تتسارع خُطى الأحزاب السياسية العراقية لرسم ملامح كتلها الانتخابية، واختيار المرشحين، وبناء تحالفات جديدة تمهيدًا لدخول الانتخابات التشريعية المقبلة، التي من المقرر إجراؤها في 11 نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
ووسط احتدام الصراع على الدورة الانتخابية السادسة التي تعقب الغزو الأميركي عام 2003، يبدو أن التحالفات السياسية والانتخابية لا تزال بعيدة عن الخروج من طور الطائفية والمناطقية والمذهبية، لا بل يزداد الأمر انقسامًا وتشظّيًا، حيث تشهد الكتل السياسية التقليدية الشيعية والسنية انقسامًا وتشظّيًا متتاليًا.
وتُعد التيارات السياسية الشيعية الأكثر انقسامًا وتشظّيًا، حيث يرى مراقبون للشأن السياسي أن هذا الانقسام ناتج عن تراجع نفوذ قوى تقليدية شيعية لصالح أُخرى، في ظل وضع إقليمي وتأثير إيراني لا يزال حاضرًا في العراق، لكنه غاب عن بقية دول الإقليم، بما شجّع بعضًا من الكتل والشخصيات الشيعية على محاولة الخروج – ولو شكليًا – من عباءة التسلط الإيراني على العراق.
ما مستقبل الإطار التنسيقي؟
بعد أربع سنوات على الإعلان عن تشكيل ما يُعرف بـ”الإطار التنسيقي”، الذي يُعد المظلة السياسية الجامعة لجميع الكتل السياسية الشيعية باستثناء التيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر، بات مصير هذا التحالف الذي تأسس في مارس/آذار 2021 مشكوكًا فيه، سيما مع تصريحات قائد ميليشيا “عصائب أهل الحق” وزعيم حركة “صادقون السياسية”، قيس الخزعلي، الذي أكد فيها أن تجربة الإطار التنسيقي نجحت في المرحلة الحالية، وأنها لن تكون كافية للمرحلة القادمة، ولن تلبي الطموحات.
ولا تبدو الكتل الشيعية متحدة حتى في مواقفها السياسية من الوضع الداخلي للبلاد، خاصة مع تفاقم الضغوط الأميركية على الحكومة العراقية فيما يتعلق بملف الحشد الشعبي ووجوده السياسي والعسكري، فضلًا عن سلاح الحشد، وتهديد واشنطن المستمر للحكومة، وتلميحاتها بمزيد من الضغوط التي قد تكون اقتصادية هذه المرة.
التنافس الانتخابي، واختلاف الرؤى السياسية، والمصالح الاقتصادية، والتوجهات الإقليمية والدولية، أدى بالمحصلة إلى تشتت قوائم الإطار التنسيقي، فرئيس الوزراء العراقي الأسبق، الذي يتزعم ائتلاف دولة القانون، أعلن عن خوضه غمار الانتخابات القادمة مع حزب الفضيلة، بصورة منفردة عن بقية تيارات الإطار التنسيقي.
فيما يترأس رئيس الوزراء محمد شياع السوداني “تيار الفراتين”، إذ كان هذا التيار أول من دخل التنافس الانتخابي بإعلانه عن تسجيل كيانه السياسي لدى مفوضية الانتخابات، والذي يضم وجوهًا بارزة من الشخصيات السياسية، على رأسها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي.
بيد أن أسّ الصراع الانتخابي ينكشف أكثر من خلال ترشيح رئيس الوزراء السوداني على محافظة بغداد رفقة كل من نوري المالكي، وإياد علاوي، وهادي العامري، وغيرهم من سياسيي الشيعة، وهو ما يؤكد أن الصراع الشيعي الداخلي بات متفاقمًا أكثر من ذي قبل، خاصة أن السوداني ينحدر من محافظة ميسان، وكان قد وصل إلى البرلمان من خلال محافظته عبر 3 دورات برلمانية سابقة.
زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي أكد وجود اختلافات في وجهات النظر وليس خلافات داخل الإطار، معتبرًا أن تجربة الإطار الحالية لم تعد كافية للمرحلة المقبلة، وأنه بحاجة إلى نظام داخلي جديد، بما يؤشر كذلك إلى عدم تفاهم أقطاب الإطار على كثير من الملفات الداخلية والإقليمية، وعلى رأسها ملف الحشد والعلاقة مع الدولة السورية الجديدة.
مصالح متشابكة
في غضون ذلك، يبدو أن القوة الجامعة للكتل السياسية الشيعية داخل العراق لم تعد بذات القوة التي كانت عليها فيما مضى، فإيران التي كانت ولا تزال تتحكم بالمشهد السياسي للعراق باتت منشغلة الآن، وإلى حد لا يُستهان به، بمفاوضاتها مع واشنطن حول البرنامج النووي، ومحاولة طهران تخفيف وطأة العقوبات الغربية، إضافة إلى الصدمة التي لم تستفق منها حتى الآن فيما يتعلق بخسارة حلفائها، سواء في سوريا عبر سقوط نظام الأسد، أو في لبنان واليمن من خلال الضربات التي تلقاها حزب الله والحوثيون عبر حربهما مع إسرائيل، وتخوّف النظام الإيراني من وصول الاشتباك إلى حلفائه في العراق.
ويذهب في هذا المنحى الباحث السياسي والأمني حسن العبيدي، الذي يرى أن الدور الإيراني لم يتراجع في العراق، لكن وطأته وسطوته السياسية خفّت ولو مرحليًا، حيث يتضح ذلك من خلال فقدان بوصلة التيارات السياسية الشيعية وموقفها من النظام السوري الجديد، والخلاف البيني داخل الإطار حول لقاء رئيس الوزراء العراقي بالرئيس السوري أحمد الشرع في الدوحة، أو في الخلاف الذي رافق احتمالية حضور الشرع لقمة بغداد العربية التي انعقدت منتصف الشهر الجاري.
أما فيما يتعلق بالانتخابات والتحالفات السياسية التي سُجّلت لدى المفوضية العليا للانتخابات، يؤكد العبيدي حديثه لـ”نون بوست” أن تحركات القوى الشيعية تأتي من إدراكها للدور الإيراني المتراجع حاليًا في مختلف دول الإقليم، بما أدى لدخول هذه الكتل بصورة منفردة للانتخابات دون أن يكون لها مظلّة جامعة، فيما يبدو أنها خطوة محسوبة المخاطر، وقد يتبعها توجُّه هذه التحالفات تحت مظلّة سياسية جامعة بعد الانتخابات إذا ما عادت فاعلية التأثير الإيراني، الذي يعتمد على مفاوضات الأخيرة مع واشنطن ومآلات تهديدات إسرائيل باستهداف البرنامج النووي الإيراني.
ويبدو أن كتل الإطار التنسيقي تعمل بصور متعددة، معتمدة على المحافظات وثقلها الانتخابي والديموغرافي، حيث يؤكد الصحفي أحمد محمد لـ”نون بوست” أن الكتل السياسية الشيعية دخلت في تحالفات انتخابية موحدة في المحافظات التي تتصف بالخليط المذهبي، في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك، وهو ما يُعد خطوة مدروسة من الإطار التنسيقي لاكتساب مزيد من المقاعد البرلمانية على حساب هذه المحافظات التي يغلب عليها المذهب السني، وهو ما حدث في الانتخابات الماضية، حيث استغل الإطار الخلافات السياسية السنية الداخلية وانتزع عدة مقاعد برلمانية من هذه المحافظات.
ولا يبدو مصير الإطار التنسيقي واضحًا في المرحلة الراهنة، إذ إن العوامل الداخلية والخارجية لا تزال حاضرة، وتأثيراتها مستمرة، فالتيار الصدري الذي لا يزال مقاطعًا للعملية السياسية يمكن له أن يقلب المعادلة السياسية داخل الإطار إذا ما قرر العودة للمشاركة السياسية، بما قد يُمكّنه من الحصول على 73 مقعدًا في البرلمان – أسوة بالانتخابات الماضية – مما سيؤدي إلى انتزاع هذه المقاعد من حصة الإطار ذاته.
عوامل أخرى لا تزال حاضرة كذلك، وهي العوامل الخارجية واحتمالية تطور الأوضاع الإقليمية فيما يتعلق بالحرب على إيران، أو اندفاع واشنطن في تنفيذ تهديداتها للحكومة العراقية، وهو ما يضع مستقبل الانتخابات ونتائجها على محك كبير يُضاف إلى المشكلات الآنفة الذكر.