ترجمة وتحرير: نون بوست
نشأتُ في بيئة يهودية أرثوذكسية أمريكية، وكان من البديهي بعد إنهاء المرحلة الثانوية قضاء سنة في دراسة التوراة في إسرائيل. اخترت الالتحاق بـ”مخينا” – وهو برنامج تحضيري عسكري إسرائيلي – دون أن أدرك أن ما اعتبرته “سنتي في إسرائيل” سيضعني في الواقع على أرض فلسطينية محتلة في الضفة الغربية.
كانت “مخينات يود” تعمل من مستوطنة إفرات، وهي مستوطنة غير قانونية تقع ضمن تجمع غوش عتصيون جنوب القدس. وكانت أيامنا هناك تنقسم إلى جزأين بشكل عام: النصف الأول نقضيه في دراسة التوراة بشكل مكثف، بينما يُخصص النصف الآخر للمشي في الطبيعة والخدمة المجتمعية وتدريبات الكراف ماغا، وهي فنون القتال الإسرائيلية.
أنهيت تلك السنة دون أن أفهم الكثير عن واقع الاحتلال الإسرائيلي. ورغم أنني لاحظت وجود عدد أكبر من “العرب” (فلم تُنطق كلمة “فلسطينيين” على ألسنتنا أبدًا) حول مستوطنتي مقارنة بإسرائيل نفسها، فقد بقيت غافلًا عن واقعهم المتمثل في العيش تحت حكم عسكري أجنبي، دون جنسية أو حقوق في التصويت.
أول مرة أذكر أنني سمعت فيها كلمة “احتلال” كانت عندما تذمّر حاخامي، وهو من سكان مستوطنة ألون شفوت غير القانونية، من تقييد وصول الإسرائيليين إلى جبل الهيكل (الحرم القدسي). قال حينها بغضب: “إسرائيل محتلة من قبل العرب”.
وبعد خمس سنوات، وخلال دراستي في كلية هانتر في نيويورك، تحدث طالب فلسطيني من بيت لحم في نادي هيلل الطلابي. كنت قد عشت على مسافة قريبة منه خلال فترة إقامتي في إفرات، وكنت أظن بسذاجة أننا “جيران”. لكن عندما شرح أن التحاقه بالجامعة في نيويورك استلزم منه أولًا الحصول على تصاريح إسرائيلية لمجرد عبور الحدود إلى الأردن كي يتمكن من ركوب طائرة دولية، أصبح التفاوت الصارخ بين حياتنا أمرًا لا يمكن تجاهله.

وبعد سبع سنوات من وجودي في “المخينا”، عدتُ إلى إسرائيل/ فلسطين، ولكن هذه المرة وأنا أمتلك فهمًا عمليًا لواقع الاحتلال في الضفة الغربية وللمسؤولية المترتبة على الوقوف فوق هذه الأرض. وكنت أعلم أن عليّ الانخراط في نشاط ملموس مناهض للاحتلال. وهكذا انضممت إلى مجموعة “أول ذاتس ليفت“، وهي تجمع شعبي غير هرمي من يهود الشتات الملتزمين بالعمل المباشر ضد الاحتلال.
ومن خلال مجموعة “أول ذاتس ليفت”، بدأت أسافر بانتظام إلى الضفة الغربية بمنظور مختلف تمامًا عن منظوري الذي كنت أعتقده عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري. وانضممت إلى المزارعين الفلسطينيين في حقولهم، ورافقت الرعاة وهم يرعون قطعانهم، وحضرت احتجاجات ضد العنف الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية، وقضيت في نهاية المطاف ليالٍ – ثم أسابيع، ثم شهور – في القرى الفلسطينية.
وكجزء من نشاط “الحضور الوقائي”، قمت أنا وزملائي النشطاء بتوثيق اعتداءات المستوطنين والاجتياحات العسكرية، على أمل أن وضعنا المميز في نظر الدولة قد يردع العنف.
لقد أدى بي هذا العمل إلى سبتمبر/ أيلول 2024، حين انضممت إلى منظمة “حاخامات من أجل حقوق الإنسان” كمنسق ميداني، وقررت الانتقال بشكل دائم إلى مسافر يطا، وهي مجموعة من القرى الفلسطينية في تلال جنوب الخليل التي يعاني سكانها من عنف مستمر من المستوطنين والجيش بهدف تهجيرهم من أراضيهم، كما ظهر مؤخرًا في الفيلم الوثائقي الحائز على جائزة الأوسكار “لا أرض أخرى“. ومن خلال الانتقال إلى هناك، كنت آمل في تعزيز علاقاتي مع المجتمع المحلي، وتحسين لغتي العربية، وتقديم الحماية الوقائية.
وبصفتي مواطنًا إسرائيليًا يهوديًا – ومن ضمن الفئة السكانية التي تدفع نحو توسع المستوطنات – كنت أرغب في ضمان أن يكون وجودي في مسافر يطا يعد مقاومة للاحتلال بشكل فعال، وليس مساهمًا في استمراره. ومن خلال المحادثات مع السكان المحليين، وعبر عملي مع مبادرات مثل “هينينو“، أدركت أن وجودي هناك كان مرحبًا به ومقدّرًا من قبل السكان الفلسطينيين.
بدون جدول زمني، وبدون دعم مؤسسي، وبدون حتى شقة في القدس أعود إليها إذا ساءت الأمور، جمعت كل ممتلكاتي في سيارتي وانطلقت جنوبًا نحو مسافر يطا.
لمدة ستة أشهر، عشت جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين كانوا يحذرونني منهم باستمرار بأنهم سيقتلونني عند أول فرصة. يجب مشاركة الحقائق التي تعلمتها هناك، خاصة مع الآخرين الذين نشأوا على نفس المخاوف. وهذه الدروس لها أهمية ملحة لأن مسافر يطا تواجه مرة أخرى حملة هدم تهدد بمحو سكانها من الأرض الوحيدة التي يعرفونها.
1- يمكنك (ويجب عليك) تجاهل العلامات الحمراء
خلال سنتي في المخيّنا، كان مديرنا يشير دائمًا إلى اللافتات الحمراء الزاهية التي تحدد مداخل المنطقة (أ)، وهي الأراضي في الضفة الغربية التي تخضع رسميًا للسيطرة الفلسطينية الكاملة.
وكانت التحذيرات التي وضعتها السلطات الإسرائيلية تعلن أن الدخول إلى هذه المناطق “غير قانوني” و”يشكل خطرًا على حياتكم” بالنسبة للمواطنين الإسرائيليين. وكان مديرنا يقول إن “هذا هو الفصل العنصري الحقيقي”، معبرًا عن استيائه من استبعاد الإسرائيليين المفترض من هذه المناطق. ولم أدرك إلا لاحقًا أن الفلسطينيين لم يكونوا ينوون استبعادي ولم يمتلكوا السلطة الفعلية على هذه الأماكن.
في الواقع، حظر دخول المواطنين الإسرائيليين إلى المنطقة (أ) موجود أكثر على الورق منه على أرض الواقع. فهذه القيود لا تهدف إلى حماية الإسرائيليين، بل إلى تعزيز نظام وثقافة الفصل العنصري من خلال حواجز نفسية؛ حيث تنتهي الحواجز الأمنية والجدران، يبدأ الخوف والانضباط الذاتي في السيطرة كأدوات للفصل.
وسرعان ما أدركت أن كسر هذا العنصرية المكتسبة يتطلب الانغماس في أماكن تظل فيها الثقافة الفلسطينية هي السائدة. لقد زرت المواقع التاريخية في بيت لحم، وتدربت في صالات الفنون القتالية في رام الله، وتسوقت في أسواق يطا. وفي كل مرة تقريبًا، كان السكان المحليون يكتشفون أنني يهودي وإسرائيلي معًا، ومع ذلك لم أشعر بالخطر أبدًا. أما القلق الحقيقي الوحيد فكان عند مغادرة المدن الفلسطينية، والجلوس في ازدحام نقاط التفتيش الذي لا ينتهي، وهو تذكير يومي بثقل الاحتلال الساحق.
2- مستوطنو البؤر الاستيطانية لا يمثلونك
إذا كنت قد نشأت كيهودي أرثوذكسي معاصر نموذجي في أمريكا مثلي، فلن تجد أي قواسم مشتركة مع أولئك الذين يقضون بعد ظهر أيام السبت في التجوال واستخدام الهواتف لتنسيق هجمات على الفلسطينيين.
وعلى عكس المستوطنين “المعتدلين” في أماكن مثل إفرات أو ألون شفوت الذين يحافظون على مظهر من الالتزام الديني، حتى وهم يدعمون الاحتلال؛ فإن المتشددين العنيفين في البؤر الاستيطانية غرباء تمامًا عن عالمك.
لو صادفت شابًا عاديًا من سكان التلال في المدرسة، لما رأيت فيه زميلًا، بل شابًا مهددًا بالخطر بحاجة إلى تدخل. أما الرجال الأكبر سنًا الذين يديرون هذه البؤر الاستيطانية؟ فهم ليسوا مثل الحاخامات الذين درّسوك في المدرسة الدينية، هؤلاء متطرفون أيديولوجيًا يستخدمون تقاليدنا كسلاح بينما يدوسون على الشريعة اليهودية التي تعلمت أنها ذات أهمية قصوى وثابتة.
3- الجيش يكذب
نشأت، مثل معظم اليهود والإسرائيليين، وأنا أعتبر الجيش الإسرائيلي معصومًا من الخطأ، لكن عندما أقول إن الجيش يكذب، لا أعني التلاعب أو الانتقائية في قول الحقائق، بل أعني أنهم يختلقون الواقع بأكمله، فهم يبتكرون قصصًا خالية من أي أساس واقعي.
لقد شهدت الأحداث بنفسي، ثم قرأت بعد ذلك تقارير عسكرية تتعارض تمامًا مع الواقع. لقد تعرّضتُ لهجوم مرتين من قبل الجنود والمستوطنين، ثم تم اعتقالي على الادعاء العبثي بأنني كنت المعتدي على من هاجمني.
وهذا النمط من الخداع ليس جديدًا: فقبل هذه الثمانية عشر شهرًا الماضية بوقت طويل، كانت إسرائيل تراجع قصصها الرسمية مرارًا وتكرارًا، كما شهد العالم عقب اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة. ومع ذلك، لا يزال حتى منتقدو الحكومة الصهيونية يمنحون الجيش كعادتهم فرصة للشك. واليوم، بينما ترتكب إسرائيل إبادة جماعية في غزة خلف جدار من الرقابة، يجب أن نبدأ من الفرضية المعاكسة: أن كل كلمة رسمية تصدر عن الجيش هي كذبة.
4- الاحتلال يعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع
وصف أحد نشطاء مجموعة “هينينو” رد الفعل على العنف في مسافر يطا بأنه يشبه لعبة “ضرب الخلد“. فكل نداء طارئ صباحي – من اعتداء المستوطنين هنا، واجتياح الجنود هناك – يُطلق شرارة يوم جديد من التنقل السريع بين النقاط الساخنة وتوثيق الفظائع.
لقد تأقلمت مع هذا الإيقاع المليء بالأزمات: كنت أنام وأنا أضبط جرس الهاتف على رنين مزعج في الليل، وملابسي جاهزة دومًا على مقربة مني، وأتقن مهارة خاصة في ارتداء الملابس خلال ثوانٍ وأنا نصف نائم. وحتى يومنا هذا، يسرع رنين الهاتف من دقات قلبي.
سرعان ما تبين أن مجرد وجودي هناك كان يزعج الجنود الإسرائيليين بشدة. كانوا يخترعون ذرائع لطردي وطرد النشطاء الآخرين – مثل احتجازي لتصوير سيارة مدنية، أو اتهامي زورًا بدخول المنطقة (أ)، أو استهداف مركباتنا بمخالفات مرورية تافهة.
لكن على الرغم من أن هذا التحرش المستمر أرهقني، إلا أنه لا يقارن بما يتحمله جيراني الفلسطينيون يوميًا. أعلم أنه حتى في الأيام التي تُسمى “هادئة”، لم يتوقف العنف، بل كان يعني ببساطة أن الآخرين يتحملون العبء بدلاً مني.
5- التضامن الحقيقي هو الحل
إن الاندماج في مجتمع فلسطيني كشف لي قبضة الاحتلال التي بلا هوادة فيها. فعندما بدأت في توصيل جيراني لإتمام مهامهم، تحوّل كل حاجز من مجرد ظلم أشاهده إلى شيء يؤثر عليّ شخصيًا. لقد علّمتني هذه التجارب أن أقوى ترياق للدعاية هو التواجد في مجتمع حقيقي مع المظلومين والمحرومين، ليس استنادًا إلى مفهوم زائف لـ”التعايش”، بل على أساس التزام مشترك بالعدالة والتحرير.
ويستمر الاحتلال تحديدًا لأنه لا يسبب إزعاجًا للإسرائيليين، ولهذا يجب على الحلفاء أن يشاركوا معاناة الفلسطينيين بوعي. وهذا لا يتطلب الانتقال إلى مسافر يطا، بل فقط بناء روابط عميقة تجعل آلام الآخرين تصبح آلامك. لم تكن رؤية الانتهاكات هناك تزعج ضميري فحسب، بل أغضبتني، لأن أشخاصًا أحببتهم كانوا يتعرضون للأذى. ويستمر هذا الغضب حتى بعد مغادرتي. ضاعف هذا الغضب آلاف المرات، وسينهار النظام.
هكذا كانت ساعة من الإنصات الحقيقي لزميل في الجامعة هي الخطوة الأولى نحو فتح عينيّ على تجربة الفلسطينيين. والآن، بمشاركة تجربتي خلال ستة أشهر قضيتها بين الفلسطينيين في مسافر يطا، آمل أن أساعد الآخرين الذين تربوا مثلي على اختراق نفس جدار الخداع. عندها فقط يمكننا أن نتعافى ليس من هذه الأشهر الثمانية عشر المدمرة، بل من الخمسة وسبعين سنة التي سبقتها، وبناء مستقبل يليق بإنسانيتنا المشتركة.
المصدر: +972