تدخل حرب الجنرالات في السودان منعطفًا جديدًا من التصعيد، حيث احتدام القتال بين الجيش الوطني، وقوات الدعم السريع، في إقليم كردفان بولاياته الثلاثة، شمال وجنوب وغرب، والتي تشكل فيما بينها ما يٌعرف سودانيًا بـ “كردفان الكبرى”، حيث المواجهات الضارية على مدار أيام عدة تبادل فيها الطرفان منصات النصر والهزيمة وسط خسائر كبيرة في صفوفهما.
وكان الجيش السوداني قد نجح في السيطرة الكاملة على ولاية الخرطوم في 20 مايو/أيار الماضي، واستطاع تجريد ميليشيا الدعم من الكثير من المكاسب التي حققتها على مدار أكثر من عام ونصف من تلك الحرب، غير أن الأيام الأخيرة شهدت استفاقة نسبية في نشاط وأداء الدعم بفضل المساعدات العسكرية التي حصل عليها خارجيًا والتي يتهم الجيش الإمارات بالوقوف خلفها وتأجيج المشهد القتالي داخليًا.
الفيديو المريع الذي يصور دهس أحد مصابي معارك كردفان بواسطة عربة يقودها جنود في الدعم السريع والتلذذ بتعذيبه، هي تجلي آخر لوحشية تفتقر الحد الأدنى من الإنسانية تصدمنا بها هذه الحرب في كل يوم تستمر فيه. هذه الجرائم تستوجب محاسبة مرتكبيها، وعدم التهاون معها تحت أي ذريعة من الذرائع.…
— Khalid Omer Yousif (@KHOYousif) May 31, 2025
وتمثل معركة كردفان واحدة من أهم المعارك التي يخوضها الجيش السوداني، إذ أن السيطرة على هذا الإقليم ذو الموقع الاستراتيجي اللوجستي الهام في وسط البلاد، تفتح الباب على مصراعيه أمام الجولة الأخيرة في تلك الحرب، حيث إقليم دارفور غربًا، المعقل الرئيسي لميليشيا الدعم، وتكتب بشكل عملي السطر الأول في نهاية قوات الدعم وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي لا يجد غضاضة في توظيف أي ورقة كانت – داخلية أو خارجية- لاستعادة نغمة الانتصارات المفقودة مرة أخرى.
ويشهد السودان الجريح، منذ 15 إبريل/نيسان 2023، حربًا شعواء بين جنرالاته، الجيش الوطني بقيادة عبد الفتاح البرهان من جانب، وميليشا الدعم السريع بقيادة دقلو من جانب أخر، وهي الحرب التي سقط فيها مئات الآلاف بين قتيل وجريح، فيما شٌرد الملايين داخليًا وخارجيًا، وسط تعدد اللاعبين الخارجيين داخل المشهد مما ساهم في إطالة أمد الحرب واتساع رقعة خسائرها.
كردفان.. المعركة الأهم قبل دارفور
خلال الفترة من 13 – 23 مايو/أيار الماضي كثف الجيش السوداني من عملياته في إقليم كردفان (تبلغ مساحته أكثر من 376 ألف كيلومتر مربع) لتحقيق أكبر قدر ممكن من الانتصارات، وبالفعل في غضون عشرة أيام فقط نجح في السيطرة على منطقة الحمادي في ولاية الجنوب، ومنها إلى مدينة الدبيبات في الولاية ذاتها، ثم استعاد سيطرته السابقة على مدينة الخوي في ولاية غرب، وهي المدينة التي تبعد عن مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال بنحو 108 كيلومترات، وتعتبر ذات موقع استراتيجي لوجستي يربط بين ولايات الإقليم الثلاثة.
وأمام تلك التحركات شنّت قوات الدعم هجومًا مضادًا في محاولة لاستعادة بعض المناطق التي سُحبت منها، لتعلن الخميس 29 مايو/أيار الماضي استعادتها للمناطق التي فقدتها، ففي بيان لها على منصة تليغرام قالت إنها هاجمت مدينتي الخوي (غرب) والدبيبات (جنوب) وأنها استعادتهما مرة أخرى، معتبرة أن “تحرير المنطقتين يُرسّخ السيطرة الكاملة لقواتها على معظم إقليم كردفان”، كما أعلنت سيطرتها على منطقتي الحمادي وكازقيل وأم صميمة (شمال)، والتي تقع على مقربة من الأبيض، عاصمة الولاية التي يسيطر عليها الجيش السوداني منذ بداية الحرب.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه ميليشيا حميدتي سيطرتها على إقليم كردفان نشر جنود من الجيش صورًا من داخل العديد من المناطق المزعوم السيطرة عليها، مساء الجمعة 30 من الشهر الماضي، معلنين تحريرها بالكامل وهيمنتهم المطلقة عليها، وسط تباين في البيانات والتصريحات بشأن ما تحقق ميدانيًا بين الجيش وقوات الدعم، في ظل التعتيم الإعلامي المفروض على الكثير من التطورات الميدانية.
استماتة الدعم
يعلم حميدتي جيدًا أن خسارته لمعركة كردفان تعني عمليًا بداية النهاية بالنسبة لحضوره في المشهد، إذ أن فقدان السيطرة على هذا الإقليم ستضع الجيش على أبواب دارفور، التي ستكون الجولة الأخيرة في تلك الحرب الممتدة منذ أبريل/نيسان 2023، وعليه تستميت ميليشيا الدعم لتفويت الفرصة على البرهان وجيشه لتحقيق الانتصار المأمول.
ومن هنا دشّن حميدتي خط اتصال مفتوح مع حلفاءه في الخارج وعلى رأسهم الإمارات التي زارها قبل شهرين في أعقاب خسارته للعاصمة الخرطوم، حيث طلب المزيد من الدعم لاستعادة بعض خسائره لتحقيق التوازن الميداني بما يخدم طموحه العسكري ويبقيه على قيد الحياة السياسية من جانب، وفي ذات الوقت يخدم مصالح (أجندة) أبناء زايد في السودان من جانب أخر.
وحاولت الميليشيا السودانية خلال الأيام الأخيرة التمترس بشكل مكثف في ولايات الشمال والغرب، حيث العمل على قطع الطريق أمام الجيش للوصول إلى ولاية الجنوب، حيث تمركز الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو، الحليف الموثوق لدى حميدتي، والعمل لمنع قوات البرهان من الوصول إليها ومحاصرتها مما يمثل خسارة عسكرية كبيرة.
وبجانب كونها معركة سياسية وعسكرية فهي معركة اقتصادية كذلك، فالإقليم الذي يعد واحدًا من أكبر أقاليم البلاد، يمتلك ثروة حيوانية هائلة، حيث عشرات الآلاف من قطعان الماشية التي تعذي معظم الولايات باللحوم والخراف والماعز، هذا بخلاف ثرواتها المعدنية والطبيعية إذ تعد أبرز مصادر الصمغ العربي والعديد من المحاصيل الزراعية.
وهناك بعد اجتماعي أخر في تلك المعركة، يغرد منفردًا بعيدًا عن بعدها السياسي العسكري الاقتصادي، إذ يحتضن الاقليم عشرات القبائل والعائلات والعشائر الموالية لقوات الدعم، تمثل حاضنة شعبية واجتماعية لها في تلك الولاية، وفي حال فقدانها ستكون الخسارة فادحة على المستوى القبلي الاجتماعي وهو ما يخشاه حميدتي ويستميت لأجل ألا يحدث.
وفي خطاب له أمام عدد من عناصره طالب عبدالرحيم دقلو، شقيق حميدتي ونائبه في قيادة قوات الدعم، عناصره في جميع الجبهات بما أسماه “مواصلة الزحف”، متوعدًا بالسيطرة على مدن الأبيض وكوستي والخرطوم وأم درمان وبورتسودان، منوها أن قواته لا تقاتل وحدها بل معها كل قوات تحالف “تأسيس” (تحالف مكون من أحزاب وكيانات مسلحة مؤيدة للدعم)، منها قوات الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة “تحرير السودان المجلس الانتقالي” بقيادة الهادي إدريس، و”تجمع قوى تحرير السودان” بقيادة الطاهر حجر، و”حركة العدل والمساواة” التي يقودها سليمان صندل.
الأرض المحروقة.. استراتيجية حميدتي لتعويض خسائره
بعد الضربات التي تلقاها الدعم السريع خلال الأشهر الماضية والخسائر التي مُني بها على أيدي الجيش، وسط تصاعد الحديث عن قرب انتهاء المعركة بالإعلان رسميًا وعمليًا بالهزيمة النكراء للميليشيا، يحاول حميدتي قلب الطاولة مرة أخرى والتأكيد على أن الحرب لم تنته بعد، وأن النزال لا زال قائمًا، مستخدما لأجل ذلك سياسة الأرض المحروقة وتدمير كل شيء ينبض بالحياة.
وعليه جاء استهداف المشافي والمراكز الصحية والمطارات والمدارس ومحطات الكهرباء والمياه والمرافق الخدمية العامة والطرق ووسائل المواصلات، في محاولة لإصابة الساحة السودانية بالشلل التام، وفي ذلك رسالة مباشرة وصريحة للمواطن السوداني وترهيب نفسي واضح وممنهج يحاول حميدتي من خلاله تجريد الجيش من حاضنته الشعبية.
ومنذ بداية مايو/أيار الماضي وتشن قوات الدعم هجوما بالمسيرات على العديد من المدن والولايات، أبرزها بورتسودان (شرق)، العاصمة الإدارية الجديدة للحكومة السودانية، حيث استهدفت القاعدة الجوية بالمدينة، بجانب البنى التحتية ومستودعات الوقود، وهي الهجمات التي حاولت بها الميليشيا التأكيد على قدرتها على الوصول لأي مكان في أي من مناطق البلاد بفضل المسيرات التي حصلت عليها من حلفاءها في الخارج.
وكان الجيش السوداني قد أعلن السبت 31 مايو/أيار الماضي تصديه بالصواريخ المضادة للطائرات لمسيرات حلّقت في أجواء بورتسودان، وفقا لشهود عيان، وذلك بعد فترة هدوء نسبي لم تستغرق أكثر من أسبوع، في ظل إصرار متنامي لدى الميليشيا لاستعادة المناطق التي سيطر عليها الجيش مؤخرًا حتى لو كلفها ذلك تعريض حياة الملايين للخطر وتدمير البنى التحتية للبلاد.
وبينما يؤمل السودانيون أنفسهم بكتابة السطر الأخير في تلك الحرب المدمرة، وعودة الحياة الطبيعية لبلادهم المُنهكة مرة أخرى، متفائلين بالانتصارات التي يحققها الجيش على حساب الدعم، إذ بالإمارات تدخل على خط الأزمة، لتقوم بدور “جهاز التنفس الصناعي” ( جهاز الإنعاش) الذي توضع قوات الدعم عليه كلما ضاق عليها الخناق ميدانيًا، لإنعاش ترسانتها التسليحية بما يمنحها قبلة الحياة بين الحين والأخر، لتقلب الطاولة وتعود الأمور إلى نقطتها الصفرية الأولى، ليدفع السودانيون الكلفة والثمن الباهظ، ثمن طموحات الجنرالات وأطماع وأجندات القوى الخارجية.