة، والسكينة تغمر روحي، والرضا يلف كياني، والإجلال يملأ قلبي”. صـ171.
ووسط الزحام الكبير في الحرم، سمعت إيفلين أن الملك عبد العزيز يغسل أرضية الكعبة بماء زمزم ويعطرها بماء الورد، وأرادت مشاهدة هذه المراسم، لكنها لم تتمكن بسبب حرارة الأرض، فتوجهت بدلًا من ذلك إلى بئر زمزم.
تجوّلت إيفلين في أحياء مكة وتعرّفت على عادات سكانها، وأعجبت بالمطوّفين وبقدرتهم على التواصل مع الحجاج بلغات متعددة، كما شهدت مواقف إنسانية لهم، مثل مساعدتهم للحجاج الذين أنهكهم السفر أو نفد مالهم، وتكفلهم بنفقات عودتهم إلى بلدانهم.
قدّمت إيفلين صورةً مؤثرةً لذلك التجمع السنوي، والذي كما قالت في مقدمتها، ليس مجرد أداء ركن مقدس، بل شبّهته بعصبة أمم، وأكاديمية دولية للفنون والعلوم، وغرفة تجارة دولية في آن واحد.
رأت إيفلين أن الحج يشكّل رمزًا لوحدة المسلمين، حيث يجمعهم من مختلف أنحاء العالم، ويتيح لهم التعارف وتبادل الخبرات وتوحيد الجهود، فتنصهر الفوارق العرقية والطائفية في أخوة دينية شاملة. وبعد أداء المناسك، يتحول الحج إلى منصة للنقاش في شتى المجالات: التجارة، الدين، العلم، الأدب، والسياسة، ليصبح بذلك مؤسسة دينية وثقافية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد.
وفي ظل الكساد الاقتصادي العالمي، عانت أسواق مكة من ركود شديد خلال زيارة إيفلين، وكانت المملكة الناشئة تعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات الحج كمصدر رئيسي للدخل، ففي موسم حج إيفلين سُجّل عدد الحجاج أدنى مستوياته. أما العملات المتداولة فكانت من الذهب فقط، إلى جانب العملة الفضية المعروفة بـ”دولار ماريا تيريزا”.
وتروي إيفلين أن الكعبة كانت مغطاة بكسوتها الجديدة المزخرفة بخيوط ذهبية بارزة، لكن الكسوة الجديدة لم تُوضع إلا يوم عيد الأضحى حين كان الجميع يحتفلون في منى، كما تشير إيفلين إلى أن الكسوة القديمة كانت تُقطّع وتُباع للحجاج في محلات خاصة قريبة من الحرم، كذلك تذكر إيفلين محاولة فاشلة لاستبدال النسج اليدوي للكسوة بآلات حديثة، إذ جُلبت الكسوة من مانشستر بتكلفة باهظة، لكنها انتهت بالعودة إلى الطريقة التقليدية.
وتشير إيفلين إلى أن المسجد الحرام يحتوي على عدة منابر يُلقي عليها علماء المذاهب الأربعة محاضراتهم، وأنه يعمل في المسجد أكثر من ثمانمائة خادم، بينهم مئة مخصي، تكون مهامهم خفيفة معظم السنة، لكنها تزداد خلال موسم الحج، حيث يعتنون بنظافة الحرم.
وفي تناقض مع دفاعها القوي عن تدمير القبور في المدينة المنورة، عبّرت إيفلين عن أسفها لهدم قبر زوجة النبي خديجة، وأضرحةً وقبابٍ تُجسّد الرقي والجمال. واستاءت أيضًا من إغلاق مسجد بلال.
في اليوم التاسع من إقامتها بمكة، جاءت اللحظة الحاسمة للانطلاق إلى منى وعرفات ورمي الجمرات، وخلال الطريق، مرت بقصر الملك الذي يستضيف كبار الحجاج، مما يتيح له التواصل المباشر مع المسلمين من مختلف أنحاء العالم وتبادل الأفكار، ولكن، ولأن إيفلين امرأة، لم يُسمح لها بالذهاب إلى هناك ولقاء الملك.
زارت مسجد الخيف وتسلقت الجبل الذي فيه غار حراء، ومرت بمناطق جبلية تكسوها نباتات طبية نادرة مثل البشام، الذي يرتبط بأسطورة النبي سليمان وملكة سبأ. ومن خلال روايتها لهذه الأيام، يُلاحظ أنها كانت تشعر بإرهاق شديد، لأنها لم تستطع تحمّل العودة إلى منى لقضاء أيام عيد الأضحى الثلاثة، ولذا طلبت إعفاءً خاصًا من الملك لتقصير حجها، فحصلت عليه.
مشاكل الحج
عبر التاريخ، كان الحج محفوفًا بالمخاطر، وتأثر الحجاج بالوضع السياسي في الحجاز، إلا أن إيفلين أشادت بالإجراءات التي اتخذتها السلطات السعودية لراحة وأمن الحجاج، من توفير المياه والمستوصفات المجانية، إلى بناء فنادق منظمة في المدن المقدسة، مع غرف مخصصة للنساء، وللأثرياء، وأخرى لكبار الشخصيات.
كما امتدحت التدابير الأمنية التي أنهت أعمال السلب في الصحراء، مؤكدة أن القبائل التي اعتادت على ذلك أصبحت تهاب العقاب الصارم من الملك.
وعلى وجه الخصوص، أشادت إيفلين بجهود الملك، مشيرة إلى أن الحج يحظى بمعاملة عادلة في ظل الحكم السعودي، مقارنةً بعهد الأشراف، كما أثنت على إصلاحات ابن سعود المدنية، مثل حظر استيراد العبيد، وتوفير رعاية اجتماعية للنساء، وتأسيس مستشفيات حديثة.
مع ذلك، فقد خاضت إيفلين تجربة حج مميزة، ولم يشكّل كونها امرأة عائقًا أمام رحلتها، وإن كانت مطالبة بارتداء البرقع في أماكن مختلفة، كما تنقلت إلى مكة والمدينة عبر وسائل النقل الفاخرة آنذاك، وفي وقت كان فيه استخدام السيارات في الحجاز امتيازًا مقتصرًا على الأثرياء.
وهذا على خلاف معظم الحجاج في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وقد لاحظت إيفلين بوضوح الفجوة الاقتصادية، وهي تراقب المشهد من مقعد سيارتها أثناء عودتها من المدينة المنورة.
ما بعد الحج: بداية جديدة
تُظهر تجربة إيفلين أن الحصول على اللقاح كان شرطًا أساسيًا قبل أداء الحج، تلاه فترة حجر صحي بعد العودة، حيث خضعت إيفلين لحجر صحي دام ثلاثة أيام في بورتسودان، ثم استكملت رحلتها بحرًا عبر السويس وبورسعيد إلى مرسيليا، ومنها جوًا إلى كرويدون، لتصل إلى منزلها بعد رحلة استغرقت نحو شهرين.
تُشير في مذكرتها إلى عودتها من تجربة الحج وهي تغمرها سعادة، كما أحبّت أن تتصور أنها أول امرأة بريطانية وأوروبية تؤدي الحج بإذن ملكي من الملك السعودي، وتختتم سرد تجربتها بكلماتها الأخيرة في كتابها:
“لن يطمس الزمان تلك الذكريات التي نُقشت في قلبي. ستظل بساتين المدينة وسكينة الجوامع وآلاف المصلين الذين مروا أمامي وأعينهم تفيض من الدمع خشوعًا، حاضرة في ذهني. لن أنسى جلال المسجد الحرام في مكة، ولا رهبة الوقوف على صعيد عرفات تحت شمس الصحراء وقلوبنا تنبض رجاءً ورحمة. لقد غمرتني لحظات من السعادة والرضا، وكأن روحي وُلدت من جديد. لم تجلب لي تلك الأيام سوى الخير، والجمال، والدهشة. لقد اكتشفت عالمًا لم أعهده من قبل، ووجدت فيه نفسي”. صـ301.
بعد أدائها فريضة الحج، أمضت إيفلين نحو 30 عامًا من حياتها بين لندن وضيعة عائلتها في اسكتلندا، واستمرت في الدفاع عن الإسلام والعرب، منتقدة الصور النمطية التي يروّجها الغرب، كما حرصت على نشر تجربة حجها من خلال إلقاء المحاضرات والترويج لقصتها في الأوساط الثقافية بلندن.
أوصت إيفلين بأن تُدفن وفقًا لتعاليم الإسلام، وأن تُقام عليها صلاة الجنازة بالعربية، ويوجَّه رأسها نحو مكة، وعند وفاتها عام 1963 في أحد أبرد أيام السنة، نُفذت وصيتها، فدُفنت عند سفح تلة في ضيعتها بويستروس، وأحضرت عائلتها إمامًا بريطانيًا لأداء مراسم الجنازة، كما نُقش على شاهد قبرها الآية القرآنية التي كانت تحبها: “الله نور السماوات والأرض”.
في السنوات الأخيرة، تحولت قصة إيفلين إلى مصدر إلهام للعديد من المسلمين في بريطانيا، حيث يحرص البعض على زيارة قبرها تكريمًا لمسيرتها، لا سيما من المسلمين الجدد الذين يرون في تجربة حجها مثالًا على الإيمان والتفاني.