في النصف الأول من القرن العشرين، كان الحجاز مسرحًا لتحولات جذرية، أبرزها توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932 بقيادة عبد العزيز آل سعود، بعد سنوات من الصراع مع القوى المحلية والدولة العثمانية، أما اقتصاديًا، فقد عانت المنطقة من شح الموارد قبل اكتشاف النفط، ما جعل موسم الحج المصدر الأساسي للدخل.
وسط هذا المشهد، خاض محمد أسد تجربة الحج عام 1927، ليس كحاجٍ تقليدي، بل كمفكر يهودي أوروبي اعتنق الإسلام حديثًا، واتخذ من رحلة حجه رمزًا لتحوله الروحي والفكري. وقد دون أسد هذه التجربة في كتابه “الطريق إلى مكة”، معبرًا عن مشاعر مختلطة جمعت بين الإعجاب والانبهار، وبين النقد والأسى لما رآه من فوضى تنظيمية، واستغلال اقتصادي، ومظاهر تدين سطحية أحيانًا.
روح قلقة: ما الذي دفعه للحج؟
وُلد محمد أسد باسم ليوبولد فايس عام 1900 في مدينة لفيف، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية (وتقع اليوم في أوكرانيا). نشأ في أسرة يهودية عريقة، انتمى عدد من أفرادها إلى طبقة الأحبار. وفي طفولته، تلقى تعليمًا دينيًا في مختلف فروع الدراسات اليهودية، وتمكن في سن 13 من قراءة اللغة العبرية والتحدث بها بطلاقة، كما ألمّ باللغة الآرامية، وهو ما سهل عليه لاحقًا تعلم اللغة العربية.
لكن مع تعمقه في دراسة التلمود، بدأ أسد يشعر بنفور متزايد من اليهودية، إذ لم يستطع تقبّل فكرة إله يكرس عنايته لشعب واحد فقط، وبعد خيبة أمله في العقيدة اليهودية، توجه للبحث في المسيحية، غير أن مفاهيمها عن الروح والجسد والخلاص لم تُقنعه، ولم تلامس تساؤلاته العميقة عن الوجود.
يروي أسد أنه نشأ على قناعة بأن الإسلام مجرد مسار من مسارات تاريخ البشرية، ولا يُقارن من حيث الأهمية أو القيمة الروحية بالديانتين المسيحية واليهودية، وهو ما جعله لا يلتفت إليه، وفي ظل تساؤلاته الوجودية وتشككه في المعتقدات الدينية السائدة، اعتبر أسد نفسه لا أدريًا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التحق أسد بجامعة فيينا لدراسة الفلسفة والفن، لكنه لم يلبث أن تركها نتيجة شعوره بعدم الرضا عن مضمون المحاضرات الأكاديمية، واختار أن يشق طريقه بعيدًا عن التعليم الرسمي، وبدأ يبحث عن عمل، ليكتشف شغفه بالصحافة، وانتقل إلى برلين، حيث التحق بوكالة الأنباء الأميركية يونايتد تلغراف، وهي الخطوة التي شكلت انطلاقته في عالم الصحافة.
ثم تلقى أسد دعوة من خاله دوريان، الطبيب النفسي المقيم في القدس وأحد تلامذة عالم النفس الشهير فرويد، حيث كان دوريان يعيش في عزلة داخل مجتمعه بسبب موقفه المعارض للصهيونية، ونظرًا لكونه أعزب، رأى في ابن شقيقته رفيقًا مناسبًا يقاسمه وحدته.
وبالفعل، زار أسد القدس لأول مرة عام 1922، وكانت تلك الزيارة منعطفًا حاسمًا في رؤيته للإسلام، إذ اكتشف أن الإسلام يختلف تمامًا عما صُوّر له في بيئته الأوروبية، وأنه بعيد عن الصورة النمطية المرتبطة بالعنف. وفي العام نفسه، بدأ عمله كمراسل لصحيفة ألمانية، والتقى بعدد من الزعماء الصهاينة، غير أنه رفض الاستيطان اليهودي في فلسطين، واعتبره غير أخلاقي، مبديًا تعاطفه مع العرب.
وبعد أن أمضى 18 شهرًا في الشرق الأوسط، عاد أسد إلى ألمانيا وكتب كتابًا بالألمانية بعنوان “الشرق غير الرومانسي”، تناول فيه قضايا مثل الصهيونية واستقلال مصر، ثم انطلق مجددًا في رحلة جديدة شملت مصر وسوريا والعراق وإيران وأفغانستان وتركيا وآسيا الوسطى.
خلال هذه الرحلات، تأثر أسد بحياة المسلمين وانبهر بكيفية تجسيدهم للإسلام في حياتهم كقوة تمنحهم معنى وجوديًا وسلامًا داخليًا، ويروي أنه نما لديه شغف بالعرب وأسلوب حياتهم، ووجد في مجتمعاتهم نظامًا اجتماعيًا ورؤية للحياة تختلف جذريًا عن النمط الأوروبي، وكان يتأمل بعين ناقدة الفروق بين القيم الإسلامية ومفاهيم الحداثة الغربية، محللًا التباينات العميقة في الرؤية للعالم والمعنى والغاية.
تعلم أسد اللغة العربية، وتعرف خلال رحلاته على عدد من الشخصيات المؤثرة، من بينهم الشيخ مصطفى المراغي الذي سيصبح لاحقًا شيخ الأزهر، وقد تركت لقاءاته مع العرب في فلسطين وسوريا أثرًا بالغًا في نفسه، كما يروي أسد أنه أثناء إقامته في هرات بأفغانستان، أتيحت له فرصة الحوار مع حاكم محلي حول الإسلام، وكان لهذا النقاش دور مهم في تعميق اهتمامه وانفتاحه المتزايد على الإسلام.
عاد أسد إلى ألمانيا عام 1926 وهو في 26 من عمره، وقد أصبح صحفيًا معروفًا، كما تزوج من الرسامة الألمانية إلسا التي شاركته اهتمامه بالإسلام. وفي سيرته، يروي لحظة فارقة ساهمت في اعتناقه الإسلام، فبينما كان هو وزوجته يستقلان مترو الطبقة الراقية في برلين عام 1926، لاحظ رجلًا أنيقًا وميسور الحال يجلس أمامه، لكن وجهه كان يعبر عن قلق وكآبة عميقة.
تأمّل أسد وزوجته كلّ الوجوه في العربة، وكانت كلها وجوهًا تنتمي إلى طبقة تنعم بملبس ومأكل جيد، إلا أن هذه الوجوه كانت تشي بتعاسة ومعاناة ظاهرة على ملامحها، فالتفت أسد إلى زوجته الرسامة التي اعتادت مراقبة تعابير الوجوه، وسألها: ما رأيكِ في وجوه هؤلاء الناس؟ فأجابت بدهشة: “كأنهم يعانون عذاب الجحيم”.
أثار هذا التناقض بين الرفاهية الظاهرة والكآبة استغراب أسد وزوجته، فلم يستطيعا فهم سبب الكآبة رغم تحسّن الظروف وفترة الرخاء التي كانت تمر بها البلاد، وعندما عاد إلى منزله، وجد أسد نسخة من الترجمة الألمانية للقرآن مفتوحة على مكتبه، وبينما كان على وشك إغلاقها، وقعت عيناه على سورة قصيرة بدت له وكأنها تفسّر المشهد الذي شاهده في المترو.
ناول أسد الكتاب لزوجته قائلًا: “اقرئي هذه السورة.. أليست هذه إجابة لما رأيناه في مترو الأنفاق؟” وكانت السورة التي أشار إليها هي سورة التكاثر. ويروي أسد أن تلك اللحظة كانت نقطة تحوّل حاسمة في حياته، إذ تولد لديه شعور يقيني بأن القرآن “كتاب موحًى من الله”، ويصف تلك اللحظة قائلًا:
“أيقنت أن تلك الآيات لم تكن نتاج حكمة رجل عاش من ثلاثة عشر قرنًا في الجزيرة العربية النائية عن أوروبا، لم يكن بمقدوره مهما أوتي من حكمة أن يتنبأ بهذا العذاب النفسي والمعنوي والتعاسة والجحيم الذي سيصيب أبناء القرن العشرين”. صـ370.
وفي اليوم التالي، دفعه هذا اليقين إلى زيارة مسجد في برلين، حيث التقى بإمام الجالية المسلمة وأبلغه برغبته في أن يصبح مسلمًا، فأمسك الإمام بيديه وردّد أسد الشهادة خلفه، وعندما أخبره أن اسمه “ليوبولد” أي الأسد بالعربية، اقترح عليه الإمام أن يتخذ اسم “محمد أسد”، فقبله، وظل ملازمًا له طيلة حياته.
من قلب أوروبا إلى مكة
بعد إسلامه بفترة وجيزة، غادر أسد أوروبا في عام 1927، في رحلة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل تحوّل فكري وثقافي عميق، فانطلق مع زوجته إلسا وابنهما نحو مكة لأداء فريضة الحج. استقل سفينة عبر البحر المتوسط، وبينما كانت الرحلة تمضي، كان يترك أحيانًا قمرته الفاخرة في الطابق العلوي ليجلس بين المسافرين في الدرجات السفلى الرخيصة.
وفي السفينة، التقى أسد بمجموعة من اليمنيين العائدين من مرسيليا، كان بينهم رجل نحيف هادئ ومتزن، أبدى له مودة صادقة فور معرفته بإسلامه، وكانا يجلسان لساعات على سطح السفينة يتحدثان عن اليمن وتفاصيل الحياة فيها.
وفي إحدى الأمسيات، وجد أسد أحد اليمنيين يعاني من الحمى، وقد تجاهله طبيب السفينة. سارع أسد إلى إعطائه حبوب الكينين، ما أثار امتنان رفاقه اليمنيين الذين اجتمعوا لاحقًا وقدموا لأسد هدية مالية تعبيرًا عن محبتهم وتقديرهم لإسلامه، ورغم تردده في قبولها، أصروا قائلين له إنها رمزٌ للأخوة والمحبة، فقبلها أخيرًا.
وصلت السفينة إلى ميناء السويس، ثم تابعت طريقها نحو ميناء رابغ، حيث لاحظ أسد أن حجاج شمال إفريقيا يبدأون ارتداء ثياب الإحرام عند هذا الموضع، وعندما رست السفينة أخيرًا في جدة، انبهر أسد بمشهد الحجاج وهم يرتدون البياض وينشدون بصوت عالٍ ومفعم بالإيمان: “لبيك اللهم لبيك”. رأى في تلك اللحظة تتويجًا لسنوات طويلة من البحث الروحي، وكان الشعور ذاته يملأ قلب زوجته إلسا التي شاركته نفس الشعور.
وعند وصوله إلى جدة، أبدى أسد إعجابه بطابعها المعماري، فوصف منازلها بواجهاتها المصقولة بعناية، ونوافذها المؤطرة بخشب متقن الصنع، وشرفاتها المحجوبة بستائر خشبية تتيح لأهل الدار رؤية الشارع دون أن تُكشف خصوصيتهم، وفي قلب جدة، لفت نظره ارتفاع مئذنة بيضاء تُضفي على المشهد روحانية خاصة.
كما انبهر أسد بأسواق جدة التي رأى فيها خليطًا من مدن الشرق، بأسقفها المغطاة التي تقي الزائرين حر الشمس، ومطابخها المفتوحة التي تنبعث منها رائحة اللحم المشوي، والمقاهي التي تعج بالناس، والدكاكين التي تعرض سلعًا متنوعة من أوروبا والشرق.
وقد أدهشه التنوع البشري في جدة، حيث اجتمعت أعراق وثقافات متعددة في مدينة كانت حينها الوحيدة في الحجاز التي يُسمح فيها لغير المسلمين بالإقامة فيها، فامتلأت شوارعها باللافتات الأوروبية، والملابس، والأعلام الأجنبية، مما أضفى على جدة طابعًا عالميًا.
لم يطل مقام أسد في جدة، إذ سرعان ما غادرها ممتطيًا جملًا ضمن قافلة متجهة إلى مكة، وفي الطريق، شاهد حشود الحجاج والبدو والجمال والحمير، إلى جانب السيارات الحديثة التي أثارت خوف الجمال، فكانت الأخيرة تهرب مذعورة وترتبك.
ويروي أسد أن القافلة كانت تضج بتنوع الأصوات واللغات، من تلبية الحجاج وهتافاتهم، إلى غناء النساء في حب الرسول، وغطرفتهم الاحتفالية التي أضفت جوًا من البهجة على المسير.
في رحاب مكة والمدينة
من اللافت أن أسد دخل مكة دون عائق، رغم أن السلطات السعودية أصدرت وقتها قانونًا يلزم المسلمين الجدد بالانتظار في جدة لمدة عام قبل دخول مكة، لكن كان أسد قد نسق مسبقًا من جدة للإقامة لدى المطوف المعروف حسن عابد.
ووسط فوضى الزحام، بدا العثور عليه أو على منزله شبه مستحيل، وفجأة، دوى صوت في الزحام ينادي: “أين حجاج حسن عابد؟” وما هي إلا لحظات حتى ظهر شاب أمامهم كأنه خرج من العدم، وأخبرهم أن حسن عابد أرسله ليقودهم إلى المنزل.
يروي أسد أن بيوت مكة تشبه نظيرتها في جدة من حيث النوافذ الخشبية والشرفات، إلا أن حجارتها أثقل، وحرارة مكة أشد، وشوارعها أضيق وغير معبدة، وتعج بأعداد كبيرة من الحجاج، وسط وجود سقاة يوزعون الماء على العابرين.
بعد تناول إفطار فاخر، خرج أسد برفقة الشاب الذي استقبله سابقًا، متجهين إلى المسجد الحرام، عبرا شوارع مزدحمة تعجّ بالضجيج، مرورًا بمحلات الجزارة وبائعي الخضار وسوق الملابس المليء بالألوان والبضائع من شتى بقاع العالم الإسلامي.
شاهد أسد لأول مرة ساحة الحرم الداخلية، التي تقع أسفل مستوى الشارع، وفي وسطها، برزت الكعبة، ذلك البناء البسيط الذي كان عبر العصور مقصد ملايين الحجاج ورمزًا لتضحياتهم وأمانيهم.
يروي أسد أنه زار مساجد وقصورًا رائعة في شمال إفريقيا، والقدس، وإسطنبول، وإيران، وآسيا الصغرى، وأعجبته تفاصيلها وزخارفها، لكنه لم يشعر بالرهبة كالتي انتابته أمام الكعبة، ففي بساطتها، وجد أسد في الكعبة تجسيدًا عميقًا للتوحيد، وكأنها تعبر عن التخلي عن الذات، حاملة عظمة لا تضاهيها أي عمارة في العالم.
وبين أزقة الحرم والأسواق، عاش أسد تجربة ثقافية وروحية غنية، اختلطت فيها مشاعر الإيمان العميق والتواصل الإنساني مع حجاج من شتى بقاع الأرض، فيذكر أنه التقى بمجموعة من الحجاج الهنود الذين شجعوه على زيارة الهند، وشعر بدفء الجماعة وقوة الإيمان المشتركة، ولذا يرى أسد أن عظمة الحج تكمن في توحيد ثقافات متنوعة من مختلف أنحاء العالم في كيان واحد حي، يجمع الجميع على هدف مشترك يتجاوز كل الاختلافات.
بعد قضائه تسعة أيام في مكة أثناء موسم الحج، توفيت زوجة أسد إثر مرض مفاجئ بدأ بوعكة صحية بسيطة ناجمة عن الحر والنظام الغذائي غير المعتاد، لكنه سرعان ما تطور إلى مرض غامض لم يتمكن الأطباء السوريون في مستشفى مكة من علاجه.
غمر الحزن قلب أسد، ودفن زوجته في مقبرة مكة، حيث وضع حجرًا بلا نقش على قبرها، وعندما علم الملك بالحادثة، دعا أسد للقاء، ومنذ ذلك الحين نشأت بينهما علاقة وثيقة، كما يروي أسد في كتابه.
وبعدها زار أسد المدينة المنورة التي اعتبرها وطنه، ووصف شوارعها الهادئة التي تعمّها سكينة، والتقى بأهل المدينة، وتجول في سوقها الحيوي النابض بالحياة، حيث ينادي الباعة بأغاني لجذب الزبائن. كما شاهد المآذن الخمس لمسجد النبي، والقبة الخضراء التي تغطي قبره، إضافة إلى جبل أُحد.
ويعبّر أسد عن حبه العميق للنبي محمد، ويشعر بحضوره القوي في المدينة المنورة، ويتعجب من مدى حب المسلمين للمدينة حبًا لا مثيل له لأي مدينة في العالم، وكيف استطاعت هذه المدينة أن تحظى بهذا التعلق العميق لشخص عاش ومات قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ويقول أسد عن المدينة المنورة:
“على مدى ما يزيد عن ألف وثلاثمائة عام، يتجمع الحب هنا، حتى إن كل ألوان البشر، وكل تعبيرات وجوههم وحركتهم، تكتسب نوعًا من التماثل الأسري الواحد، كل اختلاف في الشكل والمظهر يدخل في تحول فرعي حتى يصبح تجانسًا واحدًا”. صـ299.
ملاحظات أسد
كوّن أسد صداقة مع الملك عبد العزيز، وقدّم له المشورة في الشؤون الصحافية والسياسية، وأثناء إقامته في المدينة المنورة، كلّفه الملك برحلة استطلاعيّة إلى الكويت للتحقق من مصادر الأموال والأسلحة التي كانت تتدفّق إلى فيصل الدويش، الثائر على حكم ابن سعود.
لقد أمضى أسد نحو ست سنوات يجوب معظم أنحاء الحجاز، عاش خلالها بين البدو، ونام في الخيام وتحت السماء في الصحراء، ورغم خلو تلك السنوات من المخاطر الكبرى، إلا أنه واجه موقفًا خطيرًا وحيدًا حين تاه في الصحراء وكاد أن يهلك عطشًا.
ووصف أسد شدّة الحر والتعب والزحام في رحلته الأولى إلى مكة، حيث شهد ظروفًا صعبة على السفينة التي كانت تقلّ حجاجًا من مصر وشمال أفريقيا إلى جدة، كانت السفينة مكتظة بشكل غير إنساني على السطح وفي القمرات والممرات، حيث حُشر الناس في كل زاوية، بما في ذلك النساء والأطفال، بسبب جشع شركة السفن التي فضّلت الربح على سلامة الحجاج.
يروي أسد أن كل حركة على هذه السفن كانت عذابًا بسبب هذا الزحام الشديد، إذ كان الحجاج يتكدسون حول صنابير المياه القليلة للوضوء في أوقات الصلاة، ولم يشغل بالهم سوى أداء فريضة الحج، فصبروا على كل الصعوبات التي كان يمكن تفاديها لولا جشع شركات السفن.
أيضًا أشار أسد إلى الأعباء المالية الكبيرة التي فرضتها السلطات السعودية على الحجاج، وركّز على مشاهد الفوضى العارمة التي شهدها خلال موسم الحج 1927، حيث تداخلت حمير وجمال محملة بالأمتعة وسط صخب وضوضاء عالية في الحرم، ووصف المشهد قائلًا: “كأن الحج الذي يُقام سنويًا حدث فجأة ودون أي استعداد”.
كما انتقد أسد الحركة الوهابية، معتبرًا أن دعوتها كان من الممكن أن تحقق تحرير الإسلام بالكامل من الخرافات التي شوَّهت جوهره الحقيقي، إلا أن قصر نظر أتباعها وسعيهم لإجبار الناس على أداء الشعائر الدينية بشكلٍ قاسٍ أعاقا هذا الهدف.
وفي تحليله لشخصية الملك السعودي، يرى أسد أنه كان كريمًا وعادلًا في حياته الشخصية، ووفيًّا لأصدقائه، ومتسامحًا مع خصومه، ويمتلك ذكاءً فطريًّا يفوق كثيرًا من معاصريه، إلا أنه كان يفتقر إلى رؤية شاملة وقيادة ملهمة.
ورغم أنه وفَّر الأمن بعد أن استكمل سيطرته على مناطق نجد، حائل، الحجاز، والمدينة، إلا أنه اعتمد في ذلك على فرض قوانين صارمة، كما أنه، رغم إرساله بعض الشباب للدراسة في الخارج، لم يسعَ لنشر التعليم بين عامة شعبه، ولم يبذل جهدًا حقيقيًّا لبناء مجتمع عادل ومتقدم يعكس القيم الإسلامية.
الحج كنقطة انطلاق جديدة
بعد أدائه الحج عام 1927، تغيَّرت حياة أسد جذريًّا، واصفًا تجربة الحج بأنها ولادة روحية جديدة، وأقوى تجربة مر بها في حياته. وأمضى نحو ستة أعوام بين مكة والمدينة يدرس علوم القرآن والحديث على يد علماء بارزين، ويقيم علاقات مع شخصيات مؤثرة، مكرِّسًا جهوده لتعميق فهمه للإسلام، خاصة في مكتبة مسجد الرسول.
وقد وصف تلك الفترة بقوله: “قضيتُ أكثر من خمس سنوات في الجزيرة العربية، معظمها في المدينة المنورة، لأتمكن من معايشة البيئة الأصلية التي بشَّر فيها النبي العربي بهذا الدين”.
ترسَّخ اقتناع أسد بأن الإسلام، رغم عيوب المسلمين، هو أعظم قوة دافعة عرفتها البشرية. ومنذ حجه الأول، كرَّس حياته للدفاع عن الإسلام، وشرح حقيقته، وتصحيح صورته في الغرب، بجانب خدمة قضايا المسلمين.
فقد كان أسد من المؤيدين للكفاح المسلح الذي قاده السنوسيون في ليبيا، حتى إنه سافر للقاء عمر المختار، ووفقًا لما رواه، فقد قام بمهمة سرية إلى برقة نيابةً عن السنوسي الكبير السيِّد أحمد لنقل خطط لعمر المختار لمواصلة المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي.
ثم في عام 1932، غادر أسد السعودية مدفوعًا برغبته في الدفاع عن مجتمعات إسلامية مختلفة في تركستان، والصين، وإندونيسيا. وبفضل تشجيع أصدقاء هنود مسلمين التقى بهم في مكة، قرر زيارة الهند، وهناك دعاه محمد إقبال للمشاركة في مشروع تأسيس دولة باكستان. واستمر أسد في نشاطه مع مسلمي الهند، وساهم بشكل فعّال في قيام باكستان عام 1947، وحصل هو وعائلته على الجنسية الباكستانية.
استقال أسد من جميع مناصبه في باكستان، واستقر في سويسرا لمدة عشر سنوات، قبل أن ينتقل إلى مدينة طنجة بالمغرب. وبين عامي 1964 و1980، كرَّس جهوده لإعداد ترجمة وتفسير جديدين للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، كما أبدى اهتمامًا مبكرًا بالحديث الشريف، والذي تُوّج بترجمته لصحيح البخاري خلال فترة إقامته في الهند.
ثم في عام 1982، انتقل أسد من طنجة إلى إسبانيا، حيث عاش هناك حتى وافته المنية صباح يوم الخميس 20 فبراير/شباط 1992، ودُفن في مقبرة إسلامية صغيرة بمدينة غرناطة، غير أن رحيله لم يُنهِ صلته العميقة بالمسلمين، فكتاباته تظل شاهدة على شغفه العميق بالإسلام، وجهوده المتواصلة لنقله إلى العالم.