ترجمة وتحرير: نون بوست
تقدم دراسة حديثة نُشرت في مجلة “بي إم سي سي سايكولوجي” واحدة من أكثر الاختبارات الواقعية المقنعة للعلاج النفسي بالذكاء الاصطناعي حتى الآن، فقد أجرى الباحثون تجربة عشوائية مضبوطة على 104 من النساء اللاتي يعشن في مناطق القتال النشطة في أوكرانيا، كلهن شُخصوا باضطرابات القلق.
تلقى نصفهن علاجًا تقليديًا مع أخصائيين نفسيين مرخصين ثلاث مرات في الأسبوع، واستخدم النصف الآخر روبوت دردشة مدعومًا بالذكاء الاصطناعي يحمل اسم “فريند”، مصمم خصيصًا لتقديم الدعم النفسي بشكل آني وللاستجابة العاطفية، وتوفر النتائج نظرة ثاقبة قيّمة حول مواطن تفوق الذكاء الاصطناعي ومواطن قصوره في مجال الصحة النفسية.
تحسن أكبر مع المعالجين البشريين
قارن تصميم البحث بين دعم روبوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي والعلاج النفسي البشري خلال ظروف الحرب المستمرة، وقُيّمت حالة المشاركين باستخدام أدوات سريرية موحدة – مقياس هاميلتون لتقييم القلق ومقياس بيك للقلق – في بداية ونهاية التدخل الذي استمر ثمانية أسابيع.
قدم روبوت الدردشة “فريند” دعمًا يوميًا عند الطلب من خلال التعامل باللغة الطبيعية والتعلم الآلي، مع الاعتماد على تقنيات مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) والمقابلات التحفيزية. تقدم روبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي هذه الأنواع من العلاج بسهولة أكبر، نظرًا لأن كلاهما يعتمد بشكل أقل على العلاقة مقارنة بأنواع العلاج الأخرى مثل العمل العلائقي أو العلاج النفسي الديناميكي، وقد أتيحت للمجموعة الضابطة إمكانية الوصول إلى معالجين مباشرين من خلال جلسات فيديو أو جلسات شخصية منتظمة.
شهدت كلتا المجموعتين انخفاضًا ملحوظًا من الناحية الإحصائية في القلق، لكن المجموعة التي تعرضت للعلاج البشري شهدت انخفاضًا بنسبة 45 بالمئة على مقياس هاميلتون و50 بالمئة على مقياس بيك، وهو ما يزيد بشكل كبير عن الانخفاضات التي لوحظت في مجموعة روبوتات الدردشة، والتي كانت بنسبة 30 بالمئة و35 بالمئة على التوالي.
الذكاء الاصطناعي كعامل مساعد في الصحة النفسية.. ما أهمية ذلك؟
تؤكد هذه النتائج ما شكك فيه العديد من الأطباء وخبراء الصحة الرقمية: لا يزال الذكاء الاصطناعي عاجزًا عن مضاهاة العمق العاطفي والعمق العلاجي للتواصل البشري، لكن هذه ليست هي النتيجة الأهم.
لا تكمن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي في قدرته على استبدال المعالجين، بل في توسيع نطاق الرعاية إلى حيث لا يستطيع المعالجون الوصول. وفي هذه الدراسة، أثبت روبوت الدردشة “فريند” قيمته الهائلة بالنسبة للنساء اللواتي يعشن في مناطق حرب؛ حيث لم يكن الدعم البشري منتظمًا أو تعذر الوصول إليه، بينما كان روبوت الدردشة متاحًا على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وكان قابلًا للتطوير، وفعالًا من حيث التكلفة وقادرًا على التكيف.
لقد قدّم روبوت الدردشة شعورًا بالاستمرارية والهيكلية والدعم العاطفي الأساسي، وخفّف أعراض القلق، على الرغم من أنه لم يكن بنفس فعالية المعالجين البشريين.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في سد هذه الفجوة – خاصة في بيئات الأزمات والمناطق التي تعاني من نقص الخدمات – من خلال العمل كأداة مساعدة في مجال رعاية الصحة النفسية.
فجوة التعاطف: ما ينقص الذكاء الاصطناعي حتى الآن
رغم قدرة روبوت الدردشة الآلي على تعديل استجاباته بناءً على تحليل المشاعر وخوارزميات التعلم، إلا أنه يفتقر إلى ما يمكن أن نسميه “النطاق الترددي العاطفي”؛ حيث يمكنه محاكاة التعاطف ولكن لا يمكنه الشعور به، ويمكنه الإرشاد، ولكن لا يمكنه أن يكون شاهدًا. وبالنسبة للأفراد الذين يمرون بأزمة، فإن غياب الحضور العلائقي الحقيقي يُحدث فرقًا.
يُشير التحسن الأكبر في مجموعة المُعالجين إلى قوة التحالف العلاجي: الإشارات غير اللفظية، والتغذية الراجعة التكيفية، وبيئة الدعم البشري. هذه عناصر لا يُمكن للجيل الحالي من الذكاء الاصطناعي – مهما بلغ من الذكاء – محاكاتها.ش
ولهذا السبب يقترح المؤلفون والعديد من خبراء الصحة النفسية نهجًا مُختلطًا، يُمكن فيه للذكاء الاصطناعي توفير استراتيجيات للتكيف تشمل الفرز، والتثقيف النفسي، وتنظيم المشاعر. وفي الوقت نفسه، يستطيع المعالجون البشريون القيام بالعمل العلائقي الأعمق، ومعالجة الصدمات النفسية، بما في ذلك العمل التجريبي، وتقديم تدخلات أكثر دقة.
ويشير نموذج روبوت الدردشة الآلي “فريند” أيضًا إلى مستقبل محتمل تخدم فيه أدوات الذكاء الاصطناعي المكيفة ثقافيًا ولغويًا السكان المحليين بشكل أكثر فعالية من التطبيقات العالمية العامة. وفي هذه الحالة، صُمم تطبيق “فريند” خصيصًا للناطقين باللغة الأوكرانية، وخصيصًا لمواجهة الضغوطات في زمن الحرب.
الميزة الأخلاقية: الخصوصية والثقة والتنظيم
تثير هذه الأدوات بالتأكيد تساؤلات جوهرية حول الخصوصية، وحماية البيانات، والموافقة المستنيرة؛ حيث تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى الوصول إلى بيانات نفسية حساسة لتعمل بكفاءة، وقد تناولت هذه الدراسة هذه المخاوف من خلال الالتزام بمعايير اللائحة العامة لحماية البيانات للاتحاد الأوروبي، إلا أن التبني الواسع النطاق يتطلب أطرًا تنظيمية أوسع وشفافية أكبر حول كيفية استخدام البيانات وتخزينها وحمايتها.
علاوة على ذلك، لا تزال الثقة في الذكاء الاصطناعي – وخاصةً في مجال الصحة النفسية – تُشكل عائقًا ثقافيًا ونفسيًا؛ إذ يجب أن يشعر الناس بأنهم لا يُعالجون بواسطة خوارزمية فحسب، بل يُسمعون ويُفهمون بالفعل، ولن يعتمد بناء الثقة على مقاييس الأداء فحسب، بل أيضًا على الشفافية وتجربة المستخدم والتكامل مع الأطر السريرية الأخلاقية.
المستقبل: التعزيز وليس الاستبدال
تؤكد هذه الدراسة على أن الأدوات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي يمكن أن توفر راحة نفسية حقيقية، وإن لم تكن بنفس قوة التدخلات البشرية. ولكن لا ينبغي النظر إلى أدوات الذكاء الاصطناعي كحلول قائمة بذاتها. فهي تعمل على أفضل وجه كجزء من نظام مختلط يعزز دور المعالج النفسي دون أن يحل محله.
لن يكون مستقبل الرعاية الصحية النفسية خياراً ثنائيًا بين الإنسان والآلة، بل سيكون تعاونيًا ومتعدد الطبقات وديناميكيًا. في أوقات الأزمات، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مصدرًا للدعم، ولكنه لا يزال محدودًا بقيود في الاستخدام، خاصة إذا كان يعمل بشكل مستقل دون إشراف متخصص. وبهذا، فإن الوجود البشري يظل غير قابل للاستبدال في رحلة الشفاء الطويلة حاليًا.
المصدر: سايكولوجي توداي