لا تتوقف إدارة ترامب عن مفاجأة العالم بسياساتها الصادمة التي تسعى إلى إنفاذها محليًا ودوليًا منذ توليها مقاليد الحكم في واشنطن؛ فمن حرب على المهاجرين غير الشرعيين، إلى حرب تجارية طاحنة مع بقية دول العالم، وصولًا إلى حربها على مؤسسات التعليم العالي، يبدو أن الإدارة تسعى حثيثًا لإرساء قواعد أجندتها المحافظة في وقت قياسي.
تُعد جامعة هارفارد، التي تتصدر المشهد في أزمة ترامب مع مؤسسات التعليم العالي، أعرق وأقدم وأغنى الجامعات الأمريكية، وقد سبق تأسيسها قيام الولايات المتحدة ذاتها؛ إذ تأسست هارفارد كجامعة للمستعمرات الأمريكية عام 1636 في كامبريدج، ماساتشوستس، أي قبل قرن ونصف من ما يُعرف باستقلال الولايات المتحدة وقيام الأمة الأمريكية الحديثة. وقد خرّجت كبار الشخصيات الأمريكية من رؤساء وقضاة وعملاقة اقتصاد وتكنولوجيا، من بينهم جون كينيدي، وباراك أوباما، وبيل جيتس، ومارك زوكربيرغ، وغيرهم.
العديد من الأسئلة تثار حول الأزمة التي جمعت ترامب بإدارة الجامعة، خاصة وأنه لا تلوح في الأفق انفراجة وشيكة؛ كيف بدأت الحرب الحالية وكيف تطورت؟ إلى أي حدٍّ تبدو الإدارة الشعبوية مستعدة للمضي في شيطنة الجامعة ونزع مشروعيتها؟ أي مستقبل ينتظر الجامعة في ظل إدارة ترامب؟ وكيف تستعد للدفاع عن كينونتها؟ لماذا هارفارد بالذات؟ وهل لذلك علاقة بموقفها من القضية الفلسطينية؟ يلقي المقال الضوء على هذه الأسئلة وغيرها.
كيف بدأت الأزمة؟
رغم أن موقف ترامب من جامعات النخبة، وعلى رأسها هارفارد، ليس وليد اللحظة كما يظهر من الهجمة الشرسة الأخيرة؛ إذ سبق للرجل أن انتقد جامعات رابطة اللبلاب – جامعات النخبة الأمريكية – واصفًا إياها بأنها “مؤسسات فوق المحاسبة”، تتبنى منهجًا تجاريًا لا يساعد الطلاب على تفادي الديون الضخمة، وذلك حتى قبل توليه رئاسة الولايات المتحدة للمرة الأولى.
غير أن الهجمة الأخيرة، والتي تصفها صحيفة ذا أتلانتيك بمحاولة “تأميم جامعة خاصة”، نشأت أساسًا من أزمة الاحتجاجات الطلابية ضد حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، خلال ربيع العام الماضي، فمنذ توليها مطلع هذا العام، وجهت إدارة ترامب اتهامات متكررة بمعاداة السامية إلى الجامعات التي شهدت حراكًا طلابيًا واسعًا ومؤثرًا.
وفي فبراير/شباط الماضي، شكّلت الإدارة فريقًا خاصًا تحت اسم “فريق محاربة معاداة السامية”، ضمّ عدة هيئات ووزارات ومؤسسات حكومية، من بينها وزارات العدل والتعليم والصحة والحقوق المدنية، أوكلت إليه مهمة التحقيق في ما يُصنَّف “حوادث معاداة السامية” – لا سيما في الجامعات الحكومية.
بدأ الفريق عمله بإرسال رسائل مباشرة إلى رؤساء الجامعات، خصوصًا تلك التي شهدت احتجاجات طلابية بارزة، حاملةً جملة من المطالب التي تنطوي على أكثر من مجرد تعديل في السياسات؛ بل تضمنت تدخلًا سياسيًا سافرًا ووصاية تهدد بيئة الفكر والحريات التي سعت هذه المؤسسات إلى بنائها عبر تاريخها الطويل، والمبني أساسًا على التعددية والتنوع.
الرسالة التي وجهها الفريق إلى جامعة هارفارد في أبريل/نيسان الماضي، تضمنت مطالب تتجاوز قضيتي معاداة السامية والتنوع العرقي – اللتين شكلتا محور اهتمام إدارة ترامب مؤخرًا – لتصل إلى تغييرات جوهرية في المناهج التعليمية، وتدخّل مباشر في عمليات قبول الطلاب، وتعيين الهيئات التدريسية والإدارية “التي تعارض القيم الأمريكية” – دون أي توضيح لما يعنيه هذا التوصيف.
كما اشترطت الرسالة تقديم تقارير دورية إلى مراقبين حكوميين حول سلوك الطلبة والعاملين، في بيئة لا تمت بصلة إلى الكرامة أو الحرية الأكاديمية. وهو ما رفضته الجامعة بشكل قاطع.
وقد سبق هذه الرسالة قيام وزارة الصحة، في فبراير/شباط الماضي، بفتح تحقيق بشأن ارتداء طلاب الطب في الجامعة شعارات مناصرة للقضية الفلسطينية خلال حفل تخرجهم في ربيع عام 2024. وسرعان ما توسّع التحقيق ليشمل كافة نشاطات الطلبة والجامعة منذ السابع من أكتوبر 2023.
كان واضحًا أن مسار التحقيقات يتجه سريعًا نحو إدانة جامعة هارفارد بعدة تهم، من بينها تهيئة “بيئة مشجعة للراديكاليين والمتطرفين الأجانب”. إذ طلبت وزيرة الأمن القومي، كريستي نوعم، من إدارة الجامعة تزويدها بقوائم تتضمن أسماء ومعلومات جميع الطلاب، بمن فيهم الطلبة الأجانب، وهو ما رفضته الجامعة حفاظًا على خصوصيتهم وسلامتهم.
عندها، انفجرت أزمة جديدة بإعلان نوعم قرارًا يقضي بتعليق قدرة الجامعة على استقبال الطلبة الأجانب، الجدد منهم والقدامى، ما وضع مستقبل نحو 6800 طالب أجنبي – يُشكلون ما يقارب 27% من إجمالي طلبة الجامعة – في مهب خطر حقيقي بفسخ تأشيرات دراستهم.
ورغم أن قرار نوعم أشار إلى أن “فريق محاربة معاداة السامية” وجد أدلة قاطعة على تورط الجامعة في “معاداة السامية” وسماحها بتعرض طلبتها اليهود لاعتداءات جسدية ومعنوية، فإن المفارقة أن القرار ذاته يهدد مستقبل طلبة يهود يدرسون ضمن برنامجي الزائرين والتبادل الأكاديمي، ممن يرون أن الخطوة تتجاوز مسألة الحماية من معاداة السامية، إلى تقويض وجودهم الأكاديمي في الجامعة.
ويشاركهم هذا القلق أكثر من 2000 طالب يهودي في هارفارد، يرون في القرار تهديدًا مباشرًا لمسيرتهم البحثية والعلمية داخل إحدى أعرق جامعات العالم.
شيطنة الجامعة
لم تتوقف وزيرة الأمن القومي، كريستي نوعم، عند هذا الحدّ من الاتهامات المتوقعة أساسًا؛ ففي بيان وزارتها الذي عنونته بـ”هارفارد تخسر شهادة استقبال الطلبة الزائرين وبرامج التبادل بسبب السلوك الموالي للإرهاب”، طالبت الجامعة بتقديم وثائق وتسجيلات صوتية ومرئية لأي نشاط احتجاجي خلال السنوات الخمس الماضية، بما يشمل حتى الطلبة الأمريكيين أنفسهم، كشرط لإعادة النظر في المنع المفروض عليها.
نوعم اتهمت الجامعة بالانخراط في أجندة موالية للإرهاب، لا تقتصر على مناصري القضية الفلسطينية الذين، بحسب تعبيرها، “تحرّشوا جسديًا بالطلبة اليهود”، بل تتجاوزهم إلى قبول وتدريب أعضاء من الحزب الشيوعي الصيني “المنخرط في إبادة جماعة الإيغور”، كما ورد في قرارها.
وأشارت بوضوح إلى أن جامعة هارفارد ستكون عبرة لباقي الجامعات، التي ينبغي أن “تنصاع للقانون” إن أرادت الحفاظ على “امتياز” قبول الطلبة الدوليين، والذين ترى فيهم نوعم مصدر ثروة مضافة لأوقاف الجامعات، المقدّرة بمليارات الدولارات.
ولم تكتفِ الإدارة بكل هذه الملاحقات، بل بدأت أيضًا بنبش سجلات الجامعة وتوجيه اتهامات اعتباطية لتبرير موقفها المتسلّط؛ إذ ادّعت أن الجامعة لم تُقدّم كشوفات المنح الأجنبية بشكل دقيق وكامل كما يقتضي القانون الفيدرالي. وذكرت وزارة الأمن القومي أن الجامعة تلقت ما مقداره 151 مليون دولار من حكومات أجنبية منذ يناير/كانون الثاني 2020، أي نحو 13% من إجمالي 1.1 مليار دولار حصلت عليها من أفراد وجهات أجنبية في الفترة نفسها، دون الإفصاح عنها في كشوف قانونية واضحة. وهو ما أنكرته الجامعة بشكل قاطع.
بل وتعدّت الإدارة هذه الاتهامات إلى توجيه تهم بالتخابر والتعاون المباشر مع الحكومة الصينية، لأغراض عسكرية وبحثية تتعلق بالفضاء والصناعات الدفاعية والتنافس التكنولوجي مع الولايات المتحدة، وبتمويل ودعم إيراني، وهي اتهامات لا تجرّد الجامعة من مهمتها التعليمية فحسب، بل تنزع عنها هويتها الأمريكية والوطنية، وتؤذن بحملة حكومية شرسة لا تعرف حدودًا في التعامل مع ما تعتبره تهديدًا للأمن القومي.
من ناحية أخرى، يلعب ترامب لعبة بالغة الخطورة مع مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة؛ فهو لا يكتفي بمحاولة ابتزازها وفرض أجندته المحافظة عليها من خلال تدخل سياسي سافر يهدر جوهر رسالة الحرية الفكرية والأكاديمية، بل يوجّه إلى الأمريكيين رسائل مضللة حول سياساته هذه.
وبعيدًا عن الأسباب الحقيقية وراء حربه على جامعة هارفارد، غرّد ترامب على منصته “تروث سوشيال” بأنه يفكر في تحويل مبلغ 3 مليارات دولار من التمويل الفيدرالي المخصص لأبحاث الجامعة، إلى الجامعات التجارية التي يرتادها أبناء الطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود. وذلك في محاولة لكسب قطاع أوسع من الجمهور الأمريكي المؤيد له، لتبدو هذه الخطوة وكأنها “انتصار” من الرئيس للمسحوقين في مواجهة “جامعات النخبة” التي يرتادها البرجوازيون وعلية القوم.
وقد دعمت هذا التوجّه المتحدثة باسم وزارة التعليم، مادي بيدرمان، التي ألمحت إلى أن جامعة هارفارد “لا تحمي طلابها، ولا تلتزم بمهمتها التدريسية، ولا تطبق القوانين الفيدرالية كما ينبغي”، مضيفةً أن الجامعة “لو كانت تقوم بواجبها كما تدّعي، لما خشيت من الانتقام الحكومي الذي يطالها اليوم”.
إلا أن واقع إدارة ترامب يُكذّب ادعاءاته بشأن الطبقة العاملة، خاصة في مجال التعليم؛ فمشروع القانون الضخم المطروح حاليًا للتصويت في الكونغرس، يتضمن بنودًا من شأنها إلغاء ضمانات قانونية تُلزم البرامج التعليمية بتحمّل مسؤولية فشل طلابها بعد التخرج، كما يهدد بقطع المنح الفيدرالية عن الطلبة بدوام جزئي أو المسجلين في برامج قصيرة الأمد وغير معتمدة، وهم في الغالب من أبناء الدخل المحدود، وهو ما يُقلّص فرصهم في تلقي تعليم مهني أو أكاديمي يساعدهم على الدخول إلى سوق العمل التنافسية، حتى في حدّها الأدنى.
عدا عن أن العديد من تحقيقات إدارة ترامب حملت في طياتها نفسًا تمييزيًا وثقافةً استعلائية؛ فقد شملت ادعاءات حول دخول يساريين وراديكاليين دوليين إلى أراضي الولايات المتحدة تحت صفة “طلبة” تم قبولهم في جامعة هارفارد، إلى مزاعم تفيد بأن الجامعة تمارس التمييز ضد “الرجال البيض” من ذوي التوجهات المحافظة، خصوصًا في ما يتعلق بالأدوار الجندرية، حيث ترى الإدارة أن الجامعة لا تقبل منهم نسبة كافية، مقارنةً بالنساء والملوّنين والمتحوّلين جنسيًا وهكذا تتبدى سياسة تفوقية لا تمت بصلة حقيقية لمصالح الطبقة العاملة.
غير أن ترامب اتجه إلى استغلال هذه “البطاقة” التي لطالما لوّحت بها جهات شعبوية وإعلامية، حول بهاظة الولوج إلى جامعة هارفارد، وكونها تُشكّل طبقة ثرية من الطلبة المدلّلين الذين يحظون بامتيازات سوقية وفرص نخبوية تُعيد إنتاج الثروة ضمن دائرة مغلقة.
هدف ترامب من ذلك هو توسيع قاعدة مؤيديه، وتحويل الصراع من كونه صراعًا سلطويًا يهدّد أسس الديمقراطية الأمريكية، إلى صراع يبدو – شكليًا – على توزيع الثروات ونزع الامتيازات، رغم أن الرئيس، الذي يسوّق نفسه كمناضل من الطبقة العاملة، يملك ثروة طائلة ولم يكن يومًا جزءًا منها.
وقد تكاتفت وزارات التعليم والعدل والصحة في شيطنة جامعة هارفارد، عبر فتح تحقيقات متزامنة، وجّهت أصابع الاتهام في ملفات عدة، يبدو أن هدفها الواضح هو الحفر في سمعة الجامعة لا أكثر، فقد فتحت وزارة التعليم تحقيقًا في سياسات القبول الجامعي ومدى تأثير النوع الاجتماعي والعرق والخلفيات الفكرية عليه.
وتزامن ذلك مع فتح وزارة العدل تحقيقًا تحت مظلة “قانون الادعاء الكاذب” الذي يُستخدم عادةً لملاحقة المحتالين على الحكومة، بزعم أن الجامعة خرقت قرار المحكمة العليا لعام 2023، والذي يحظر تخصيص “كوتات” عرقية في عمليات القبول والتعيين الأكاديمي.
التمويل كورقة إبتزاز
ما إن رفضت جامعة هارفارد مطالب إدارة ترامب، حتى بدأت “اللعنة الحكومية” تطاردها؛ إذ أعلنت الإدارة، كخطوة أولى، إيقاف التمويل الفيدرالي البالغ 2.2 مليار دولار والذي يُمنح للجامعة لأغراض البحث العلمي، إلى جانب 60 مليون دولار تمثل قيمة العقود بين الجامعة ومؤسسات حكومية، وعلى رأسها المعاهد الوطنية للصحة.
كما حثّت الإدارة الهيئات الفيدرالية المختلفة على إنهاء العقود القائمة مع الجامعة، والتي تُقدّر بنحو 100 مليون دولار، وكانت مراكز السيطرة على الأمراض (CDC) أول من استجاب، إذ ألغت منحًا بقيمة 60 مليون دولار كانت مخصصة لهارفارد.
ولم يقتصر الاقتطاع المالي على الجامعة وحدها؛ فقد أوقفت الحكومة نحو 500 منحة فيدرالية كانت موجهة إلى مؤسسات مرتبطة بالجامعة، مثل مستشفى النساء في بوسطن، كما حرمت الجامعة من أي تمويل فيدرالي مستقبلي.
من جهة أخرى، لوّح ترامب بإلغاء صفة “الإعفاء الضريبي” عن الجامعة، بوصفها مؤسسة غير ربحية تهدف إلى تقديم التعليم العام، وهو ما من شأنه أن يهزّ ركائزها المالية ويحوّلها إلى كيان تجاري خاضع للضرائب، بما قد يكلّفها مئات ملايين الدولارات سنويًا، إلا أن تنفيذ هذا الإجراء يتطلب موافقة من دائرة الضرائب (IRS)، وهو ما لم يحدث حتى الآن، رغم وجود تسريبات عن دراستها للأمر بجدية.
حتى اللحظة، لا يبدو أن الإدارة عازمة على التراجع؛ إذ طرح ترامب، في أحد اجتماعاته مع فريقه، فكرة قطع التمويل الفيدرالي كاملًا عن الجامعة، والبالغ 9 مليارات دولار، مشيرًا إلى أن ما تم اقتطاعه حتى الآن لا يتجاوز الثلث. وأكدت ليندا ماكماهون، وزيرة التعليم، في مقابلة صحفية، أن هذا الاحتمال “مطروح بجدية”.
ورغم أن نحو 6 مليارات دولار من هذا المبلغ تذهب إلى خمس مستشفيات تابعة للجامعة، وقرابة 2.7 مليار تُخصص لأبحاث علمية وطبية، إلا أن الجانب الصحي لا يبدو أنه يشكّل أولوية لدى الإدارة، بقدر ما يشكّل “وسيلة ضغط” لإخضاع الجامعة وسحب البساط من تحت قدميها.
كيف ردّت الجامعة؟
رفعت جامعة هارفارد دعوى قضائية لوقف التعدي الحكومي عليها مع بداية اندلاع الأحداث وتجميد تمويلها الفيدرالي، مجادلةً أن في ذلك انتهاكًا لكرامتها وحريتها الدستورية، ومخالفةً صارخة لتقاليدها الفكرية والأكاديمية الراسخة. وطالبت المحكمة بإعادة ما تم اقتطاعه من تمويلها، ومنع الحكومة من استخدام هذه الورقة في المستقبل، الأمر الذي دفع الإدارة إلى مزيد من التنمّر والتصعيد في مواجهة الجامعة.
وما إن قررت الإدارة وقف قبول الجامعة للطلبة الأجانب، حتى رفعت هارفارد دعوى منفصلة للطعن بالقرار، مستندةً إلى عدم دستوريته ومخالفته لقواعد الإجراءات القانونية الواجبة. وقد قرر القاضي الفيدرالي المشرف على القضية تعليق القرار فورًا، معتبرًا أنه يتعارض مع الحقوق الدستورية في التعبير والعدالة الإجرائية، وأوقفه مؤقتًا إلى حين البتّ الكامل في الدعوى، التي لا تزال منظورة أمام القضاء.
وبعد أن وجدت نفسها في قلب العاصفة، خاصةً عقب فشل جامعة كولومبيا في الدفاع عن كرامتها وحرية طلابها وهيئاتها التدريسية في بداية حملة التنمّر الحكومية، تصدّت هارفارد للمواجهة. وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة الوطنية، دافع رئيس الجامعة، آلان جاربر، عن مؤسسته قائلاً إن “الجامعة تسعى إلى حماية طلابها وتقاليدها التاريخية الراسخة في احترام حرية التعبير والتنوع”.
قامت الجامعة قبل أسبوعين فقط من قرار ترامب بتجميد التمويل الفيدرالي بإحالة لجنة مناصرة فلسطين لطلبة البكالوريوس إلى التحقيق، مع حرمانها مؤقتًا من تنظيم أي نشاطات
وردًا على اتهامات ترامب بـ”برجوازية” الجامعة واستغلالها المالي لطلبتها، قال جاربر إن “الحكومة الأمريكية قد لا تجني أرباحًا فورية من الأبحاث طويلة الأمد التي تجريها الجامعة، لكن نتائجها تعود في النهاية بالنفع على المواطن الأمريكي العادي”، وأوضح أن معظم التمويل الفيدرالي المقتطع كان مخصصًا لأبحاث طبية تتعلق بالسرطان، وأمراض الرئة، وغيرها من الأمراض المزمنة.
وأكد أن ما تعتبره إدارة ترامب خرقًا لحرية التعبير للمحافظين وذوي التوجهات اليمينية، هو توصيف غير دقيق، إذ ترى الجامعة في تنوع الأفكار والثروات الفكرية والأكاديمية التي تستقطبها من حول العالم، عنصرًا حيويًا لطالما شكّل نقطة قوة في الاقتصاد الأمريكي والبحث العلمي.
أما ما تصفه الإدارة بـ”التمييز ضد الرجال البيض” – سواء في هيئة تحرير المجلات المحكمة التابعة للجامعة، أو في طلبة البكالوريوس، أو في ملفات التوظيف – فتراه الجامعة تعبيرًا عن تنوع عرقي وجندري مشروع يستحق التقدير لا الإدانة.
لماذا هارفارد؟
في تحقيق أجرته صحيفة الغارديان حول دوافع إدارة ترامب لشنّ حملتها الشرسة على جامعة هارفارد، تتجه أصابع الاتهام إلى كل من وزير العدل فانس وكبير موظفي البيت الأبيض ستيفن ميلر، اللذين سبق لهما مهاجمة هارفارد بوصفها “معقلًا لليساريين والفلسفات الليبرالية”.
في عام 2022، صرّح فانس في مقابلة مع مجلة فانيتي فير بأن “مهمة المحافظين الآن هي تطهير معاقل اليساريين التقليدية وقلبها عليهم” – في إشارة مباشرة إلى جامعة هارفارد، أما ميلر، فقد صرّح لقناة فوكس نيوز أن هارفارد “تم استغلالها من قبل الديمقراطيين لخدمة الأغراب والانقلاب على الأمريكيين، في أنشطة تمييزية وغير قانونية لعقود”.
يرى جيسون جونسون، الأكاديمي والمحلل السياسي في جامعة مورغان بمدينة بالتيمور، أن مؤسسات التعليم العالي – وفي طليعتها هارفارد – تحمل لواء المقاومة في وجه أكثر الأجندات السلطوية تطرفًا وشراسة، ويشير إلى أن ليّ ذراع هارفارد بالذات يعني فتح الطريق لإخضاع باقي الجامعات، ما يسهّل عمل القوى الرجعية والسلطوية في البلاد.
ولا تخلو حملة ترامب من البعد الاقتصادي، كما هو متوقع من رجل أعمال يرى في كل شيء فرصة للربح؛ فجامعة هارفارد تمتلك واحدة من أقوى الميزانيات في العالم الأكاديمي، ويُقدَّر وقفها الجامعي بنحو 53 مليار دولار أمريكي، ما يجعلها أغنى جامعة أمريكية، وأقدرها على الصمود في وجه الابتزاز المالي الحكومي من جهة، كما يجعلها في نظر الإدارة مصدرًا محتملاً للأموال التي يمكن الاستفادة منها سياسيًا واقتصاديًا من جهة أخرى.
وفي حين رضخت جامعة كولومبيا سريعًا عند تجميد التمويل الفيدرالي البالغ 400 مليون دولار، اختارت هارفارد أن تتصدر “مسيرة العصيان”، على أمل أن تكون شجاعتها معدية، وتلهم غيرها من المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة لقول “لا” في وجه الهيمنة.
هارفارد ليست رمزًا للخير المطلق
الحرب الدائرة بين إدارة جامعة هارفارد والحكومة الفيدرالية لا تعني بحال من الأحوال أن الجامعة قد تبنّت موقفًا مناصرًا للقضية الفلسطينية، أو أنها تقف في وجه سياسات الإبادة الجماعية والدعم الأمريكي المطلق لـ”إسرائيل”؛ بل إن هذه النقطة بالذات مثّلت أحد أضعف حلقات رد فعل الجامعة على تهديدات إدارة ترامب، إذ سارعت إلى معاقبة الأجسام الطلابية المنخرطة في الحراك المؤيد لفلسطين، بمجرد تلويح البيت الأبيض بفرق التحقيق والعقوبات المحتملة.
وفي سابقة لافتة، قامت الجامعة قبل أسبوعين فقط من قرار ترامب بتجميد التمويل الفيدرالي بإحالة لجنة مناصرة فلسطين لطلبة البكالوريوس إلى التحقيق، مع حرمانها مؤقتًا من تنظيم أي نشاطات، كما فتحت الجامعة تحقيقًا مع عدد من الطلبة المشاركين في الاحتجاجات، وطردت موظفين شاركوا في فعاليات تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة في ربيع العام الماضي، معتبرةً أن هذه المشاركة تخالف “قواعد السلوك الجامعي”.
من جهة أخرى، سارعت إدارة الجامعة إلى تشكيل لجنة تحقيق داخلية لمكافحة معاداة السامية في الحرم الجامعي، خلصت إلى أن العديد من الأنشطة الاحتجاجية التي جرت في ربيع العام الماضي انطوت على ممارسات “معادية للسامية”، متبنية بذلك تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، الذي يُعد تعريفًا مثيرًا للجدل لخلطه بين الصهيونية واليهودية – في توافق واضح مع الموقف الرسمي الأمريكي.
وقد أدت مخرجات اللجنة إلى تبنّي سياسات جامعية مشدّدة تجاه الاحتجاجات، وفرضت سلسلة من الإجراءات العقابية بحق غير الملتزمين، إلى جانب استحداث برامج تهدف إلى “حماية” مؤيدي “إسرائيل” في الحرم الجامعي، مثل ورش العمل والتدريبات حول معاداة السامية، وتغييرات في بنية بعض البرامج التدريسية، لا سيما تلك المتعلقة بدراسات الشرق الأوسط، بما يُظهر ميلًا واضحًا لتبنّي السردية الإسرائيلية في المناهج الجامعية.
تعزز هذا المسار مع تسريبات كشفت عن مفاوضات سرّية جرت بين إدارات عدد من جامعات النخبة، ومنها هارفارد، وإدارة ترامب، هدفها الوصول إلى “أرض وسط” تُخفّف من حدة المواجهة، في مسعى من الجامعات إلى تفادي غضب الإدارة أكثر من مواجهتها وجهاً لوجه، باستثناء ما لا يمكن التغاضي عنه.
وقد بدت إشارات “حسن النية” من الجامعة جلية في قرار أثار استياء العديد من الطلبة، حيث امتنعت هذا العام عن تمويل حفلات التخرّج المخصصة للأقليات – وهي فعاليات كانت تُنظم سنويًا لمجتمعات مثل السود والآسيويين والمتحولين جنسيًا وغيرهم، في إطار رمزي يعكس سياسة التنوع الجامعي، وجاء هذا القرار في تناغمٍ – وإن غير مُعلن – مع رفض إدارة ترامب لمثل هذه “المعاملة التفضيلية” القائمة على العرق أو الميول الجنسية أو الانتماء القومي.
في ظل كل هذا، تظل النقطة الحرجة في الصراع قائمة: أكثر من ربع طلبة هارفارد هم من الأجانب ثروة فكرية وعقلية نادرة الوجود في أي مؤسسة أكاديمية أخرى في العالم، واليوم تدفع سياسات إدارة ترامب بهؤلاء الطلبة نحو الخروج القسري، ما قد يفتح الباب أمامهم، وفقًا لما ذكره مايكل ماكفول، السفير الأمريكي السابق في روسيا، للانخراط في جامعات دول منافسة مثل الصين وروسيا.
ورغم الضغوط، لا تبدو هارفارد مستعدة للاستسلام، فهي الآن في صدارة المواجهة، بينما تترقّب نحو 2400 جامعة أمريكية مصير المعركة بين واحدة من أعرق المؤسسات الأكاديمية في العالم، وإدارة لا تتورع عن استخدام كل أدوات السلطة.
الدعوى القضائية التي رفعتها هارفارد لوقف التدخلات الحكومية لا تخصّها وحدها، ولن تؤثر فقط على سنوات حكم ترامب الأربع، بل ستحدد على الأرجح مستقبل التعليم العالي في الولايات المتحدة: هل ستُخضع الجامعات لسياسات البيت الأبيض؟ وهل ستُستخدم المنح الفيدرالية، التي تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار سنويًا، كسلاح ابتزاز سياسي؟ الإجابة تنتظر كلمة القضاء.