مرّةً أُخرى، دخلت أستاذة جامعة القاهرة، ليلى سويف، في إضرابٍ كامل عن الطعام، مطالبةً بالإفراج عن ابنها، الناشط السياسي علاء عبد الفتاح. ومنذ ذلك الحين، تتوالى المتابعات من منصات إعلامية وصحفية وناشطين من مختلف المجالات والبلدان، في ظل تدهور حالتها الصحية الشديد، والتي تُنذر، وفق التقارير الطبية، باحتمال الموت المفاجئ في أي لحظة.
لكن إضراب ليلى سويف ليس مجرد قصة ذاتية عن أم وولدها، بل هي قصة تمتد من ذاتيّتها لتشمل ذوات أُخرى، أمهات وزوجات كثيرات يشاركنها المأساة والمعاناة ذاتها، ممن فقدن أبناءهن أو أزواجهن خلف قضبان السجون المصرية.
في هذا السياق، نحاول أن نسلّط الضوء على نساء أخريات، خاصةً من نساء التيار الإسلامي، ممّن لم تُنصف مأساتهن ولم تُنقل معاناتهن كما يجب، رغم مرور سنوات طويلة على سجن ذويهن، فربما تكون هذه اللحظة فرصة لإعادة النظر، وإعادة الاصطفاف، حتى تُنتزع حرية آخر سجين.
ما وراء إضراب ليلى سويف
وراء معاناة ليلى سويف، تقف آلاف النساء اللواتي يتقاسمن معها ألم الفقد والانتظار، نساء لديهنّ أبناء أو أزواج في السجون المصرية، التي تحوّلت إلى متاهات مكانية وزمانية ابتلعت عشرات الآلاف من المواطنين منذ أكثر من أحد عشر عامًا. بعضهم يشبهون علاء عبد الفتاح، وبعضهم يقبعون في ظروف سجن أكثر قسوة وأشد بؤسًا، لكنهم جميعًا يتشاركون الحرمان ذاته، سلب الحرية دون تفريق.
هؤلاء النساء يعانين ما تعانيه ليلى من غياب الأحبة، والحسرة على شباب ضاع بين جدران الزنازين، وبعضهنّ يُثقل كاهلهنّ الألم المادي، لا سيما إذا كان ذووهنّ من الطبقات الدنيا، حيث يتكفّلن بتكاليف الزيارات، في ظلّ غياب الدعم والتجاهل الرسمي.
كنتُ شاهدًا على هذه المعاناة خلال تجربتي السجنية؛ رأيت سجناء لا تصلهم أي زيارات، يأتي ذووهم فقط لرؤيتهم، غير قادرين على إدخال طعام أو شراب، لعجزهم عن دفع التكاليف، ما كان يسبب إحراجًا كبيرًا لهم داخل الزنزانة، لكن التكافل بين السجناء كان يُخفّف من وطأة الفقر والعزلة، فكانوا يشاركونهم الطعام دون أن يُشعروهم بالنقص أو الحرج.
كذلك، اضطر كثير من أهالي السجناء إلى تقليل زياراتهم، من زيارة كل أسبوع إلى كل شهر أو شهرين، مرغمين لا مختارين، بسبب المهانة التي يواجهونها أثناء التفتيش، والإهانات التي تُكال لهم خلال الانتظار. والأسوأ، حالات الوفاة التي حدثت لأمّهات السجناء وهم داخل السجن، ما أوجدهم في أزمات نفسية شديدة الألم بسبب منعهم من وداعهم الأخير، ليُتركوا في عزلة مضاعفة ووجع لا يُحتمل.
على الرغم من كلّ هذه المعاناة التي يمرّ بها آلاف النساء في مصر، فلم يكن لهنّ صوت قوي ومسموع، سواء لدى السُلطة أو الأحزاب المدنية في مصر أو حتى المجموعات الحقوقية والإعلامية. ومن هنا أيضًا يبرز السؤال: لماذا لا تقمن هؤلاء النساء بالاحتجاج والإضراب عن الطعام، كما فعلت ليلى؟
تُفسَّر الإجابة على هذا السؤال ببضعة أسباب؛ منها أن بعضًا من هؤلاء النساء، حتى وإن كنّ محسوبات على التيار الإسلامي، متمثلًا في جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من الجماعات، إلا أنهنّ غير مُسيّسات، أي لا يُدركنَ معنى الاحتجاج أمام السُلطة بأشكاله المختلفة، وحتى الاحتجاج التقليدي عبر التظاهرات والنزول إلى الميادين، والذي سبق أن شاركن فيه، كان يتم بتنظيم من قيادة الجماعة ذاتها، لا من مبادرات فردية نسائية.
كذلك، فإن غالبية هؤلاء النساء ليست لديهن أي صلة بمؤسسات حقوقية، سواء إقليمية أو دولية، فضلًا عن وسائل الإعلام والصحف، التي يمكن أن تُسهم في إيصال أصواتهنّ، وتوسيع نطاق احتجاجهنّ في وجه نظام يستمر في سجن ذويهنّ، ويمنع أصواتهن من الوصول إلى المجتمع العربي والدولي.
سببٌ آخر وأساسي يرتبط بطبيعة السُلطوية في مصر؛ إذ يمارس نظام السيسي حالة من “الاستثناء” على كل ما هو إسلامي-سياسي، فهو يرى في الإسلاميين خصمًا مباشرًا للسلطة، لا مجال للتسامح معه، لذلك لا يتساهل مع أي فعل احتجاجي، حتى لو كان إضرابًا عن الطعام صادرًا عن نساء ينتمين إلى التيار الإسلامي، بل يواجهه باعتقال فوري أو إخفاء قسري، ليجدن أنفسهنّ في السجون ذاتها التي يقبع فيها أبناؤهنّ وأزواجهنّ.
حتى آخر سجين
ما تقوم به ليلى سويف، عبر جسدها، من مقاومة صفرية في مواجهة سلطوية السيسي، ليس مجرد عمل بطولي يتابعه الناس، بل هو بفعلها الشجاع هذا، حرك المياه الراكدة وأحدث فعلاً سياسيًا، وإن بدا بسيطًا، فعلى الرغم من أن دوافع الإضراب تُقدَّم في إطار ذاتي يتمحور حول مطلبها بخروج ابنها من السجن، إلا أن أثره تجاوز تلك الذاتية، فاستجابات بعض المجموعات والأحزاب، واصطفافها خلف ذات المطلب، تمثل فعلًا سياسيًا جماعيًا بامتياز.
استطاعت ليلى أن تحيي حالة من الموات السياسي التي طالما خيمت على قطاعات واسعة من المجتمع، فقد وجهت مجموعة من طلاب جامعتي القاهرة والمنصورة مذكرة إلى رؤساء الجامعتين بهدف إرسالها إلى الجهات المعنية، كرسالة تضامنية للمطالبة بالإفراج عن علاء.
إلى جانب ذلك، ظهرت آلاف المطالبات والتوقيعات من نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان وصحافيين ومحامين ومعتقلين سابقين داخل مصر، تطالب بالشيء نفسه. وامتد أثر هذه المقاومة إلى خارج الحدود، حيث نُظمت وقفات احتجاجية في بيروت ودمشق وتونس، وعدد من العواصم والمدن الأوروبية.
هذه الحالة السياسية التي أحدثها إضراب ليلى سويف، تُعد فرصة حقيقية للمعارضة المصرية، بكافة تياراتها الفكرية والتنظيمية، للانطلاق من جديد، والتوجه إلى السلطة بخطاب جاد، مع حشد وتكاتف من الشخصيات والتكتلات السياسية، مرورًا بالنقابات ومؤسسات العمل الإنساني والحقوقي، من أجل الضغط باتجاه حلّ جذري لقضية المعتقلين السياسيين في مصر والإفراج عنهم.
إن سجن عشرات الآلاف من المصريين كارثة إنسانية يعيشها المجتمع، سنوات طويلة ضاعت من أعمار هؤلاء داخل الزنازين، وضاعت مثلها من أعمار ذويهم في اضطراب نفسي دائم وإرهاق صحي، وأحيانًا في موت حزين بحسرة الفقد الطويل.
(فوك فالتشيتش / زوما برس واير / شاترستوك.)
من هذه اللحظة، يجب ألّا تتوقف المناداة بخروج المعتقلين السياسيين، وألّا ينتهي كل شيء عند ليلى، أيا كانت نتيجة إضرابها، وإن كنا نتمنى أن تكون النتيجة هي حياة ليلى وخروج ابنها علاء من السجن، لكن هذه ليست نهاية، بل يجب أن تكون بداية لمسار طويل ومستمر حتى خروج كل المعتقلين من السجون، باختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والتنظيمية، وإنهاء حالة المعاناة الشديدة التي تعيشها نساء المعتقلين وأمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم.
كما أن على كل الأطراف السياسية أن تتكاتف، وجماعة الإخوان المسلمين في مقدمتهم، لطرح حلول أو التمهيد لمفاوضات مع السلطة بشأن السجناء، إلى جانب الضغط الحقوقي والإعلامي والمدني، من خلال استمرار عمل المبادرات التي تُعرّف بالسجناء وتطالب بحريتهم، مثل حملات “حقهم”، و“FreeThemAll”، و“حتى آخر سجين”، وغيرها من المبادرات والأفكار التي يجب أن تبقى حيّة ومتواصلة من أجل عشرات الآلاف من السجناء الذين لا يعرفهم أحد، ولا يتحدث عنهم أحد.