بينما يتجهّز العالم الإسلامي لذبح الأضاحي، نسي سكان قطاع غزة طعم الأكل. في عيدٍ يُفترض أن يكون موسمًا للرحمة والفرح، يحلّ العيد هذا العام ضيفًا ثقيلًا على عشرات الآلاف من العائلات النازحة والمقهورة، التي لا تعرف من شعيرة الأضحية إلا الدماء المسفوكة على قارعة الطرق، وتحت أنقاض البيوت، وفي طوابير الخبز والماء.
منذ أكثر من عام ونصف، والدم الفلسطيني يُراق يوميًا، لكن مع اقتراب العيد، يتجدد النزف بصيغة أخرى، وجعٌ مضاعف من القهر، وذكرى ثقيلة لمن فُقد، وغربة في المخيمات عن البيوت، وعن الطقوس، وعن الأمان.
في غزة، العيد ليس مناسبة، بل عبءٌ ثقيل تتقاسمه الأرواح المنهكة. مشاعر القهر موزعة بين الحاجة والجوع، وبين النزوح الطويل وآلام الفقد، وبين ترقّب دائم للموت يُخيّم على كل ما تبقى من ملامح الحياة. الأسواق، والساحات، ومساحات اللعب، والمساجد، كلها باتت أهدافًا محتملة، وكل محاولة للفرح تقابلها غارة أو طائرة تُحلّق في السماء.
مظلوميتهم التي كانوا وما زالوا يتغنّون بها على مر العقود السابقة، ويحرّمون المساس بها، يمارسونها بحذافيرها اليوم في قطاع #غزة.. كيف تعيد استراتيجية الاحتلال في سياسة التجويع المتعمدة إلى الأذهان أساليب النازية في الحرب العالمية الثانية؟ 👇
📍تفاصيل أكثر في موقعنا الإلكتروني… pic.twitter.com/Gp45cvoZLX
— نون بوست (@NoonPost) June 4, 2025
الأضاحي شعيرة غائبة ومزارع على قائمة الاستهداف
في غزة، لم يُرفع هذا العام شعار “اللهم هذا عني وعن أهل بيتي”، كما جرت العادة في صباح عيد الأضحى، فقد غابت شعيرة الأضحية، التي كانت تشكّل ركنًا روحيًا واجتماعيًا من أبرز معالم العيد، بعدما تحوّلت مزارع المواشي إلى أهداف عسكرية مباشرة.
قبل الحرب، كانت أسواق المواشي تعجّ بالحركة مع اقتراب العيد، ففي سوق الحلال بمدينة رفح مثلًا، كان العشرات من المربين يأتون يوميًا بعشرات الرؤوس من الأغنام والعجول، يتجوّل المشترون بينهم، وتبدأ مفاوضات الأسعار والتجهيزات المبكرة للذبح والتوزيع. أما اليوم، فقد باتت رفح بأكملها خاضعة للتدمير الشامل، وتحول السوق إلى ركام.
لطالما كانت شعيرة الأضحية طقسًا شعبيًا جامعًا؛ من يملك المال يذبح ويوزّع، ومن لا يملك يجد نصيبه من الجيران أو من مؤسسات خيرية كانت تعمل على نطاق واسع. أما هذا العام، فقد باتت الأضاحي رفاهية بعيدة المنال. مزارع كاملة نُسفت بالصواريخ، والمواشي إما نفقت تحت القصف، أو نُهبت، أو استُشهد أصحابها.
وما تبقى من رؤوس ماشية في بعض المناطق المحاصرة يُباع بأسعار خيالية، بسبب ندرة العلف، وغياب وسائل النقل، والانهيار الكامل في القدرة الشرائية لدى السكان.
وصل في فلسطين حد الـ800 دولار أمريكي، وهو الأعلى سعرًا.. إليك متوسّط أسعار الأضاحي في العالم العربي#عيد_الاضحى pic.twitter.com/oEp18NeSKg
— نون بوست (@NoonPost) June 5, 2025
الحاج خليل أبو ظاهر، من سكان منطقة أبو صفية شرق جباليا، يروي بغصة: “كان عندي مزرعة فيها أكثر من 70 رأس غنم، كل سنة كنت أبيع للناس وأذبح عن نفسي وأوزّع. في السنة التي سبقت الحرب ذبحنا ثلاثة خراف، ووزعناها على عشرات الجيران. اليوم ما ضلّ شي. الطيران دمّر المزرعة، وما تبقّى لنا شيء. حتى منزل يأوينا لم يعد موجودًا”.
ويضيف: “ما في حدا بيسأل عن الأضحية هالسنة، الناس بدها خبز لأولادها. الناس جائعة، واللي ضايل من لحمة العيد، صار ذكرى مؤلمة”.
باتت “أضحية العيد” في غزة اليوم عنوانًا لمأساة أكبر، مأساة مجتمع تُغتال فيه الشعائر كما تُغتال الأجساد، وتُجتثّ فيه معالم العطاء الجماعي في لحظة كان يُفترض أن تكون رمزًا للتكافل والرحمة.
أسواق العيد من بهجة الاستعداد إلى مسارح للمجازر
في كل عام، كانت أيام ما قبل عيد الأضحى تشهد ذروة الحركة التجارية في قطاع غزة. الأسواق الشعبية كانت تُضيء شوارع المدينة بالحياة، وتتحوّل إلى خلايا نابضة بالضحك والمساومات والتجهيزات.
سوق الرمال، سوق الزاوية، سوق الترنس، سوق النصيرات، شارع جلال… أسماء ارتبطت في ذاكرة الغزيين بطقوس العيد، شراء الملابس الجديدة، تجهيز الحلوى، العطور، ألعاب الأطفال، وحتى اقتناء السكاكين وأدوات الذبح.
لكن في صيف 2025، أصبحت هذه الأسواق أهدافًا معلنة للصواريخ، فمن بين المناطق الواقعة تحت أوامر الإخلاء القسري أو المُدمّرة شمالًا وجنوبًا، بقيت أسواق مدينة غزة والمحافظة الوسطى ضمن المناطق التي لا يزال يرتادها السكان، لكن لا بشغف الاستعداد، بل بدافع الحاجة القصوى. ومع كل خروج جديد، تُطلق التوصيات وتُهمس الدعوات ألا يكون المتسوّق “الضحية التالية”. الناس لم تَعُد تتسوق، بل تُخاطر بحياتها.
يقول محمد أبو عيطة، أب لثلاثة أطفال: “أطفالي طلبوا ملابس للعيد. ظلّيت أتهرب، لكن يوم الثلاثاء الصبح قررت أنا وزوجتي نشتري لهم أي شيء بسيط من سوق الرمال. كان في ناس كثير، بس في خوف دائم… الكل بيخلص بسرعة وبيركض على بيته. وإحنا هناك، سمعنا الصوت… الصاروخ نزل فوق الشارع، وناس طارت من مكانها”.
خلال تلك المحاولة البسيطة للتجهيز للعيد، استهدف الاحتلال مجموعة من المواطنين في سوق الرمال، أحد أكبر الأسواق المركزية في مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من سبعة مواطنين، كانوا يحاولون شراء ما تيسر من مستلزمات العيد.
ما جرى في سوق الرمال لم يكن حادثًا معزولًا، فقبل أيام، استُهدف تجمع آخر قرب سوق دير البلح، كما طال القصف بسطات مؤقتة أقامها نازحون قرب مخيمات خان يونس. يحمل دائمًا العدوان الإسرائيلي رسائل واضحة مفادها: لا أمان حتى في أضيق فرص النجاة، ولا حرمة لعيد ولا لمتسوقين يبحثون عن كسوة لطفل أو رغيف لأسرة.
أم يحيى، نازحة من رفح إلى منطقة المواصي، تقول: “ابني الصغير صار يبكي لما يشوف ملابس العيد على الأطفال في الفيديوهات. حاولنا نشتري له قميص من السوق الصغير في المخيم، لكن قالوا لنا انتبهوا، القصف صار قريب من السوق. رجعنا وإيده فاضية، وكل اللي قلت له: بترجع تلبس في العيد إن شاء الله لما نرجع على بيتنا”.
بعد أن كانت الأسواق في غزة مسارح للفرح الجماعي، تحوّلت إلى ساحات موت جماعي، والتجهيزات التي كانت تبعث البهجة، أصبحت في حد ذاتها سببًا للحداد، ومحاولات شراء قميص لطفل تحوّلت إلى قرار على حافة الحياة والموت.
صلة الأرحام… شتات العائلات وغياب القبور
من أهم ما يُميّز عيد الأضحى في غزة، هو البُعد الاجتماعي العميق فيه؛ صباحات العيد تبدأ بصلاة جماعية، ثم زيارة القبور لقراءة الفاتحة على أرواح الأحبة، وتليها جولات طويلة لزيارة الأقارب وصلة الأرحام. هذه لم تكن مجرد طقوس، بل إحدى ركائز التماسك الاجتماعي، ووسيلة لاستعادة الحميمية العائلية وسط واقعٍ سياسي ومعيشي ضاغط.
لكن هذا العام كما سابقه في ظل حرب مستمرة، انهارت تلك العادات تحت ضربات القصف والنزوح والغياب الجماعي للأهل. أكثر من مليون ونصف مواطن نزحوا من بيوتهم إلى مدارس ومخيمات مؤقتة، أو إلى أراضٍ مفتوحة بلا أدنى مقومات الحياة. كثير من العائلات تفرّقت داخل القطاع، وبعضها انقطع التواصل بينها تمامًا.
أبو طارق اللوح، نازح من بيت لاهيا إلى مخيم النصيرات، يقول: “في كل عيد، كنا نزور أمي وخالاتي، ونجتمع على الغداء في بيت العائلة. اليوم أنا في النصيرات، وأمي نازحة في مدينة غزة، وبيتنا في بيت لاهيا انقصف بعد أيام من انهيار اتفاق التهدئة. وصلنا مرحلة بطلنا نعرف مين ضل ومين استشهد. صار العيد مناسبة للقهر، مش للفرح”.
وما يُضاعف الفقد، أن جزءًا من تقاليد صباح العيد التي توسعت بعد الحرب كانت تبدأ بزيارة القبور، خاصة لأقارب قضوا إما في حروب سابقة أو في حرب الإبادة، لكن حتى هذا الطقس البسيط لم يعد ممكنًا.
كثير من المقابر باتت ضمن مناطق الإخلاء القسري أو مناطق العمليات العسكرية المغلقة، خصوصًا مقابر شرق جباليا وبيت لاهيا، بالإضافة إلى مقابر رفح الغربية التي احتضنت قبل عام عائلات بأكملها أبيدت، بعضها لم يُعرف أفرادها بالاسم، وبقيت تحت تصنيف “مجهولي الهوية”.
تقول أم نادر، نازحة من بيت حانون إلى حي النصر بمدينة غزة: “من خمس سنين وأنا بزور قبر أمي كل عيد، وأحط لها وردة وأقرأ لها سورة ياسين. اليوم حتى القبر مش قادرة أوصله. يمكن حتى القبر اندفن تحت الردم، مثل باقي ذكرياتنا”.
وبات مشهد العائلات التي كانت تفرش الساحات وتوزع الحلوى بعد الزيارات مجرد ذكرى من زمن آخر. لا زيارات، ولا أرحام، ولا قبور. فقط رسائل هاتفية متقطعة، ودموع تذرف بصمت في خيام النزوح أو أمام صورة شهيد لم يُدفن بعد.
الترفيه الطفولي… الفرح مطارد بالقصف
في غزة، كانت ساحة العيد الحقيقية تبدأ من ضحكات الأطفال. مع كل عيد، كانت الشوارع تمتلئ بالأراجيح الخشبية التي يثبتها الأهالي في الأزقة، وبسطات تبيع البالونات والفقاعات، وأكشاك صغيرة تعرض ألعابًا بسيطة بألوان زاهية. لم تكن ملاهي غزة كبيرة، لكنها كانت كافية لإشعال بهجة لا تُنسى في عيون الصغار.
أحياء مثل التفاح، الفالوجا، بني سهيلا، والشابورة كانت تتحوّل إلى فضاءات مفتوحة للفرح. حتى في مخيمات اللاجئين المكتظة، كان العيد يعني زيًّا جديدًا، لعبة متواضعة، فسحة قصيرة على شاطئ البحر، أو في ساحة مدرسة محلية تحوّلت إلى “حديقة مؤقتة” برعاية السكان.
لكن كل ذلك اختفى في ظل حرب الإبادة. لا أراجيح ولا بسطات، لا مهرّجين للأطفال، ولا حتى مساحة آمنة يمكن أن يمشي فيها طفل دون أن تلاحقه طائرة مسيّرة. كل مشهد قد يوحي بمحاولة ترميم الفرح بات هدفًا مشروعًا لجيش الاحتلال.
روز (11 عامًا)، من حي الزيتون، كانت تحلم بإعادة استخدام أرجوحتها اليدوية في ساحة منزلهم: “بابا عمل لنا أرجوحة من حبلين، وربطهم بين عمودين قدّام البيت. كنت أعدّ الأيام علشان ألعب عليها بالعيد. قبل أسبوع قصفوا عمارة قريبة، وانقطع الحبل، وطارت الأرجوحة. ماما قالتلي: حتى الأرجوحة بدهمش يخلونا نلعب فيه”.
ما حدث مع روز ليس حادثًا فرديًا. قبل أسابيع، استُشهد مجموعة من الأطفال في منطقة الزوايدة بينما كانوا يلعبون كرة القدم في الشارع، حين باغتهم صاروخ من طائرة إسرائيلية. وفي خان يونس، خلال عيد الفطر الماضي، قُصف محل حلويات للأطفال، واستُشهد من فيه وهم يرتدون ملابس العيد، ليدفنوا بها، وكل محاولة لصناعة بسمة في غزة، تُقابل بالبارود.
أبو إياد، صاحب بقالة صغيرة في حي الشاطئ، يروي بمرارة: “كنت أبيع بالونات وألعاب بلاستيك قبل العيد. اليوم الناس بتيجي تسألني عن علبة سردين أو كيلو طحين. ما في طفل طلب لعبة من شهرين، كأنهم كبروا فجأة.”
غزة التي تزرع الحياة تحت الأنقاض
رغم كل ما فُقد، ورغم كل ما طُمِس، ما تزال غزة تُمسك بخيوط الحياة كما يُمسك الغريق بخشبة نجاة، ففي كل بيت مدمّر يحاول صاحبه إشعال موقد طين لخبز رغيف صغير، وفي كل خيمة تُخيط فيها أم ثياب العيد القديمة من أجل أطفالها، وفي كل همسة “كل عام وأنتم بخير” تُقال خجلاً تحت القصف، هناك شعب يُعيد تعريف معنى العيد… لا كطقس احتفالي، بل كفعل مقاومة للإبادة الكاملة.
يكبّرون على شهدائهم، ويلبّون نداء الله من وسط مدينتهم المحاصرة… تكبيرات العيد في وداع شهداء #غزة. pic.twitter.com/023YRSgChU
— نون بوست (@NoonPost) June 5, 2025
غزة لم تُذبح في عيد الأضحى، بل تقدّم نفسها كل يوم قربانًا للكرامة والحرية والحق في الحياة، وإن كانت الأعياد تُقاس بكمّ الفرح فيها، فإن غزة تقيسه بكمّ ما نجا من أرواحها رغم كل النكبات. وإذا كان العالم صامتًا أمام هذه الإبادة، فإن غزة تُعلن أنها ما زالت على قيد الكرامة، وعلى قيد الإنسان.
إنها الأجدر بالحياة ممن صمتوا على موتها، والأوفى للعيد ممن باعوه مقابل صفقات السلام الزائف والمواقف الرمادية. في غزة، تُصلّى صلاة العيد على الشهداء، ويُذبح الألم بدل الأضاحي، وتُوزّع الصلابة بدل الحلوى، ومع ذلك، لا تموت.
غزة لا تنتظر عيدًا ليمنحها الفرح، بل تصنع من كل لحظة نجاة مناسبةً لإعادة بناء الحياة. وهذا وحده كافٍ ليُقال: كل عام وغزة هي المعنى.