في داخل شقتها بإحدى كومباوندات مدينة السادس من أكتوبر، وضعت “أسماء” على طاولة الطعام أصناف عدة من الحلوى الفلسطينية المعروفة، كالمعمول، وحلي سنونك، واليحميك، وسحلب كينور، بجانب القضاعة (الحمص المطحون والممزوج بالملح)، فيما كانت أصوات تكبيرات العيد تهز المكان عبر إحدى مكبرات الصوت الموضوعة في شرفة البيت.
وفي موازاة طاولة الطعام كانت صورة أخيها الشهيد “معتز” تزين مدخل الشقة، والذي ارتقى شهيدًا قبل نحو 7 أشهر تقريبًا جراء قصف همجي استهدف منزله في شمال غزة، صورة بالحجم الكبير، محاطة بشريط من الورد، وتتوسط صورة متوسطة الحجم للوالد عن اليمين وأخرى للوالدة عن اليسار.
وبترحاب اعتدنا عليه، ولهفة باتت طقسَا دوريًا، وكرم أسطوري، استقبلتنا أسماء وزوجها منير الذي يعمل منسقًا لتيسير إجراءات تعليم الفلسطينيين في مصر، وبدموع لا تعرف إذا ما كانت دموع فرحة العيد أم حنين لأخيها الشهيد أم دموع القلق على والديها المحاصرين في القطاع، خرجت الشابة الفلسطينية لترحب بنا ولسانها يردد باللهجة المصرية التي أتقنتها بعناية: عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير.
يأتي العيد هذا العام في وقت تشهد فيه غزة وجيرانها حرب إبادة نكراء، إجرام لم تعرفه البشرية منذ عقود طويلة، مأساة قدم فيها العالم على مدار أكثر من 600 يوم كل أنواع الخذلان والانبطاح، حيث أسراب النعوش التي تخرج يوميًا، حاملة معها خيرة شباب الأرض وبناتها، أطفالها وعجائزها، نسائها ورجالها، أسراب تسلب معها الأبصار وتُسمّر العقول وتخلع الأفئدة من صدورها.
في تلك الأجواء المزلزلة، يستقبل الفلسطينيون في مصر عيد الأضحى، وهو العيد الرابع الذي يحل عليهم منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، هذا العيد الذي كان قبل سنوات لوحة فنية مبهرة يرسم من خلالها الفلسطينيون طقوسهم وعاداتهم، ويقدمون أنفسهم كشعب ضارب بحضارته في جذور التاريخ، فماذا عن هذا العيد حيث الأهل والجيران محاصرون في شعب القطاع، حصار الحلفاء والخصوم، كل ينتظر موعد ارتقاءه بين الفينة والأخرى؟
لنفرح بالعيد.. هذه سنة الحياة
“أمي المحاصرة هي أول من حثتني على الفرح في العيد والاستمتاع بتلك الأيام المباركة، وعدم تحويل حياتي لجحيم فتلك سنة الحياة التي خلقها الله والتي يجب أن ننصاع لها جميعًا..” بهذه الكلمات استهلت الشابة الفلسطينية حديثها معنا، مؤكدة أن والدتها ووالدها وأخواتها المحاصرين في القطاع هم من طالبوا منا ذلك.
وأضافت في حديثها لـ “نون بوست” أن دموعها ما توقفت ساعة واحدة منذ مغادرتها غزة قبل نحو 14 شهرًا تقريبًا، وهو ما كان له أثره على صحتها حيث تعرضت لأكثر من وعكة كان لها تداعياتها السلبية عليها لاحقًا، إذ باتت من الصعوبة بمكان أن تتحرك بأريحية كما كان في السابق، هذا بخلاف الهزات النفسية التي تتعرض لها بين الحين والأخر، وتعليمات الطبيب المستمرة بأن تهدئ من روعها تجنبًا لإصابتها بأي عارض قد يهدد حياتها.
وأشارت أسماء إلى أنه وبناء على إلحاح وطلب أمها أعدت العدة للاستعداد لهذا العيد، حيث أحضرت معظم الأطعمة والحلويات الفلسطينية التي كانت حاضرة على مائدة عائلتها في بيتها في شمال القطاع قبل الحرب، وبدأت في دعوة جيرانها، فلسطينيين ومصريين وسوريين، ومنذ مساء يوم وقفة العيد وبدأت طقوس الاحتفال.
وفي صباح العيد يتوجه الجميع إلى مسجد الحصري بقلب مدينة السادس من أكتوبر، حيث أداء الجميع صلاة العيد وسط أجواء مبهرة واحتواء ودعم كبير من المصريين، ثم تكون الاتصالات مع الأهل في القطاع، وتبادل التبريكات والتهاني، وفي كثير من الأحيان تغطي أصوات الطائرات والمسيرات على صوت الأم والوالد بحسب ما قالته أسماء.
“هذه سنة الحياة ولابد أن تسري على الجميع”.. هكذا علق الزوج منير على أجواء الاحتفاء بالعيد، مضيفًا أنه منذ احتلال فلسطين قبل نحو أكثر من 70 عامًا والفلسطينيون يعلمون تمامًا أن المعركة طويلة الأمد، وأن الرحلة ممتدة، وأنه لابد من المقاومة بشتى السبل، فالمقاومة ليست سلاحًا وعمليات ضد العدو وفقط، بل هناك نوع أخر لا يقل أهمية – بحسب منير- مقاومة اليأس والعجز، التشبث بالحياة والتمسك بالأمل، وهذا ما يغيظ المحتل، إذ كيف لشعب يعاني كل تلك المآسي ويواجه كل هذه الصعاب والآلام، أن تكون لديه كل تلك الهمة وهذا الإقبال على الحياة.
“لو كنا من هذا النوع من الشعوب التي تفقد الأمل مع أول جولة هزيمة أو معاناة، لما كان على قيد الحياة اليوم فلسطيني واحد، ولكانت القضية انتهت منذ عقود، فما عانيناه وآباؤنا وأجدادنا لا يمكن أن يتحمله بشر إلا إذا كان مؤمن بالحياة كإيمانه بالموت، متشبث بها حتى أخر رمق، وهذا سر البقاء والخلود حتى تحرير الأرض إن شاء الله..” هكذا اختتم الشاب الفلسطيني حديثه بكل فخر وزهو وعزة وثبات.
قلوبنا في غزة
يحرص الفلسطينيون في مصر خلال فترة الأعياد –أيًا كانت الظروف- على إحياء طقوسهم وعاداتهم بشكل أو بأخر، منطلقين في هذا الأمر من عقيدة التمسك بالهوية وإعلاء السمت الفلسطيني في أي مكان، وهو ما يجعل لحضورهم بريقًا قلما يتوفر لغيرهم من الجاليات العربية والأجنبية الأخرى، يد تحتفل وأخرى تكتب نعيًا لارتقاء أحد أقاربها.
“معضلة صعبة أن يكون قلبك معلقًا بغزة وجسدك في مصر”.. هكذا يقول حسام، الشاب الفلسطيني الذي لم يكمل عامه الثلاثين، والذي غادر القطاع بعد 6 أشهر من الحرب تعرض خلالها لإصابة في إحدى قدميه، نُقل على إثرها للعلاج في مصر، لافتا أنه على قدر الاحتضان والحب الذي لمسه بين أشقائه المصريين إلا أن حنينه لحي الشيخ ناصر بخان يونس جنوب القطاع لم يفتر ساعة واحدة.
ويضيف حسام في حديثه لـ “نون بوست” أن الأعياد في مصر تختلف كثيرًا عنها في فلسطين، إلا أنه وعلى قدر المستطاع يحاول التمسك بالحد الأدنى من الطقوس الفلسطينية، مؤكدًا على حرصه الشديد على لقاء أكبر قدر من أبناء الجالية الفلسطينية في مصر وقضاء أوقات طويلة معًا، واستدعاء الذكريات الجميلة في ضواحي وأحياء عزة وبلداتها.
وتابع “ويواسي كل منا الأخر، فمصابنا واحد وكلنا في مركب واحدة، إذ لم يكن هناك بيت في غزة إلا وبه إما شهيد أو مصاب أو نازح أو مٌشرد أو معتقل في سجون الاحتلال”.
ويقول الشاب الفلسطيني إن عائلته بها ما لا يقل عن 9 شهداء منذ بداية الحرب وأنه غير راض عن وجوده في مصر بينما أهله هناك يواجهون الموت كل ساعة، إلا أنه لا يملك من الأمر شيئَا، حيث فكر أكثر من مرة في العودة رغم إصابته، لكن أهله في القطاع أقسموا عليه ألا يفعل، وأن يبقى في القاهرة حتى تضع الحرب أوزارها، لافتا أنه رغم هذا الوجع والألم إلا أنه متمسك بالحياة وحريص عليها هو وأبناء جيله بالكامل.. وتابع: “لو لم نفعل ذلك لمتنا قهرًا وكمدًا وهذا ما يريده المحتل ولن يناله بإذن الله”.
وخلال أيام العيد يحرص الفلسطينيون على زيارة الجرحى والمصابين الغزيين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات المصرية، حيث يقسمون أنفسهم إلى أفواج عدة، يحملون معهم الهدايا والأطعمة والحلويات الفلسطينية، ويسعون لإدخال البهجة عليهم، ودعمهم نفسيًا واجتماعيًا، وربما ماديًا، في ظل هذا الظرف الحرج الذي يواجهه الشعب الفلسطيني بشتى انتماءاته.
كانت التقديرات غير الرسمية قبل اندلاع حرب غزة الحالية في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تشير إلى وجود ما يقرب من 100 ألف فلسطيني في مصر، معظمهم دخل بهدف العلاج والدراسة، في ظل عدم وجود إحصائيات رسمية مصرية لأعداد الجالية الفلسطينية، إلا أنه ومنذ انطلاق الحرب استقبلت الأراضي المصرية ما بين 80 إلى 100 ألف فلسطيني، عبر معبر رفح البري، منهم 44065 جريحًا، من بينهم 10730 طفلًا، بحسب بيانات الحكومة المصرية، ليتجاوز العدد الحالي 200 ألف فلسطيني على أقل تقدير.