حين ألقت نكبة عام 1948 بهراوتها على رأس الفلسطيني، كان يفصل بينهم وبين موسم الحج تسعة أشهر هجرية كاملة، وأمام فاجعة التهجير وعمق الخسارة، ولطمة الاحتلال الإسرائيلي لمعظم أراضي فلسطين، وتمكُّن قلة قليلة من الفلسطينيين من البقاء والالتصاق بالأرض وما حولها، كانت الفريضة الوحيدة التي يرونها إلحاحًا هي العودة إلى بيوتهم وبلداتهم الأصلية.
لكن العصابات الصهيونية كانت أكثر تنظيمًا وقدرة على حسم الميدان، فلغَّمت مسارات عودة الفلسطينيين بالأفخاخ والرؤوس المقطعة، ثم انطلقت في الوقت ذاته تُفكك بنى ما بقي من الفلسطينيين في المكان، ففتّتت الصلة بين الفلسطينيين، محوِّلةً إياهم إلى مسيحي ومسلم ودرزي وشركسي وبدوي، ثم عزلت كلاً منهم إلى غير موقعه الأم، وفرضت عليهم حكمًا عسكريًا ينزع منهم فلسطينيتهم، وعروبتهم، ودينهم “الإسلامي تحديدًا”.
وكما أضحت المجاهرة بالعلم الفلسطيني جريمة، أصبح ارتياد المساجد جريمة، والاحتفاء بالأعياد الإسلامية جريمة، والخروج من البلاد إلى موسم الحج مغامرة لا عودة بعدها. تزامن ذلك مع انقطاع حاد لأي صلة بين فلسطينيي الـ1948 وإخوانهم في الدول العربية المجاورة، بفعل حالة العداء الظاهر حينها بين هذه الأنظمة والاحتلال الوليد، وهو ما ترك فريضة الحج حلمًا لا يطاله مسلمٌ منهم، امتد أمل تحقيقه حتى ثلاثة عقود لاحقة.
“فلسطيني-إسرائيلي” على أعتاب مكة
خلال أيامٍ قليلة فقط بعد النكبة، أصبح ما يربو على 160 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون فلسطيني، -غصبًا- جزءًا من كيانٍ استعماري قائم على أرضهم، يُطلق على نفسه “إسرائيل”. هذا التغيير الهائل، الذي تزامن مع نزوح 30-40 ألفًا منهم، لم يتوقف مع إعلان هدنة عام 1949، وإنما بدأ بشكلٍ آخر، يؤسّس لنكبةٍ أخرى تنهي علاقتهم العضوية بمن أصبحوا لاجئين منهم، وبمحيطٍ عربي وإسلامي كبير.
ستُعرف الدوائر الإسرائيلية قطع الحبل السري هذا بـ “الحكم العسكري”، الذي سيمتد لقرابة عقدين من الزمن، وسيغيّر حياة الفلسطينيين في الأرض المحتلة إلى الأبد، بحرمانهم من أي شيء، عقوبةً لهم على تمسّكهم بكل شيء.
من هذه العقوبات: التجمع، وإقامة الأفراح والأتراح والمناسبات، والزيارات العائلية، والصلاة الجامعة في المساجد، وأحاديث القهاوي، وطقوس رمضان، والاحتفاء بالعيدين، والحج، الذي سيتم الإجهاز عليه من اتجاهين.

من ناحية، سعت السلطات الإسرائيلية مبكرًا إلى تمييز الفلسطينيين عن غيرهم، فحرمتهم من الحصول على وثائق سفر معترف بها دوليًا، ومنحتهم وثائق سفر إسرائيلية محدودة الصلاحيات، لا تعترف بها معظم دول العالم، ومنها الدول العربية والمملكة العربية السعودية، ما أتاح لها التحكم في وجهات سفرهم، وحرمانهم من الوصل مجددًا مع محيطهم العربي والديني.
ثم، ونتيجةً لرفض الدول العربية التحول إلى حالة السلم بعد عام 1948، لم تعترف الدول العربية المحيطة أو البعيدة بالنظام الاستعماري الجديد، وأغلقت حدودها في وجه كل من يحمل أوراقه الثبوتية، أو يقيم داخله، حتى لو كان مسلمًا فلسطينيًا. ونتيجة لذلك، عُزل فلسطينيو الـ48 بشكلٍ كامل عن الدول العربية، ولم يُسمح لهم بدخول أيٍ منها، أو زيارة أقاربهم فيها، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
وبينما غدا بإمكانهم الالتفاف على فرض الجامعات الإسرائيلية عليهم، بالدراسة في الجامعات الأوروبية والغربية، وتجاوز المنع العربي بالالتقاء مع أقاربهم في قبرص واليونان وتركيا والدول الأوروبية اللصيقة، بقي الحج فريضة لا يمكن تعويضها، أو الالتفاف عليها، أو تأديتها في مكانٍ آخر، باستثناء مكة المكرمة.
اتفق ذلك مع موقفٍ عربي موحَّد، كان يرى في كل من يأتي من الأرض السليبة مقيدًا بـ “اللعنة الإسرائيلية”، وبالتالي لم تفتح السعودية أي باب لاستقبال الحجاج الفلسطينيين ممن يحملون أوراقًا “إسرائيلية”، بما لا يضعف من اصطفافها مع الموقف العربي الموحد.
لكن انفراجةً ظهرت عام 1978، اختُلِف في تحديد مصدرها، واتُّفِق على شكلها النهائي، حين تواصلت جهات إسلامية، من بينها الشيخ عبد الله نمر درويش، مع وزارة الأوقاف الأردنية، ومع تركيا، للتدخل والوساطة مع السعودية، بما يسمح للمسلمين من فلسطينيي الداخل المحتل بتأدية فريضة الحج، أسوةً بغيرهم من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة.
إذ كانت الأردن تُسيّر عبر وزارتها وبعثات الحج الخاصة بها أفواجًا من حجيج سيناء وغزة والضفة الغربية، حتى إن البعثة الأردنية لعام 1972 بلغت 22,600 حاج، من بينهم 13,000 حاج من الضفة وغزة، و600 حاج من سيناء، وهو تعداد كبير مقارنة بعدد الحجيج ذلك العام، الذي بلغ 546,000 حاج من جميع أنحاء العالم.
وقد أثمرت الوساطات سريعًا، ووافقت المملكة العربية السعودية على استقبال أول بعثة حج من فلسطيني الداخل الفلسطيني، بينما وقّعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي والملك الأردني الراحل حسين بن طلال اتفاقًا ينص على وصاية أردنية على الحجيج، تقوم وزارة الأوقاف الأردنية بموجبه بإصدار أوراق ثبوتية خاصة بهم، وتنظيم شؤون سفرهم من خلال مكاتب سياحة دينية مرخّصة، على أن تكون بعثة الحج الأولى “مكرمة” من الملك حسين.
الحج تحت مظلة أوسلو
بقي مسلمو الداخل المحتل يؤدون فريضة الحج ضمن البعثة الأردنية، رغم التكاليف المرتفعة وأعباء الوقت التي تفرضها عليهم المكاتب السياحية، حيث تبلغ كلفة نقلهم جوًا إلى الأردن 600 دولار، في رحلة لا تتجاوز 20 دقيقة، بينما برًا يحتاجون إلى 24 ساعة كحدٍّ أدنى لعبور الجانب الأردني من المعابر الإسرائيلية.
لكن وجودهم ضمن البعثة الأردنية وفّر لهم ميزاتٍ وتسهيلاتٍ عدة، شملت منحهم جوازات سفر أردنية، وإسكانهم في مساكن البعثة في مكة والمدينة وعرفات ومنى، إضافة إلى شمولهم في الخدمات الطبية التي تقدمها البعثة الصحية، والخدمات الإرشادية التي توفرها بعثة الوعظ والإرشاد.
واتسع ذلك لاحقًا، ليشمل تسهيل أداء العمرة أيضًا، عبر دائرة الحج والعمرة، وبالتعاون مع دائرة أوقاف القدس، وضمن منظومة موحدة ضمت وزارات عدة مثل الداخلية، والأمن العام، وإدارة الجسور والمعابر والمطار.
بقي الحال على هذا النحو حتى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1994، حين أصبح فك الارتباط بين الضفة الغربية والمملكة الأردنية أكثر من واقع، لتتولى السلطة الفلسطينية تسيير شؤون أهالي الضفة وغزة، بعدما وقّعت اتفاقية باريس الاقتصادية، وأصدرت جواز السفر الفلسطيني، الذي سارعت السعودية لتكون أول دولة تعترف به، ما أتاح فتح الحدود أمام الدول العربية لكلٍ من مصر والأردن، ووفّر لفلسطينيي الداخل فرصة عبورٍ مريحة ووسيطة.
ومع أول بعثة حج فلسطينية رسمية عام 1995، انضم فلسطيني الداخل إلى البعثة، بعضهم بترتيبات خاصة مع مكاتب سياحة مرخصة، وآخرون ضمن البعثة الفلسطينية، التي قدمت لهم الخدمات ذاتها التي وفرتها سابقًا البعثة الأردنية، مع فارق استخدام الحجاج لجوازات سفر إسرائيلية، إلى جانب تصاريح خاصة تصدرها السلطة الفلسطينية.
لكن عقباتٍ مختلفة ظلت عالقة في وجه تأمين حجٍ سلس ومعقول اقتصاديًا، وقليل المحطات؛ أولها التحديد المسبق لأعداد حجاج الداخل المحتل ضمن البعثة الفلسطينية، بنسبٍ ضئيلة لا تتلاءم مع عددهم العام. وثانيًا، الاستغلال الاقتصادي الكبير من قِبل مكاتب الحج والعمرة في الأراضي الفلسطينية. وثالثًا، تبعثر الدوائر التنظيمية الرسمية لشؤون الحج والعمرة؛ حيث أُدير الملف بداية عبر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ثم فُوّضت به هيئة الحج والعمرة، قبل أن يُعاد مجددًا إلى الوزارة.
ونتيجة لهذه التحديات، أصبح التوجّه العام لدى فلسطينيي الداخل هو مواصلة أداء الحج تحت مظلة مكاتب الحج والعمرة الأردنية، أو ضمن البعثة الأردنية التي واصلت استيعابهم بالتنسيق مع اللجنة الملكية لشؤون القدس، لا سيما وأن خروجهم من المعابر الإسرائيلية مباشرة إلى جسر الأردن يُجنّبهم المرور عبر المحطة الفلسطينية، ويؤمن لهم إمكانية أداء الفريضة برًا أو بحرًا، مع الحصول على خدمات أكثر شمولًا وتنظيمًا مقارنة بالبعثة الفلسطينية.
الحج بابٌ موارب لتطبيعٍ محتمل
خلافًا لبُنية التطبيع مع الدول العربية الأخرى، برزت الأقلية الفلسطينية المسلمة في الأراضي المحتلة كـ”سنارة” لـ”إسرائيل” في مساعيها نحو التطبيع مع السعودية، من باب تيسير شؤون الحجاج والتسهيل عليهم، من خلال إتاحة السفر الجوي المباشر إلى المملكة العربية السعودية.
لكن السنارة لم تُلقَ مباشرة، بل جرى التلاعب بمسارها قبل ذلك، وتحديدًا عام 2018، حين قررت السعودية منع أي فلسطيني من حملة “الجوازات المؤقتة” من دخول أراضيها، وهو ما انطبق على فلسطينيي الداخل وحملة الوثائق المؤقتة، بما يعني إنهاء الوصاية الأردنية عليهم، وحرمان نحو 4500 فلسطيني مسجلٍ من أداء فريضة الحج في موسم 2019.
حينها، اعتُبرت الخطوة السعودية “قرصة أذن” للأردن ومنازعةً له على وصايته على الحرم القدسي الشريف، لا سيما أنها جاءت في ظل تقاربٍ متصاعد مع “إسرائيل”، ورغبة ضمنية في نقل الوصاية إليها، كما اعتُبرت هذه الخطوة مقدّمة للتطبيع، إذ جاء رفضها للوثائق المؤقتة في مقابل سكوتها عن الجواز الإسرائيلي الدائم، ما اعتبره فلسطينيو الداخل “غمزة تطبيع أولى”.
ورغم أن وساطات دول عربية وإسلامية حالت دون تنفيذ القرار بشكلٍ كامل، إلا أن النتيجة كانت ارتفاع تكلفة الحج في ذلك العام إلى 29,700 شيكل (ما يعادل 8,493 دولارًا).
أما التلقّف الإسرائيلي لتلك الغمزة، فتجلّى في إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مطلع يناير/كانون الثاني 2020، عن مساعيه بالتنسيق مع الرياض لتسيير رحلات حج وعمرة لفلسطينيي الداخل، مباشرة من مطار بن غوريون في اللد إلى السعودية.
تبعه إعلان رئيس كتلة “الليكود” عن إمكانية تنظيم تلك الرحلات بسعر لا يتجاوز 5,000 شيكل، الأمر الذي قوبل برفضٍ واسع من لجنة الفعاليات السياسية والقوى الوطنية في الداخل الفلسطيني.
لم يطل الوقت كثيرًا، حتى أُعيد فتح الباب مرة أخرى، بإعلان وزير الداخلية الإسرائيلي آريه درعي عن منح التأشيرات “للإسرائيليين” (فلسطينيين أو يهود) الراغبين بزيارة السعودية لأهداف دينية وتجارية.
استند الإعلان إلى المسار الذي قطعته طائرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ولايته الأولى، مباشرة من “إسرائيل” إلى السعودية – في سابقة أولى – وإلى تلويحه المستمر بـ”صفقة القرن” التي كانت تطمح إلى ضم السعودية إلى ركب التطبيع مع “إسرائيل”.
تزامن ذلك مع اعتمادٍ سعودي أوسع للجواز الإسرائيلي كوثيقة معترف بها، ومع فتح دول خليجية مكاتب تسهيل سفر من “إسرائيل”، مثل الإمارات والبحرين، لكن توقف مسار التطبيع عن بلوغ تمامه حال دون انتقال ملف الحج من كنف الوزارات الأردنية إلى كنف الوزارات الإسرائيلية مباشرة.
ثم جاء السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليُنهي آمال وزارة النقل الإسرائيلية في فتح خطوط جوية مباشرة مع السعودية مطلع عام 2024؛ إذ كانت تأمل – بل تتوقع – أن تُسهم الأقلية المسلمة المُهمشة لديها، والتي تشكل 18% من السكان، في تبرير إطلاق تلك الرحلات، بدءًا برحلات الحجيج، ثم امتدادًا إلى الرحلات السياحية والتجارية، في إطار تطبيع فجٍّ متكامل.
بالمحصلة، لا تزال المملكة العربية السعودية تفتح أذرعها “مرتفعة التكاليف” للحجيج من مسلمي فلسطين المحتلة، وليس في ذلك شك، لكن أذرعها ذاتها تتكفل أيضًا بمحو وإخماد فلسطين، أي فلسطين، وكل فلسطين، حين تُعبَّر عنها كشعار، أو دعاء، أو تلبية؛ لأن “المشعر ديني، ولا مكان للسياسة فيه”، في حين أن الحج، في جوهره، أحد أكبر أدوات السعودية السياسية، في مواجهة خصومها وأمام حلفائها، لفرض سيطرتها، حيثما وكيفما تريد.