خطّ الشاب أحمد العقاد (19 عامًا) أولى رواياته تحت وطأة الحرب الإسرائيلية على غزة، بأنامله التي اعتادت مُعانقة القلم منذ صغره، داخل خيمة نزوحه في منطقة المواصي، غرب مدينة خانيونس.
لم تكن الكتابة لأحمد مجرد هواية، بل كانت مهربًا من ويلات الحرب، وأصوات القذائف، وصرخات الراحلين، والموت الذي يقتات على أرواح المدنيين كل ليلة، ليحصد في الصباح عشرات من الشهداء والجرحى، جلّهم من الأطفال والنساء.
بداية الحكاية
يقول أحمد لـ “نون بوست” إن السبب الأول الذي دفعه لكتابة الرواية هو استهداف الاحتلال الإسرائيلي حافلة نزوح عائلة أعز أصدقائه، الأخوين التوأم “محمد وحمدي”، اللذين كانا أقرب الناس إلى قلبه، شطري طفولته ورفيقي دربه.
ويسرد أحمد والحزن يُثقل روحه، كيف وجد في الكتابة ملاذًا من الخراب، وسلاحًا لمواجهة الفقد، ووسيلة لحفظ الذكرى من أن تبتلعها النيران، فوسط الخيام المهترئة، وبين ركام الذكريات، نسج أحمد حروفه في محاولة لصياغة حياة من الرماد، وأمل من تحت الركام.
يقول أحمد: “إن الحرب على غزة منعتني من كل شيء؛ من دراستي، من بيتي، وحتى من أصدقائي الذين كانوا أقرب إليّ من إخوتي، لكن هيهات لها أن تقف عائقًا في وجه قلمي الذي خطّ آلام ومعاناة شعبي”.
يُضيف أحمد: “كتبت روايتي “سيرة الدم فوق الحديد” ليس فقط لأنني أحب الكتابة، بل لأنني فقدت جزءًا من روحي: “محمد وحمدي”، أعز أصدقائي، وكانا توأمًا لا يُفترقان، نزحا مع عائلتهما من جنوب شرق مدينة خانيونس، بحثًا عن مكان آمن، فاستقلّوا حافلة تقلّ نازحين نحو ما قيل إنه “مناطق إنسانية” في المواصي غرب خانيونس، لكن الطائرات الحربية لم تترك لهم حتى فرصة النجاة، حيث قصفت الحافلة، ومسحت العائلة كلها من السجل المدني”.
وبتابع: “تلك اللحظة غيّرتني إلى الأبد. لم أعد قادرًا على الصمت، قررت أن أكتب، أن أوثق، أن أصرخ بقلمي، فكتبتُ روايتي الأولى وأسميتها “سيرة الدم فوق الحديد”. هو اسم اخترته بدقة، لأن الدم هو دم صديقيَّ روحي “محمد وحمدي”، ودم كل الأبرياء الذين رحلوا، والحديد هو رمز للسلاح والمقاومة”.
ويشير إلى أن “العقاد يتحدث على أن كل شخص يُقاوم بطريقته، وأنا بكتابتي وبقلمي سأوصل معاناة وقهر شعبي للعالم كله؛ كيف نموت؟ وكيف نُجّوع؟ وكيف تتساقط على رؤوسنا أطنان الصواريخ؟ وكيف تُمزق أجسادنا لأشلاء في ظل صمت عربي وإسلامي ودولي مُريب”.
كتابة في ظروف مستحيلة
لعل أبرز احتياجات الكُتّاب هي المساحة الآمنة، حيث لا خوف ولا استهدافات، ولا قلق من المصير، ولا أجواء القصف التي تخنق الأنفاس. أما أحمد، فكان يكتب بأدوات بسيطة وسط تحديات قاسية: جهاز يكتب عليه مع معاناة دائمة في شحنه بسبب انقطاع الكهرباء، ما يضطره إلى دفع أكثر من 150 دولارًا شهريًا لشحن اللابتوب والهاتف وشبك الإنترنت، في ظل أوضاع مادية صعبة تعاني منها عائلته وسكان غزة عمومًا.
يختصر أحمد بكلماته على غلاف الرواية واقع الحرب: “كنّا سلفًا لا نبيت إلا بعد إيصاد الأبواب بشكل تام خشية السرقة. صرنا نبيت في العراء، والباب مفتوح على مصراعيه. بتنا للسرقة أقرب، لكن لم يعد لدينا شيءٌ للسرقة. نفدت الحلوى، والنقود، والضحكات”.
تضرر الأرشيف المركزي في غزة، الذي يحتوي على مبانٍ ووثائق تاريخية يعود بعضها لأكثر من 150 عامًا، إضافة إلى الأرشيف المركزي للمدينة
نزوح، وجوع، وقهر، وموت، ومجازر، وأشلاء، وشلال دماء لم يتوقف. كل هذا دوّنه أحمد في سطور روايته التي استطاع نشرها في دار الرواية العربية للنشر والتوزيع في الأردن، كما نُشرت في مصر، والضفة الغربية، والداخل المحتل، ويجري حاليًا ترجمتها إلى الإندونيسية والإنجليزية، بعد تعاقده مع دور نشر في الدول الثلاث.
رغم شعوره بالحزن لعدم تمكنه من السفر والمشاركة في المعارض الدولية التي وصلت إليها روايته، إلا أن أحمد يشعر بالفخر لأنه تجاوز كل الصعوبات وأنجز روايته الأولى في ظل حرب أكلت الأخضر واليابس، ليبقى قلمه شاهدًا على أصوات أحبته حتى وإن غابوا بأجسادهم. يختم أحمد بالقول: “أنا أحمد، وهذه روايتي، وندائي، ودمعتي”.
التراث الثقافي في غزة
في ذات الوقت، يواجه التراث الثقافي والتاريخي في قطاع غزة خطرًا شديدًا نتيجة الحرب والتدمير والإبادة الثقافية الممنهجة، التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي في محاولة لمحو الهوية والتاريخ الفلسطيني، وتقليص قدرة الأجيال القادمة على الوصول إلى تاريخهم.
استهدف الاحتلال البنية التحتية الثقافية في قطاع غزة من مراكز ثقافية، ومتاحف، ومسارح، ومعارض، ومعالم تاريخية وأثرية، ومكتبات عامة وخاصة وجامعية، ومكتبات المدارس، والمساجد، والكنائس، ودور النشر، والمطابع، والوزارات.
طال الدمار أيضًا ثروة من الكتب النادرة، والمخطوطات، والوثائق التاريخية، والأرشيفات الخاصة والإدارية، والمواد السمعية والبصرية، ووسائل الحفظ اليدوي والإلكتروني، وسجلات الطابو، والسجلات المدنية، والمقتنيات، والقطع الأثرية التاريخية.
كما تضرر الأرشيف المركزي في غزة، الذي يحتوي على مبانٍ ووثائق تاريخية يعود بعضها لأكثر من 150 عامًا، إضافة إلى الأرشيف المركزي للمدينة، وخرائط، ودراسات هندسية، ودوائر التحكم والمراقبة لآبار المياه وشبكات الصرف الصحي.
تتواصل المطالبات بضرورة توفير الحماية للتراث الثقافي الفلسطيني في غزة، انطلاقًا من مبدأ أن هذه الممتلكات تمثل إرثًا للإنسانية جمعاء، وأن الاعتداء عليها يمثل اعتداءً على كل شعوب العالم، مع التأكيد على ضرورة الالتزام باتفاقية لاهاي لعام 1954، التي تمنع تدمير وإلحاق الضرر بالتراث الثقافي في النزاعات المسلحة.