ترجمة وتحرير نون بوست
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، دأب وزراء إسرائيليون وشخصيات سياسية وقادة عسكريون وإعلاميون على التحريض علنًا وبلا هوادة على تدمير غزة وإبادة سكانها. بحلول ديسمبر/ كانون الأول 2023، كانت جنوب أفريقيا قد جمعت سجلًا حافلًا بهذه التصريحات لتقديمها إلى محكمة العدل الدولية، متهمة إسرائيل بأنها تخطط لارتكاب إبادة جماعية في القطاع.
ومع تزايد التصريحات التحريضية، ورفض القيادة الإسرائيلية صياغة رؤية لما بعد الحرب تخالف هذه النتيجة المروعة، فقد خاطبت الرأي العام العالمي بعبارات تُسلّط الضوء على الأهداف العسكرية المتمثلة في هزيمة حماس وإنقاذ الأسرى الإسرائيليين، مما منح مؤيديها في الخارج غطاءً لتجاهل الخطاب الأكثر تطرفًا.
وفي الوقت نفسه، واصلت إسرائيل التسبب في مستويات من الموت والدمار والحرمان لا يمكن تبريرها بالضرورات العسكرية، حيث تحولت غزة المأهولة بالسكان منذ آلاف السنين، إلى أنقاض ورماد، وطُمست معالم الأحياء السكنية والمدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والشركات والمواقع الثقافية والتاريخية.
وبينما يصعب حصر الخسائر البشرية بدقة حتى الآن في ظل ظروف الحصار، إلا أنه يُفترض أن 54 ألف شخص على الأقل قد لقوا حتفهم – بينهم 18 ألف طفل – وأن مئات الآلاف قد أصيبوا، في ظل انعدام شبه كامل للرعاية الطبية. تظهر صور الأقمار الصناعية اليوم أرضا قاحلة تُذكرنا بتصريح نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي، نيسيم فاتوري، أن “الهدف المشترك الوحيد” للبلاد بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول هو “محو قطاع غزة من على وجه الأرض”.
رغم أن القادة الإسرائيليين لا يحتاجون إلى الاعتراف بارتكاب إبادة جماعية حتى يكونوا مذنبين، إلا أنهم توقفوا في الأشهر الأخيرة عن التظاهر بخلاف ذلك، وبالفعل طرأ تحول واضح في الرسائل الإسرائيلية منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني.

وبعد أن اقترح ترامب في فبراير/ شباط أن تسيطر الولايات المتحدة على غزة وتعيد تطويرها لتصبح “ريفييرا” خالية من الفلسطينيين، تبنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الفكرة، واستخدمها كغطاء سياسي لإعلان غزة غير صالحة للسكن والدعوة إلى تهجير سكانها الباقين على قيد الحياة خارج القطاع بشكل دائم بموجب “خطة ترامب“.
وفي شهر مارس/ آذار، استأنفت إسرائيل قصفها الجوي العنيف وخرقت وقف إطلاق النار الذي دام شهرين، وقتلت وشوهت الآلاف، وفرضت حصارًا شاملًا على الغذاء والمياه النظيفة، مما أدى إلى خلق ظروف مجاعة في جميع أنحاء غزة. ثم كشفت الحكومة الأمنية الإسرائيلية في أوائل شهر مايو/ أيار عن خطة لحشد عشرات الآلاف من الجنود الإضافيين لـ”اجتياح” غزة والاستيلاء على القطاع وطرد سكانه.
ووصف نتنياهو العملية بأنها “خطوات إسرائيل الختامية” التي تهدف إلى ضمان أن “يختار سكان غزة الهجرة إلى خارج القطاع”. وأعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أوائل مايو/ أيار أنه في غضون ستة أشهر، ستختفي غزة من الوجود. وأضاف أن السكان الباقين على قيد الحياة سيتم تجميعهم في “منطقة إنسانية” واحدة، وبعد أن ينهاروا بسبب اليأس سيغادرون “مدركين أنه لا أمل ولا شيء يمكن البحث عنه في غزة”.
نوايا واضحة
لم يعد من الممكن اعتبار مثل هذه التصريحات مجرد انفعالات عاطفية وخطابات انتقامية لمجتمع مكلوم. بعد تسعة عشر شهرًا من الحملة الإسرائيلية لإبادة غزة، بات واضحًا للجميع أنها تعكس منطقًا استراتيجيًا ورؤية بعيدة المدى.
وصف جوزيب بوريل، الممثل الأعلى السابق للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، هذه التصريحات بأنها “إعلانات واضحة عن نية الإبادة الجماعية”، مشيرًا إلى أنه “نادرًا ما سمعت زعيم دولة يُحدد بوضوح خطة تتوافق مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية”.
ووفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، يشمل هذا التعريف الأفعال المرتكبة “بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”، مثل قتل أفراد من المجموعة أو فرض شروط تهدف إلى تدميرهم جسديًا. وعندما يتحدث المسؤولون الإسرائيليون صراحةً عن جعل غزة غير صالحة للعيش بشكل دائم بهدف التسبب في نزوح جماعي، فإنهم يصفون هذا السيناريو على وجه التحديد.
إذًا، ما هي عواقب هذا الاعتراف؟ بموجب القانون الدولي، يُعدّ حظر الإبادة الجماعية قاعدة حاكمة ملزمة لجميع الدول دون استثناء، وهناك التزامٌ عالميٌّ بمنع الإبادة الجماعية وضمان المساءلة. في يناير/ كانون الثاني 2024، وجدت محكمة العدل الدولية أن إسرائيل تخاطر بارتكاب إبادة جماعية، ويجب عليها اتخاذ تدابير مؤقتة لتجنب ارتكاب هذه الجريمة، وقد استهزأت إسرائيل بهذا الأمر من خلال إجراءاتها اللاحقة.
في يوليو/ تموز 2024، قضت محكمة العدل الدولية في قضية منفصلة بأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية غير قانوني ويجب إنهاؤه. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمٍ تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
مع ذلك، كانت استجابة المجتمع الدولي متواضعة. بينما اتخذت بعض الدول مثل كولومبيا وجنوب أفريقيا خطوات لقطع العلاقات وتحميل إسرائيل المسؤولية، اكتفت معظم الدول – بما في ذلك الدول العربية التي تربطها علاقات رسمية مع إسرائيل – بالقليل من الإدانات التي لا معنى لها. ورغم مذكرات المحكمة الجنائية الدولية، سافر نتنياهو ومسؤولون إسرائيليون آخرون بحرية إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، وقد ترددت بعض الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك بلجيكا، في تأكيد التزامها بتنفيذ مذكرات الاعتقال.
ويرجع هذا العجز في جزء كبير منه إلى الضعف الهيكلي للمحاكم الدولية، التي تعتمد على الدول الأعضاء في إنفاذ أوامرها. وطالما استمرت واشنطن في تقديم دعمها غير المشروط لإسرائيل، فإن المساءلة ستظل رهينة السياسة الواقعية، مما يدفع النظام القانوني الدولي إلى حافة الانهيار.
قليلة هي الدول التي تريد المخاطرة بأن تصبح هدفًا لانتقام واشنطن، وقد كان المسؤولون الحكوميون الأمريكيون واضحين بشأن الطريقة التي سيردون بها على المحاكم والدول التي تنفذ أوامر اعتقال المسؤولين الإسرائيليين، مهددين: “استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم”.
في فبراير/ شباط، فرض ترامب عقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، مما أدى إلى تجميد
الحسابات المصرفية وحسابات البريد الإلكتروني للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان.
لا مجال لإخفاء الإبادة الجماعية
قد تُبقي هذه الأساليب القمعية إسرائيل بمنأى عن العقاب على المدى القصير، لكنها لا تستطيع إنقاذها من التبعات الوخيمة على سمعتها والعواقب طويلة المدى.
في عصر التوثيق بالهواتف الذكية وسهولة الوصول الفوري للمعلومة، سُجِّلت ممارسات إسرائيل في غزة رقميًا ونُشِرَت وحُفِرَت في الوعي العالمي. وعلى حد تعبير المؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم: “لقد جعلت إسرائيل نفسها منبوذة دوليًا بيدها”.
لا يمكن لأي حملة علاقات عامة أن تمحو الخسائر البشرية وجبل الأدلة المرئية الموثقة. أصبح اسم إسرائيل الآن مرادفًا لإبادة غزة.
يتضح التأثير المباشر من استطلاعات الرأي العام العالمية. وفقًا لمؤشر إدراك الديمقراطية لعام 2025، تُصنّف إسرائيل الآن كأكثر دولة يُنظر إليها بشكل سلبي عالميا. حتى في الولايات المتحدة، تتغير المشاعر بسرعة، فقد أظهر استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في مارس/ آذار، أن 53 بالمئة من الأمريكيين لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، بما في ذلك 69 بالمئة من الديمقراطيين ونصف الجمهوريين دون سن الخمسين. يمثل ذلك زيادة حادة مقارنة بالسنوات الأخيرة، وهي زيادة تتجاوز حدود السن والانتماء الحزبي.
أدى هذا الاستياء المتزايد إلى زيادة حادة في الرقابة وقمع المعارضة، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وأصبحت الفجوة بين سياسات النخبة ومشاعر الجمهور واسعة جدًا لدرجة أن إدارتها تتطلب الآن تدابير استثنائية.
إن اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة ليس عسكريًا أو ماليًا فحسب، بل هو اعتماد دبلوماسي ووجودي، ومن شأن التآكل المستمر للدعم الشعبي في الغرب أن يُعرّض المظلة التي تحمي إسرائيل داخل النظام الدولي للخطر.
تتعمق أيضًا الانقسامات داخل المجتمع اليهودي الأمريكي، حيث يتزايد عدد من يشعرون بعدم الارتياح تجاه ادعاء إسرائيل بأنها تتحدث وتتصرف نيابةً عن اليهود حول العالم، وخاصةً في سياق الحرب على غزة.
بدأ التذرع بمعاداة السامية لإسكات الانتقادات الموجهة للسياسة الإسرائيلية يفقد فعاليته، مما قد يُشكل خسارةً في مجال مكافحة معاداة السامية الحقيقية. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن البعض يخشى أن يُعيد حجم الدمار في غزة تشكيل التصورات العامة عن معاناة اليهود تاريخيا، بما في ذلك إرث المحرقة.
ومع عرقلة النفوذ الأمريكي للإجراءات القانونية الدولية، بدأ المجتمع المدني، من تشيلي إلى تايلاند، بتفعيل آليات محلية لمساءلة المسؤولين الإسرائيليين الذين يدخلون ولاياتهم القضائية. وقد تؤثر وصمة العار على سمعة الإسرائيليين سلبًا في تفاعلاتهم اليومية، بدءًا من النشاط التجاري وصولًا إلى التبادلات الطلابية والثقافية والسياحية.
وبينما تستمر حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، تظهر بوادر انقسامات حتى مع أقرب حلفائها من غير الولايات المتحدة. في 20 مايو/ أيار، حذرت المملكة المتحدة وفرنسا وكندا من أنها ستفرض عقوبات إذا استمرت إسرائيل في منع المساعدات الإنسانية وتصعيد عملياتها العسكرية في غزة، وأصدرت ألمانيا وإيطاليا بيانات استياء، وبدأت بعض الشخصيات في أروقة السلطة الدولية ووسائل الإعلام بالتراجع عن مواقفها.
ومع ذلك، فإن وقف المذبحة وتفكيك إفلات إسرائيل من العقاب لن يكونا سريعين ولا يسيرين، فقد أبدى المدافعون عن إسرائيل في الغرب إصرارًا غير عادي على حمايتها من العواقب، مقوضين بذلك القانون الدولي والمؤسسات والحرية الأكاديمية، وحتى معاييرهم الديمقراطية الخاصة. وبشكل متزايد، لجأت الحركات اليمينية المتطرفة، وكذلك إدارة ترامب، إلى استغلال دعم إسرائيل وذريعة معاداة السامية كأدوات لتنفيذ أجنداتها غير الليبرالية.
ولكن من خلال الاعتراف بنواياها، أجبرت إسرائيل العالم على مواجهة حالة أخلاقية وقانونية طارئة لم يعد من الممكن حجبها بالتعبيرات الملطفة أو التهرب الدبلوماسي.
لم تكشف حملة الإبادة الجماعية في غزة عن وحشية العقيدة العسكرية الإسرائيلية فحسب، بل كشفت أيضًا هشاشة النظام القانوني الدولي الذي تأسس إلى حد كبير في أعقاب المحرقة، والذي كان من المفترض أن يمنع مثل هذه الفظائع.
وسواء ارتقت المؤسسات العالمية لمستوى إيقاف المذبحة أم لا، فإن ذكرى هذه الجريمة، وتواطؤ من سمحوا بارتكابها، ستبقى راسخة في الذاكرة، وهذا يجعل الهروب من المساءلة أكثر صعوبة بالنسبة لإسرائيل على المدى الطويل.
المصدر: +972