ترجمة وتحرير نون بوست
عندما ركب توفيق أحمد الطائرة من نيودلهي إلى كندا مطلع 2020، لم يكن يسعى إلى ترقية مهنية أو شهادة جامعية أو وعد براتب أفضل.
كان يحاول أن يترك خلفه شعورًا ثقيلًا بعدم الأمان ظل يتراكم بصمت على مدى سنوات، وخوفًا بات من المستحيل تجاهله في نهاية المطاف.
يقول أحمد: “كنت أعيش بالقرب من الجامعة الملية الإسلامية”، في إشارة إلى الجامعة الشهيرة في نيودلهي التي كان يدرس فيها.
وأضاف: “خلال احتجاجات ضد قانون تعديل الجنسية، شاهدت الشرطة وهي تعتدي على طلاب عزّل، وتجرّهم وتطلق الغاز المسيل للدموع داخل المكتبات. كنت قد شاهدت ذلك النوع من العنف الذي تمارسه الدولة في مصر أو هونغ كونغ، لكنه حينها كان يحدث أمام باب منزلي مباشرة”.
تم تمرير قانون تعديل الجنسية سنة 2019 من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند، مما أثار احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد. ويُسرّع القانون منح الجنسية الهندية للاجئين غير المسلمين من الدول المجاورة، ما قوبل بانتقادات بسبب ترسيخه التمييز الديني بشكل مؤسسي.
وتحولت الاحتجاجات في الجامعة إلى أعمال عنف عندما اقتحمت الشرطة الحرم الجامعي. بالنسبة لأحمد، أنهت تلك اللحظة أي وهم كان لديه بشأن الشعور بالأمان.
وقال: “لك الليلة غيرت شيئًا بداخلي. لم يعد الأمر مجرد سياسة فحسب، بل أصبح شخصيًا. كان الخوف حاضرًا بشكل فوري وملموس”.
وضع هش
في الأسابيع التالية، تحوّل ثقل ذلك الخوف إلى إحباط عميق. فما كان أحمد قد اعتبره في السابق حوادث فردية، مثل عمليات الإعدام الجماعي في مدن بعيدة، والتصريحات التمييزية في أماكن العمل، والخطابات التحريضية من قبل السياسيين، أصبح يبدو سياسة ممنهجة بشكل لا يمكن إنكاره.
إن إدراكه أن المؤسسات التي من المفترض أنها تحمي الناس، كانت متواطئة، أو الأسوأ من ذلك غير مبالية، جعله يشك في مفهوم الانتماء ذاته.
وقال أحمد لموقع “ميدل إيست آي”: “كنت محبطًا تمامًا من فكرة الانتماء للبلد. إنه يعاني من مشاكل جمة في مجالات كثيرة، مثل عدم المساواة والبيئة والنظام الطبقي والتخطيط الحضري. يمكنني الاستمرار في سرد الأمثلة، لكن بصفتي مسلما؛ فإن الكراهية التي يكنها غالبية السكان للمسلمين لا يمكن تصورها. مستويات الإسلاموفوبيا مرتفعة للغاية”.
اليوم، يعيش أحمد وزوجته في تورونتو، حيث يقول إن دينه يحظى بالاحترام، ولا يخضع للتدقيق.
وأضاف: “توجد غرف للصلاة في المباني العامة، وتسهيلات خلال الامتحانات في رمضان. هذا شيء لا يُتصوّر وجوده في الهند. وقد جعلني هذا التباين أدرك مدى عمق انتشار الإسلاموفوبيا في بلدي”.
تُعد قصة أحمد جزءًا من اتجاه واسع وصامت: تزايد أعداد المسلمين الهنود الذين يغادرون البلاد.
في حين تحظى الهجرة لأسباب اقتصادية، وهجرة الكوادر التقنية باهتمام واسع، لا يُناقش النزوح المدفوع بالاستقطاب الديني إلا نادرًا.
وقال كريم صادق، وهو رجل أعمال مقيم في لكناو، عاصمة أكثر الولايات الهندية اكتظاظًا بالسكان: “أنا أبيع ممتلكاتي هنا وسأنتقل إلى دبي. على الأقل سأجد بعض السلام”، مضيفًا أن الشرطة تلاحقه منذ أن تطوع هو وعائلته للمشاركة في أحد الاحتجاجات المناهضة للحكومة.
وخوفًا من الانتقام، رفض الكشف عن مزيد من التفاصيل. وأضاف: “سآخذ عائلتي معي قريبًا بعد أن تستقر الأمور هناك (في دبي)”.
ووفقًا لتحليل مركز بيو للأبحاث، تعد الهند ثاني أكبر مصدر للمهاجرين المسلمين على مستوى العالم، بعد سوريا.
يعيش حوالي ستة ملايين مسلم من مواليد الهند في الخارج. ورغم أن المسلمين يمثلون حوالي 15 بالمائة من سكان الهند، إلا أنهم يشكلون نحو ثلث أعداد المهاجرين الهنود، مما يشير إلى معدل هجرة يفوق بكثير المجموعات الدينية الأخرى.
وقال الدكتور نظام الدين أحمد صديقي، الأكاديمي القانوني والمؤسس المشارك لمشروع مشكاة الذي يعزز الخطاب العام الإسلامي: “الأمر ليس اقتصاديًا فحسب، بل اجتماعي وسياسي ونفسي أيضًا. يشعر المسلمون الهنود بشكل متزايد كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم”.
تصاعد العداء
يشهد المناخ السياسي في الهند تحت حكم حزب بهاراتيا جاناتا برئاسة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي يتولى السلطة منذ سنة 2014، تصاعدًا في النزعة القومية الهندوسية. وتزايدت حوادث العنف الطائفي والقوانين التمييزية وخطابات الكراهية التي تستهدف المسلمين بشكل متكرر.
واجه المسلمون في الهند خلال هذه الفترة مجموعة من التحديات، منها عمليات الإعدام الجماعي بسبب مزاعم ذبح الأبقار، وحملات ضد الزيجات بين الأديان التي غالبًا ما تُوصف بـ”جهاد الحب“، والمقاطعات الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تزايد العوائق أمام التوظيف والسكن.
وقد أسهمت خطابات الكراهية الصادرة عن المسؤولين السياسيين وانتشار الخطاب المعادي للإسلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج العداء بشكل أكبر.
وفي عدة مناسبات، استُهدفت أماكن العبادة الإسلامية، وازداد الضغط على الهوية والممارسات الإسلامية في الحياة العامة.
وأوصت اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الدولية في تقريرها الصادر في 2025، بأن تصنّف الحكومة الأمريكية الهند كـ”دولة تثير قلقًا خاصًا”، مشيرةً إلى الانتهاكات الممنهجة الجسيمة للحريات الدينية.
بالنسبة للمسلمين في الهند، أصبحت الحياة اليومية مليئة بالمخاطر والتوترات. ويقول أحمد إنه بعد كل حادثة عنف كبيرة ضد المسلمين في البلاد، يبدأ أصدقاؤه بالاتصال به، ويسألونه عن كيفية الانتقال إلى كندا.
ويضيف: “كلما حدث شيء مروع، مثل إعدام جماعي أو جريمة كراهية، أتلقى مكالمات هاتفية. لكن الكثيرين يضطرون للتخلي عن الفكرة لأن الهجرة مكلفة وصعبة. لا يستطيع الجميع تحمل تكاليفها”.
لكن بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفها، فإن القرار يزداد وضوحًا.
ويقول كمران أحمد، الباحث المقيم في نيودلهي، إنه يستخدم معظم مدخراته ومدخرات والديه للهجرة خارج البلاد، ويصف القرار بأنه “مؤلم ولكنه ضروري”.
ويضيف: “بصفتي باحثًا مسلمًا، لم أعد أشعر بالأمان حتى في التعبير عن آرائي. لقد تعرضت لتهديدات مبطنة واستبعاد مهني ورقابة مستمرة. أريد أن أعمل في مكان أستطيع أن أتنفس فيه بحرية، حيث لا يُختزل وجودي في ديانتي فقط”.
قصته ليست فريدة من نوعها. وفقًا لدراسة أجراها مركز دراسة المجتمعات النامية في الهند، بالتعاون مع المؤسسة الفكرية الألمانية “كونراد أديناور شتيفتونغ”، أبلغ 44 بالمائة من الشباب المسلمين في البلاد عن تعرضهم للتمييز بسبب ديانتهم.
وكشفت دراسة أخرى أن 47 بالمائة من المسلمين يخشون التعرض لاتهامات كاذبة بالإرهاب.
يقول كمران: “التطبيع مع الكراهية وصمت المؤسسات يجعل العيش بكرامة أمرا مستحيلا”.
تاريخ الهجرة
للتوضيح، الهجرة لأسباب اقتصادية ليست جديدة بين المسلمين الهنود. الجاليات في ولايات كيرالا وأوتار براديش وتيلانجانا لديها تاريخ طويل من الهجرة إلى دول الخليج.
مع ذلك، يشير الخبراء إلى أن ما تغير هو طبيعة ونوايا هذه الموجة الجديدة من الهجرة.
يقول صديقي: “في الماضي، كانت الهجرة مؤقتة. وكان الناس يذهبون إلى الخليج للعمل ثم يعودون. أما الآن، فهم يذهبون للاستقرار. ويريدون لأطفالهم أن يكبروا في مجتمعات أكثر أمانًا وعدالة”.
ويذكر صديقي أمثلة يومية على التمييز، مثل رفض تأجير السكن، أو التعرض للشكوك بسبب ارتداء الحجاب أو إطلاق اللحية، أو التردد في الصلاة في الأماكن العامة. ويضيف: “قد تبدو هذه الأمور بسيطة، لكنها مجتمعةً تفتت إحساسك بالانتماء”.
المؤسسات والهوية تحت الحصار
يرتبط شعور الاغتراب أيضًا بنقاط التوتر الرئيسية في المشهد الطائفي في الهند.
كان هدم مسجد بابري سنة 1992، وهو مسجد يعود للقرن السادس عشر، وكانت مجموعات هندوسية تطالب بإزالته، لحظة فارقة في تاريخ الهند. تركت تداعيات هذا الحادث ندوبًا عميقة استمرت لعقود. أدى حكم المحكمة العليا في 2019 بمنح الموقع للهندوس إلى تعميق الإحباط، حتى بين أولئك الذين تسامحوا مع هدم المسجد.
وفي الآونة الأخيرة، استمرت النزاعات حول أماكن العبادة، مثل مسجد جيانفابي في فاراناسي، ومسجد شاهي عيدغاه في ماتورا، وبقيت التوترات الطائفية مشتعلة. يقول صديقي: “كل أسبوع تقريبًا، يظهر جدل جديد يستهدف تاريخ المسلمين أو ثقافتهم أو وجودهم”.
وتطرق صديقي إلى القوانين الجديدة التي تنظم ممتلكات الأوقاف، والضغط من أجل وضع قانون مدني موحد، كأمثلة على الجهود التشريعية التي تهدف حسب قوله إلى إضعاف المؤسسات المركزية للمجتمع المسلم.
وقال: “من الصعب الكفاح على كل الجبهات. ففي اللحظة التي تختفي فيها قضية ما، تحل محلها قضية أخرى”.
وفقًا لوزارة الشؤون الخارجية الهندية، تخلى أكثر من 225 ألف هندي عن جنسيتهم في 2022، وهو أعلى رقم في التاريخ الحديث. وفي حين أن الحكومة لا تقدم تفاصيل دينية في هذا السياق، تشير الأدلة إلى أن يشكلون نسبة كبيرة من المهاجرين بشكل لا يتماشى مع نسبتهم من السكان.
وقال خواجة محمد، مالك وكالة ياسين للسفر والتأشيرات في ولاية تيلانجانا، والتي لا تتجاوز نسبة المسلمين فيها 13 بالمائة: “حوالي 30 بالمائة من الحالات التي تصل إلينا هم من المسلمين”.
وأضاف: “يقوم الناس أيضًا باستثمارات كبيرة في دول الشرق الأوسط مثل الإمارات وتركيا، وهو ما لم يكن يحدث في السابق. هذا يعني أنهم ينوون الإقامة طويلة الأمد أو الاستقرار في هذه البلدان”.
مع ذلك، يحذر أبورفاناند جاه، الأستاذ في جامعة دلهي، من اعتبار هذه الهجرة الجماعية ذات طابع ديني بحت. ويقول: “الذين يغادرون هم من أصحاب الموارد. المسلمون جزء من هذه الفئة، وكذلك كثيرون غيرهم”.
لكنه يشير إلى أن الإحباط في تزايد، خصوصًا بين الشباب الهنود الذين لا يرون مستقبلاً اقتصاديًا أو اجتماعيًا لهم في البلاد.
ويضيف: “هذه هي المرة الأولى منذ الاستقلال، التي يشعر فيها شباب الهند باليأس التام. الاقتصاد في حالة ركود، والكراهية تملأ الأجواء. من سيرغب في البقاء في مثل هذا المكان؟”
هل يمكن رأب الصدع؟
رغم الهجرة والاغتراب، يقول العديد من المغادرين إنهم سيعودون إذا تغير المناخ.
يأمل أحمد أن يعود يومًا ما إلى الهند لرعاية والديه المسنين، ويقول: “أريد العودة إلى الهند لأن والديّ هناك، وسوف يحتاجان إلى الرعاية والدعم مع تقدمهما في السن. وحتى لو لم يكونا بحاجة إلى رعاية ودعم، فأنا أريد قضاء المزيد من الوقت معهما”.
إذا قرر العودة، يقول أحمد إنه من المرجح أن يستقر في مدينة يعتبرها أكثر أمانًا، مثل حيدر أباد أو شانديغار، موضحًا أن البقاء في مسقط رأسه في ولاية أوتار براديش، وهي ولاية يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا، يعني العيش “في حالة من الخضوع التام”.
ويضيف: “العيش هناك يعني مجرد تحمل الكثير من الممارسات العدوانية اليومية التي تزداد ضراوة تدريجيًا، والتي سوف تمارسها عليك الأغلبية”.
ويعتقد صديقي أن المصالحة ممكنة، ولكن فقط من خلال الإصلاح المؤسسي والمحاسبة المجتمعية. ويقول: “هذا ليس شيئًا يمكن للمسلمين وحدهم إصلاحه. يقع العبء على عاتق الأغلبية والقضاء والمؤسسات الديمقراطية لتكثيف الجهود”.
ويستند في حديثه إلى كلمات بي آر أمبيدكار، أحد واضعي دستور الهند، والذي يرى أن الأغلبية يجب أن تكسب ثقة الأقليات. ويضيف صديقي: “لقد تحطمت تلك الثقة. والآن يجب إعادة بنائها، إن لم يكن من أجل المسلمين، فعلى الأقل من أجل الهند نفسها”.
ومع استمرار الهند في ترويج صورتها كقوة اقتصادية عالمية، فإن هجرة بعضٍ من ألمع مواطنيها وأكثرهم هشاشة تروي قصةً مختلفة.
يقول كمران: “ما يحدث قد لا يكون صاخبًا. لا توجد احتجاجات جماهيرية، ولا قوافل لاجئين. لكنه أمر حقيقي. إنها هجرة هادئة ومتزايدة تكشف الكثير عن مستقبل المسلمين في الهند، وعن حالة الديمقراطية الهندية”.
المصدر: ميدل إيست آي