يُعد فن العيطة من أعرق الفنون الشعبية في المغرب، نشأ في الأوساط القروية والقبَلية بين قبائل دكالة والشاوية، وامتد صدى نبراته، كما يوضح الكاتب المغربي حسن نجمي في كتابه غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب، إلى مدن كبرى مثل الدار البيضاء وآسفي والجديدة، وصولًا إلى طنجة وتطوان والعرائش وشفشاون وغيرها.
في بوادي هذه المدن، كانت العيطة وسيلة الناس للتعبير عن الحنين، والفقد، والخسارات الفادحة، ومرآةً تعكس تفاصيل حياتهم اليومية، أفراحهم وأحزانهم، إذ لم يكن هذا الفن مجرّد غناء شعبي، بل تعبيرًا عميقًا عن الوعي الجماعي والهوية الثقافية.
وقد تحوّل، خلال فترة الاستعمار الفرنسي والإسباني، إلى أداة مقاومة فعّالة، استخدمها المغاربة لتحفيز الوعي الوطني، وتمرير رسائل سياسية مواربة، بعيدًا عن الرقابة المباشرة، وهو ما جعل العيطة عرضةً للتشويه والتقويض، ضمن سياسات استعمارية هدفت إلى ضرب هذا الشكل من التعبير الشعبي.
صوت الذاكرة الجماعية
لم يكن فن العيطة مجرّد غناء شعبي، بل نداءً يعلو في الفضاء المفتوح، كأنه يستحضر أرواح الأسلاف لتلبية النداء، أو يشكو إليهم أحوال الناس ومآسيهم، ورغم إجماع الباحثين على أنه من أعرق التعابير الفنية الشفوية في المغرب، إلا أن تاريخ نشأته يكتنفه الكثير من الغموض؛ فبوصفه تعبيرًا شفهيًا نشأ في الفضاءات القروية والقبَلية، ظلّ موصولًا بالذاكرة الحيّة أكثر من ارتباطه بسياق تاريخي موثّق.
العيطة، بما تحمله الكلمة من معنى “النداء” أو “الاستغاثة”، لم تكن فنًا غنائيًا فحسب، بل تجربةً وجودية تتقاطع فيها الذاكرة الجماعية مع الوجدان الشعبي، وترتبط بجراح التاريخ كما بأفراحه.
في كتابه “غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب”، يصف حسن نجمي هذا الفن بأنه “نَفَسٌ ساخن صاعد من الدواخل”، يتجلّى عبر “الأصوات البشرية والإيقاعات والألحان الآسرة”. ومن هذه الحرارة الداخلية وُلد شعرٌ شفويّ عفويّ، “يخرج من جراح الذات الفردية والجماعية مثل النزف الدافئ”، ناطقًا بما عجزت عنه الكلمات اليومية، ومسكونًا بروح البادية المغربية وذاكرتها، عاكسًا المخزون الثقافي لأهلها وقدرتهم على الارتجال، وخلق التعبيرات الشعرية التي تخدم التغنّي أو الرثاء أو التحفيز الجماعي، كما احتاجت إليه المقاومة في زمن الاستعمار.
هكذا غدت العيطة وثيقةً شفوية مفتوحة، تنقل معاناة الناس وأحلامهم، وتختزن في طياتها سرديات التهميش والمقاومة والحنين، بل وتتجسد في أدائها المتعدد كصوتٍ حيّ لذاكرة مغربية منسيّة.
أداة لمقاومة الاستعمار
إبان فترة الاستعمار الفرنسي والإسباني للمغرب بين عامي 1912 و1956، لم تكن العيطة مجرد فن شعبيّ، بل تحوّلت إلى وسيلة فعالة للمقاومة الثقافية، استعملها المقاومون لنقل رسائل مشفّرة، وللدعوة إلى مواصلة النضال، فغدت أداة لبثّ الروح الوطنية وتعبئة الوجدان الجماعي ضدّ المستعمر، تجمع بين وظيفتين متداخلتين: الأولى مرافقة أفراح الناس وحفلاتهم، والثانية كونها أداة ثورية تُؤدّى في الأسواق والساحات بكلماتٍ رمزية تفكّ الجماهير شيفرتها بسهولة، دون أن تثير في ظاهرها ريبة سلطات الحماية الفرنسية والإسبانية.
لم تكن الأغنية الشعبية حينها أقل شأنًا من البندقية، فقد لجأ شيوخ وشيخات العيطة إلى توظيف نصوص مواربة وسياقات محلية محمّلة بالدلالات، لإيصال رسائل سياسية يصعب على المستعمر تأويلها أو قمعها، مستفيدين من عمق الرموز الثقافية ومن قدرة التعبير الشفهي على التلميح بما تعجز الرقابة عن رصده.
فكانت العيطة، من هذا المنطلق، فضاءً للحفاظ على التماسك النفسي والاجتماعي داخل المجتمعات القروية، في مواجهة آلة القمع الاستعمارية التي سعت إلى تفكيك البُنى القبَلية وتمزيق النسيج الأهلي المغربي.
ومع تصاعد شعبيتها وانتشار تأثيرها، أدركت السلطات الاستعمارية الخطر الرمزي والسياسي الذي تمثّله العيطة، فبدأت مساعيها لتقويضها وتشويهها، ومنعت أداء بعض القصائد في الأسواق والساحات بذريعة التحريض، واعتبرت ما تحمله من مضامين محفّزة على الثورة خطرًا على “الأمن العام”، ضمن سياسة استعمارية ممنهجة لتفريغ الأشكال التعبيرية المحلية من مضمونها النضالي، وإلحاقها بثقافة الترفيه المعزولة عن السياق التحرّري.
ضمن هذا الإطار، سعت سلطات الاستعمار وبعض المتعاونين المحليين إلى اختزال فن العيطة في بُعده الترفيهي أو تسويقه كفن فجّ يفتقر إلى الأخلاق، خصوصًا من خلال استهداف الشيخات، عبر تجريدهن من رمزيتهن النضالية وتصويرهن كمجرد رموز للانحلال والانحراف، في محاولة لتفكيك الارتباط بين الصوت النسائي والمقاومة.
لكن هذه المحاولات لم تنجح في طمس البعد النضالي للعيطة، فقد ظلّت حيّة في الذاكرة الجمعية، تُورّثها الأجيال بوصفها أكثر من مجرّد غناء بدوي؛ بل كفن للمقاومة والصمود، وشاهدٍ شفهي على التاريخ النضالي للمغاربة ضد الاستعمار.
قصائد وأسماء راسخة في الوجدان
لا يمكن الحديث عن العيطة بوصفها فنًا مقاوِمًا دون استحضار قصيدة “الشجعان”، التي أبدعتها الفنانة الشهيرة مباركة البهيشية، إحدى أبرز رائدات العيطة في المغرب، والتي طوّرت وظيفة هذا الفن، وحررته من أغراضه التقليدية، لتجعله أداة تأريخ شفوي ورافعةً للمقاومة.
قصيدة “الشجعان” لم تكن مجرد مقطع غنائي بل ملحمة تُؤرّخ لتضحيات مقاومي مدينة بني ملال، في جبال الأطلس المتوسط، سواء في مرحلة ما قبل الحماية أو أثناءها، حين احتدمت المعارك بين أبناء القبائل وقوات الاستعمار، كما لم تكتفِ مباركة بتمجيد الشجاعة والفداء، بل جعلت من صوتها سلاحًا، وكانت حاضرة في المعارك، تساند المقاومين وتشحذ عزيمتهم بما تحفظه من شعر بدوي نافذ، كأنها تُغني لتقاتل. في كلماتها إصرار، وفي أدائها تمرد، وفي حضورها نفي لشرعية المحتل.
بهذا الشكل، ابتكرت البهيشية وظيفة جديدة للغناء الشعبي، لا ترى في الفن زينة للهوية فقط، بل درعًا واقيًا في وجه القمع، وصوتًا يتقدّم الصفوف لا يتأخر عنها.
وتُزهر ذاكرة العيطة بأمثلة مشابهة. يذكر الباحث حسن نجمي في هذا السياق قصائد مثل “كبة الخيل”، و”موالين الخيل”، و”ركوب الخيل”، التي عمل شيوخ العيطة من خلالها على تحفيز المستمعين، واستنهاض الهمم، وبثّ روح التحدي، عبر رموز الفروسية والنخوة التي يسهل إسقاطها على الواقع النضالي.
إلى جانب مباركة البهيشية، يُسجّل التاريخ أسماء لامعة طبعت هذا الفن بطابعها النضالي، من أمثال الشيخة خربوعة، وبوشعيب البيضاوي، والشيخ الدعباجي، وفاطنة بنت الحسين، وعبد الله البيضاوي، والحاجة الحامونية، والشيخة عايدة، والمارشال قيبو، وفاطمة الباردية… وغيرهم كثير.
لم يكن هؤلاء مجرّد مؤدين، بل حرّاس لذاكرة مغربية شفوية قاومت الاستعمار بوسائلها الخاصة، وحافظت على تنوع أنماط العيطة من الحصباوية إلى المرساوية والزعريّة والملالية وغيرها. بعضهم ما يزال حيًّا يواصل حمل الشعلة، رغم التهميش والإقصاء، وبعضهم غيّبه الموت بصمت، دون أن يُنصفه الاعتراف الرسمي، لكن رغم الغياب، تبقى أصواتهم شاهدة على مجد هذا الفن، وصموده في وجه النسيان، بوصفه ذاكرة حيّة وجزءًا لا يُفصل عن تاريخ المقاومة المغربية.
في الزمن المعاصر.. فن ينتقل من الهامش إلى الاحتفاء
بعد أن كانت حاضرة في الساحات القروية والحفلات الشعبية، انتقلت العيطة إلى المسارح والمهرجانات الكبرى، لتُصبح فنًا معترفًا به رسميًّا في المغرب، فقد باتت تُحتفى بها في تظاهرات ثقافية مثل “مهرجان العيطة”، الذي يُنظَّم سنويًّا في مناطق مختلفة من البلاد، كما تعمل جمعيات ثقافية وباحثون في التراث الشفهي المغربي على توثيق هذا الفن والتعريف به، بوصفه سجلًا للاحتجاج الاجتماعي ومرآةً للهموم الشعبية، في زمن تتغير فيه أنماط الحياة وتضيع معه أجزاء كبيرة من الأرشيف الشفهي المغربي.
لكن هذا الاعتراف الثقافي لم يُلغِ التناقضات، فالعيطة، وإن باتت تحظى بالاحتفاء الرسمي، لا تزال الشيخات يعانين من الإقصاء والتهميش الاجتماعي. وفي الوقت ذاته، بدأت العيطة المعاصرة تنزاح عن مضمونها الأصلي، إذ يُعاد إنتاجها اليوم في قوالب موسيقية تجارية مُفرغة من عمقها الرمزي والاجتماعي.
بهذا المعنى، لا تُختزل العيطة في مجرد غناء شعبي موروث، بل تتجلى كأحد أكثر أشكال التعبير عن الهوية الجماعية والذاكرة الشفهية حيويةً وصدقًا. من فضاءات القبيلة إلى ساحات المقاومة، ومن صوت المرأة المهمشة إلى صدى الوطن الجريح، ظلت العيطة نداءً نابضًا بالألم والأمل والحنين، يسكن البوادي ويعبر الأزمنة.
وفي زمن التحولات السريعة، تعود العيطة لتُذكّرنا بما هو جوهري فينا: حكاياتنا، وجراحنا، وحنيننا المشترك. إنها ليست فقط صوت الأرض، بل صدى الهامش الذي لم يتوقف يومًا عن الغناء.