ترجمة وتحرير: نون بوست
إذا كنت قد قضيتَ الأشهر العشرين الماضية تتساءل عن سبب عدم انتقاد قادة بريطانيا من كلا الجانبين السياسيين لإسرائيل، رغم أنها كانت تذبح وتجوع أكثر من مليوني شخص في غزة، فقد حصلت أخيرًا على الإجابة الأسبوع الماضي.
قالت زعيمة الحزب المحافظ كيمي بادينوك بصوت عالٍ ما كان الجميع يخشون قوله. فقد صرحت لشبكة سكاي: “إسرائيل تخوض حربًا بالوكالة [في غزة] نيابة عن المملكة المتحدة”.
وفقًا لبادينوك، فإن المملكة المتحدة – وعلى الأرجح، حسب تقييمها، القوى الغربية الأخرى – لا تكتفي بدعم إسرائيل ضد حماس، بل هي راغبة في هذه الحرب وتساهم في توجيهها. ويرون أن هذه المعركة ذات أهمية مركزية لمصالحهم الوطنية.
وهذا يتماشى تمامًا مع ما شهدناه على مدار سنة ونصف. فقد التزمت كل من حكومة حزب العمال الحالية برئاسة كير ستارمر، وحكومة حزب المحافظين السابقة بقيادة ريشي سوناك، بشكل مطلق بإرسال الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، إلى جانب تسهيل شحن الأسلحة القادمة من الولايات المتحدة وألمانيا للمساهمة في المذبحة.
واستخدمت الحكومتان قاعدة سلاح الجو الملكي في أكروتيري بقبرص لتنفيذ طلعات استطلاعية لمساعدة إسرائيل في تحديد الأهداف داخل غزة. كما سمحتا لمواطنين بريطانيين بالسفر إلى إسرائيل للمشاركة كجنود في الإبادة الجماعية غزة.
ولم تنضم أي من الحكومتين إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، التي خلصت قبل أكثر من سنة إلى أن أفعال إسرائيل يمكن اعتبارها “بشكل معقول” إبادة جماعية.
ولم تقترح أي من الحكومتين، ولا سعت بالتعاون مع الدول الغربية الأخرى، إلى فرض منطقة حظر جوي كما حدث في “حروب أخرى” حديثة، لوقف الهجوم الإسرائيلي الدموي على غزة، كما لم تنظما أي جهود مع أطراف أخرى لكسر الحصار الإسرائيلي وإيصال المساعدات إلى القطاع المحاصر.
وبمعنى آخر، حافظت كلتا الحكومتين على دعمهما المادي الثابت لإسرائيل، حتى وإن خفّف كير ستارمر مؤخرًا من لهجته الخطابية، بعد أن صدمت صور الأطفال والرضّع الهزلى في غزة – التي أعادت إلى الأذهان صور أطفال اليهود في معسكرات الموت النازية مثل أوشفيتز – ضمير العالم.
لغة مشفرة
إذا كانت بادينوك محقة في أن المملكة المتحدة تخوض حربًا بالوكالة في غزة؛ فهذا يعني أن الحكومتين البريطانيتين تتحملان مسؤولية مباشرة عن العدد الهائل من القتلى المدنيين الفلسطينيين، الذي يقدّر بعشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، نتيجة القصف الإسرائيلي المكثف والحصار الكامل.
وهذا يجعل من المؤكد بلا جدال أن المملكة المتحدة متواطئة في المجاعة الجماعية الحالية التي تطال أكثر من مليوني إنسان هناك، وهو ما ألمحت إليه بادينوك بالفعل، مستخدمةً لغة مشفّرة ضمن سياق النقاش السياسي.
وفي إشارة إلى انتقاد كير ستارمر الأخير والمتأخر جدًا لتجويع إسرائيل لكامل سكان غزة، علّقت بادينوك بالقول: “ما أريده هو أن أرى كير ستارمر يضمن أنه يقف في الجانب الصحيح من المصلحة الوطنية البريطانية”.
وبحسب بادينوك؛ فإن التهديد الضمني الذي لوّح به ستارمر، والذي لم يتحقق حتى الآن بأي شكل، بالحد من تواطؤ المملكة المتحدة الفعّال في تجويع شعب غزة بشكل إبادي، قد يُلحق ضررًا بالمصالح الوطنية البريطانية. ولكن كيف تحديدًا؟
وكان من المفترض أن تُفاجئ تصريحاتها، أو على الأقل تُحيّر، مُحاوِرها في قناة سكاي، تريفور فيليبس، لكنّها مرت دون أي تعليق.
إن تصريح بادينوك حول “الحرب بالوكالة” تم تجاهله إلى حد كبير من قِبَل وسائل الإعلام الرسمية البريطانية الأخرى. أما المنشورات اليمينية فقد لاحظته، لكن بدا أنها انزعجت فقط من مساواتها بين الحرب بالوكالة التي يخوضها الغرب في غزة وتلك التي يخوضها في أوكرانيا.
أو كما قالت زعيم المعارضة: “إسرائيل تخوض حربًا بالوكالة نيابةً عن المملكة المتحدة، تمامًا كما تخوض أوكرانيا حربًا نيابةً عن أوروبا الغربية ضد روسيا”.
انتقدت مقالة في مجلة “ذا سبيكتاتور”، المجلة الرسمية لحزب المحافظين، استخدامها لعبارة “حرب بالوكالة” لوصف أوكرانيا، لكنها بدت وكأنها تقبلت الإشارة إلى حرب غزة بالوكالة. وقد كتب جيمس هيل، نائب رئيس تحرير الشؤون السياسية في المجلة: “من خلال تكرار موقف روسيا من أوكرانيا دون قصد، أعطت بادينوك خصومها سلاحًا إضافيًا لمهاجمتها”.
ونشرت صحيفة “تلغراف”، وهي صحيفة أخرى تميل إلى حزب المحافظين، مقالًا يحمل عنوانًا مشابهًا: “الكرملين يستغل تصريحات بادينوك حول “الحرب بالوكالة” في أوكرانيا”.
الحروب ذات الصلة
إن غياب الرد على تصريحها حول “الحرب بالوكالة” في غزة يشير إلى أن هذا الرأي يشكّل في الواقع جزءًا كبيرًا من التفكير السائد في دوائر السياسة الخارجية الغربية، حتى وإن خرقت بذلك المحظور عبر التعبير عنه علنًا.
وللوصول إلى إجابة عن سبب اعتبار غزة حربًا بالوكالة، التي لا تزال بريطانيا منخرطة فيها بعمق – حتى لو كان ذلك على حساب وقوع إبادة جماعية – يجب أيضًا فهم لماذا تُرى أوكرانيا بنفس المنظور، فالحربان أكثر ترابطًا مما قد يبدو.
ورغم استياء “ذا سبيكتيتور” و”تلغراف”، فإن بادينوك ليست أول قيادية بريطانية تشير إلى أن الغرب يخوض حربًا بالوكالة في أوكرانيا.
ففي فبراير/ شباط الماضي، لاحظ أحد أسلافها، بوريس جونسون، عن تورط الغرب في الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات بين روسياوأوكرانيا: “لنكن صادقين، نحن نخوض حربًا بالوكالة. نحن نخوض حربًا بالوكالة. لكننا لا نمنح وكلائنا [أوكرانيا] القدرة على القيام بالمهمة”.
وإذا كان هناك من ينبغي أن يعرف الحقيقة بشأن أوكرانيا، فهو جونسون. ففي النهاية، كان هو رئيس الوزراء عندما غزت موسكو جارتها في فبراير/ شباط 2022.
وسرعان ما أرسلته واشنطن إلى كييف؛ حيث يبدو أنه أجبر الرئيس فولوديمير زيلينسكي على التخلي عن محادثات وقف إطلاق النار التي كانت قد قطعت شوطًا كبيرًا وكان من الممكن أن تقود إلى تسوية.
حدود هجومية
هناك أسباب وجيهة تدفع كلاً من جونسون وبادينوك إلى اعتبار أوكرانيا حربًا بالوكالة. فقد كرّر هذا الرأي نهاية الأسبوع المبعوث الأمريكي لأوكرانيا كيث كيلوغ، المقرّب من دونالد ترامب؛ حيث قال لقناة “فوكس نيوز” إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن مخطئًا في رؤيته لأوكرانيا كحرب بالوكالة، وأن الغرب هو من يتصرّف كطرف معتدٍ من خلال تزويد كييف بالأسلحة.
وعلى مدى سنوات، وسّع الغرب حدود الناتو الهجومية نحو روسيا، رغم التحذيرات الصريحة من موسكو بأن ذلك سيتجاوز الخط الأحمر.
ومع تهديد الغرب بضم أوكرانيا، جارة روسيا، إلى الحلف العسكري للناتو، لم تكن هناك سوى استجابتين محتملتين من جانب روسيا. فإما أن يتراجع بوتين أولًا ويجد بلاده محاصرة عسكريًا، مع صواريخ الناتو – والتي قد تكون نووية – على أعتاب موسكو وعلى بُعد دقائق منها، أو أن يبادر إلى رد فعل استباقي يمنع انضمام أوكرانيا إلى الناتو عبر الغزو.
وكان الغرب يعتقدون أنهم لن يخسروا في كلتا الحالتين. فإذا غزت روسيا أوكرانيا، فسيحصل الناتو على ذريعة لتحويل أوكرانيا إلى ساحة حرب تستنزف موسكو، اقتصاديًا من خلال العقوبات، وعسكريًا عبر إغراق ساحة المعركة بالأسلحة الغربية.
وكما نعلم الآن، اختارت موسكو الغزو. ورغم أنها تكبّدت خسائر فادحة؛ فإن القوات الأوكرانية والاقتصادات الأوروبية كانت تنزف بوتيرة أسرع وبثمن أعلى.
لا تكمن المشكلة في نقص الأسلحة – إذ وفّر الغرب كميات كبيرة منها – بل في أن أوكرانيا استنفدت المجندين الراغبين في الانخراط في ساحة الحرب.
وبالطبع، لن يرسل الغرب جنوده إلى المعركة. فالحرب بالوكالة تعني أن يقاتل – ويموت – طرف آخر بالنيابة عنه، وفي هذه الحالة، الأوكرانيون هم من يؤدون هذا الدور.
وبعد ثلاث سنوات، تغيرت شروط وقف إطلاق النار بشكل كبير أيضًا. وبعد أن أراق الكثير من دماء شعبه، أصبحت روسيا أقل استعدادًا للتنازلات، لا سيما فيما يتعلق بالأراضي الشرقية التي احتلتها وضمتها.
لقد وصلنا إلى هذا الحضيض في أوكرانيا – وهو حضيض عميق لدرجة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو مستعدًا للانسحاب – وذلك على وجه التحديد لأن الناتو، عبر بوريس جونسون، دفع أوكرانيا لمواصلة خوض حرب لا يمكن الفوز بها.
الهيمنة الشاملة
ومع ذلك، كان هناك منطق جيوسياسي، مهما كان معقدًا، في تصرفات الغرب تجاه أوكرانيا. إذ إن استنزاف روسيا، كقوة عسكرية واقتصادية، يتماشى مع الأولويات المتشددة للتيارات المحافظة التي تسيطر على العواصم الغربية في الوقت الحاضر، بغض النظر عن الحزب الحاكم.
ويُقدِّر التيار المحافظ ما كان يُعرف سابقًا بالمجمع العسكري الصناعي؛ فهم يؤمنون بأن الغرب يتمتع بتفوّق حضاري على بقية العالم، ويجب عليه استخدام ترسانته المتفوقة لهزيمة، أو على الأقل احتواء، أي دولة ترفض الخضوع.
وهذا تصور حديث لما كان يُعرف بـ”البرابرة على الأبواب”، أو كما يحب المحافظون أن يصفوه بـ”صراع الحضارات”. فهم يرون أن سقوط الغرب يعني، في نظرهم، العودة إلى العصور المظلمة. ومن المفترض أننا في صراع وجودي بين الحياة والموت.
وفي الولايات المتحدة، المركز الإمبراطوري لما نسميه “الغرب”، برر هذا استثمارًا ضخمًا في الصناعات الحربية – أو ما يُطلق عليه “الدفاع”، لأنه وصف أكثر قبولًا لدى الجمهور المحلي الذي تعب من التقشف المستمر اللازم للحفاظ على التفوق العسكري.
وتعترف عواصم الغرب بأنها تعمل كـ”شرطة عالمية”، بينما يرى بقية العالم الغرب أكثر كزعيم مافيا مصاب بالاعتلال النفسي. مهما كان الإطار الذي نضعه؛ فإن البنتاغون يتبع رسميًا عقيدة تُعرف باسم “الهيمنة الشاملة الكاملة” للولايات المتحدة على العالم. وعليك الخضوع – أي السماح لنا بالتحكم في موارد العالم – أو دفع الثمن.
من الناحية العملية، قسمت هذه “السياسة الخارجية” بالضرورة العالم إلى قسمين: من هم في معسكر العراب، ومن هم خارج هذا المعسكر.
فإذا لم يكن من الممكن احتواء روسيا وتقليص نفوذها بتحويل أوكرانيا إلى قاعدة أمامية لحلف الناتو على أعتاب موسكو، فلا بد من جرها من قبل الغرب إلى حرب منهكة بالوكالة من شأنها تحييد قدرة روسيا على التحالف مع الصين ضد الهيمنة الأمريكية العالمية.
أعمال العنف
هذا ما قصده بادينوخ وجونسون بالحرب بالوكالة في أوكرانيا، ولكن كيف يكون القتل الجماعي الذي تمارسه إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين من خلال القصف المكثف والتجويع المدبر حربًا بالوكالةو حرب بالوكالة تعود بالنفع فيما يبدو على المملكة المتحدة والغرب، كما يقول بادينوخ؟
ومن المثير للاهتمام أن بادينوخ عرضت سببين غير متوافقين تمامًا لـ”حرب” إسرائيل على غزة.
في البداية، قالت لشبكة سكاي: “إسرائيل تخوض حربًا تريد من خلالها الحصول على 58 رهينة لم تتم إعادتهم. هذا كل ما يدور حوله الأمر… ما نحتاج إلى التأكد منه هو أننا في الجانب الذي سيقضي على حماس”.
ولكن حتى هدف “القضاء على حماس” يصعب أن يتوافق مع أهداف السياسة الخارجية البريطانية. ففي نهاية المطاف، على الرغم من تصنيف المملكة المتحدة لحماس كمنظمة إرهابية، إلا أنها لم تهاجم بريطانيا قط، وقد صرحت بأنها لا تنوي القيام بذلك، ومن غير المرجح أن تكون في وضع يسمح لها بذلك.
وبدلاً من ذلك، من المرجح أن يؤدي تدمير إسرائيل لغزة، بتواطؤ غربي واضح، إلى تأجيج حماسة المتهورين ويدفعهم إلى أعمال عنف عشوائية أو مضللة لا يمكن الاستعداد لها أو إيقافها؛ أي أعمال إرهابية مشابهة للمسلح الأمريكي الذي قتل مؤخرًا اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة.
قد يكون هذا سببًا كافيًا لأن تستنتج المملكة المتحدة أنها يجب أن تنأى بنفسها عن أفعال إسرائيل بأسرع ما يمكن، بدلًا من الوقوف بشكل مباشر خلف تل أبيب.
لم تغير بادينوخ مسارها إلا عندما دفعها فيليبس إلى شرح موقفها، ويبدو أن الأمر لم يكن يتعلق فقط بالرهائن. وأضافت: “من يمول حماس؟ إيران، عدو هذا البلد”.
وبعد أن حوصرت بمنطقها الخاص، تشبثت بالغطاء المريح الذي يستخدمه المحافظين الجدد في الغرب وتحدثت عن “حرب بالوكالة”.
الحقيقة “الجريئة”؟
لم تغب وجهة نظر بادينوخ عن ستيفن بولارد، المحرر السابق لصحيفة “جويش كرونيكل”؛ حيث أشار في مقال له إلى مقابلة سكاي: “بادينوخ لديها موقف جريء تجاه الحقيقة – فهي تقول الحقيقة كما هي، حتى لو أثر ذلك على شعبيتها”.
والحقيقة “الجريئة” من بادينوخ هي أن إسرائيل هي محور القوة الغربية في الشرق الأوسط الغني بالنفط كما كانت قبل أكثر من قرن من الزمان، عندما تصورت بريطانيا فلسطين “وطنًا قوميًا للشعب اليهودي” بدلاً من السكان الفلسطينيين الأصليين.
من وجهة نظر بريطانيا، فإن حرب إسرائيل على غزة، كما تعترف بادينوخ، لا تتمحور حول “القضاء على حماس” أو “استعادة الرهائن” الذين تم احتجازهم خلال هجوم الحركة على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
بل يتعلق الأمر بتسليح إسرائيل لإضعاف من يرفضون الخضوع لهيمنة الغرب على الشرق الأوسط، مثل إيران وحلفائها الإقليميين، أو في حالة الفلسطينيين، الذين يرفضون الخضوع لعمليات الطرد والإبادة.
ومن هذا المنطلق، لا يختلف تسليح إسرائيل عن تسليح أوكرانيا لإضعاف النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية؛ حيث يتعلق الأمر باحتواء منافسي الغرب الجيوستراتيجيين – أو شركائهم المحتملين الذين لا يُنظرون إليهم حصريًا من منظور “الهيمنة الغربية الشاملة” – بنفس القدر من الفعالية التي حبست بها إسرائيل الفلسطينيين في السجون ومعسكرات الاعتقال في غزة والضفة الغربية المحتلة.
تهدف هذه الإستراتيجية إلى تجنب أي خطر يمثله اتحاد روسيا والصين وإيران وغيرها يومًا ما بفعالية لطرد الولايات المتحدة وحلفائها من قمم جبالهم المحصنة، ويُنظر إلى تحالفات مثل مجموعة البريكس على أنها أداة محتملة لمثل هذا الهجوم على الهيمنة الغربية.
مهما كان الخطاب، فإن العواصم الغربية لا تهتم بالدرجة الأولى بالتهديدات العسكرية أو “الحضارية”، فهي لا تخشى أن يتم غزوها أو احتلالها من قبل من قبل “أعدائها”، لكن سلوكياتهم المتهورة في أماكن مثل أوكرانيا تزيد من احتمالية وقوع مواجهة نووية كارثية.
إن ما يحرك السياسة الخارجية الغربية هو الرغبة في الحفاظ على التفوق الاقتصادي العالمي، ويُعد إرهاب الدول الأخرى بقوة الغرب العسكرية المتفوقة هو الطريقة الوحيدة لضمان هذا التفوق.
إن مخاوف الغرب ليست جديدة، وليست حزبية؛ فالخلافات داخل المؤسسات الغربية لا تدور حول ما إذا كان ينبغي للغرب فرض “هيمنة شاملة” حول العالم من خلال دول تابعة مثل إسرائيل وأوكرانيا، بل تنشأ الانقسامات الحزبية حول أي العناصر داخل تلك الدول التابعة ينبغي للغرب أن يتحالف معها بشكل أوثق.
سياسة “مارقة”
لقد أصبحت مسألة التحالفات متوترة بشكل خاص في حالة إسرائيل، حيث تتبنى الأحزاب اليمينية المتطرفة والدينية في الحكومة رؤية شبه مسيانية لمكانتها ودورها في الشرق الأوسط.
يحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والعديد من المقربين منه منذ عقود دفع الولايات المتحدة لشن هجوم على إيران، وذلك لإزالة المنافس الرئيسي لإسرائيل في الشرق الأوسط وضمان تفوقها الإقليمي المسلح نوويًا إلى الأبد.
حتى الآن، لم يجد نتنياهو من يؤيده في البيت الأبيض، لكن هذا لم يمنعه من المحاولة. وتشير تقارير واسعة النطاق إلى أنه يبذل جهودًا حثيثة لدفع ترامب للانضمام إلى هجوم على إيران في خضم المحادثات بين واشنطن وطهران.
ويبدو أن اليمينيين البريطانيين كانوا يلعبون دورهم الخاص في هذه المناورات على مدى سنوات عديدة، ففي الماضي القريب، ضُبط وزيران طموحان من وزراء الحكومة البريطانية من اليمين وهما يحاولان التودد إلى العناصر الأكثر عدوانية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
في عام 2017، أُجبرت بريتي باتيل على الاستقالة من منصب وزيرة التنمية الدولية بعد أن تبين أنها عقدت 12 اجتماعًا سريًا مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو، أثناء عطلة عائلية مزعومة. كما عقدت اجتماعات أخرى غير رسمية مع مسؤولين إسرائيليين في نيويورك ولندن.
وقبل ذلك بست سنوات، اضطر وزير الدفاع آنذاك ليام فوكس إلى التنحي بعد سلسلة من الاجتماعات السرية مع مسؤولين إسرائيليين. كما عُرف عن وزارة فوكس أنها وضعت خططًا مفصلة للمساعدة البريطانية في حال توجيه ضربة عسكرية أمريكية لإيران، بما في ذلك السماح للأمريكيين باستخدام دييغو غارسيا، وهي جزيرة بريطانية في المحيط الهندي.
وقال مسؤولون حكوميون لم يكشفوا عن أسمائهم لصحيفة الغارديان آنذاك أن فوكس كان ينتهج سياسة حكومية “بديلة”. وكان الدبلوماسي البريطاني السابق كريغ موراي أكثر صراحة: فقد أشارت مصادره داخل الحكومة إلى أن فوكس كان يتآمر مع إسرائيل في سياسة خارجية “مارقة” تجاه إيران، ضد أهداف بريطانيا المعلنة.
مسرح جريمة
إن سلوكيات الغرب ذات دوافع أيديولوجية وليست عقلانية أو أخلاقية، فالطبيعة القهرية والمدمرة للذات التي اتسم بها دعم الغرب للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة لا تختلف – وإن كانت أكثر فداحة – عن الطبيعة المدمرة للذات لتصرفاته في أوكرانيا.
لقد خسر الغرب المعركة ضد روسيا، ولكنه يرفض التعلم أو التكيف، وقد بدد ما تبقى له من شرعية أخلاقية في دعم محتل عسكري إسرائيلي عازم على تجويع الملايين من الناس حتى الموت، إن لم يتم تطهيرهم عرقيًا وتهجيرهم إلى مصر أولًا.
لم يكن نتنياهو تلك التميمة العسكرية اللطيفة التي يسهل تسويقها مثلما كان زيلينسكي في أوكرانيا.
يمكن على الأقل تصوير دعم كييف على أنه انحياز للجانب الصحيح في صراع الحضارات مع روسيا البربرية. أما دعم إسرائيل، فهو ببساطة يفضح نفاق الغرب وعبادته للقوة لذاتها وغرائزه المختلة نفسيًا.
لقد أفرغ دعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية ادعاء الغرب بالتفوق الأخلاقي من مضمونه، إلا لدى أكثر أتباعه المخدوعين. وللأسف، لا تزال معظم المؤسسات السياسية والإعلامية الغربية في هذه الفئة، التي لا تملك سوى التبشير بالنظام العقائدي الذي يسيطرون عليه، مدعين أنه الأجدر في التاريخ.
يحاول البعض، مثل ستارمر، تخفيف حدة خطابهم في محاولة يائسة لحماية النظام المفلس أخلاقيًا الذي منحهم السلطة.
لا يزال آخرون، مثل بادينوخ، مفتونين بعبادة الغرب المتفوق لدرجة أنهم يتجاهلون مدى سخافة هذيانهم بالنسبة لأي شخص لم يعد مفتونًا بالإخلاص للغرب، وبدلًا من أن تنأى بنفسها عن فظائع إسرائيل، فهي سعيدة بوضع نفسها – والمملكة المتحدة – في مسرح الجريمة.
لقد انكشفت الحقيقة أمام الرأي العام الغربي، وحان الوقت لمحاسبة قادتنا محاسبةً كاملة.
المصدر: ميدل إيست آي