برزت إلى الواجهة، بدعاية مكثفة، التحركات العصابية التي توسّعت في مناطق شرقي رفح، فيما بات يُعرف بظاهرة “ياسر أبو شباب”، أو ما يُطلق عليه الأخير وجماعته في أحدث نُسخهم “القوات الشعبية”. هذه الجماعة التي باتت، في ليلةٍ وضُحاها، تُقدّم نفسها بوصفها “عنوان الحماية” لقوافل المساعدات، بعد أن كانت – وعلى مدار شهور – مسؤولةً مباشرة عن السطو عليها وسرقتها.
تزامنت حملة تلميع هذه العصابة، التي تُراكِم نفوذها تحت حماية الطائرات الإسرائيلية، مع إطلاق الآلية الإسرائيلية-الأمريكية لتوزيع المساعدات؛ وهي آلية تحمل أبعادًا أمنية تفوق بكثير أي بُعد إنساني مُعلَن، إذ تقوم في جوهرها على سياسة الابتزاز الإنساني، وهندسة قطاع غزة اجتماعيًّا واقتصاديًّا من بوابة السيطرة على المساعدات وطرق توزيعها.
وعلى مدار الشهور الماضية، لم تتوقف سلطات الاحتلال وأجهزته الاستخباراتية – التي اعترفت رسميًّا بدورها المباشر في تسليح أبو شباب – عن محاولات تفكيك البنية الوطنية في القطاع، عبر أدوات أمنية وهجوم ناعم على البنية المجتمعية. ويأتي ذلك بعد قناعة إسرائيلية راسخة بأن آلة القتل وحدها، على الرغم من شراستها، لن تنجح في دفع قطاع غزة، الذي يئن تحت حرب إبادة مستمرة منذ عشرين شهرًا، إلى الانهيار المجتمعي والمؤسساتي المطلوب إسرائيليًّا.
الاعتراف بالمعروف
فتح إعلان وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، أفيغدور ليبرمان، قيام “إسرائيل” بتسليح عصابات في قطاع غزة بأمر من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الجدلَ مجددًا حول هوية هذه المجموعات، خصوصًا في ظل تصاعد التقارير العبرية حول العصابات الإجرامية المسلحة التي تنشط تحت حماية الجيش الإسرائيلي، وتهاجم الفلسطينيين.
في مقابلة مع هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، قال ليبرمان إن: “إسرائيل نقلت بنادق هجومية وأسلحة خفيفة إلى ميليشيات إجرامية في غزة”، مؤكدًا أن هذه الخطوة تمت “بأوامر مباشرة من نتنياهو”، وأضاف أن العملية لم تُعرَض على المجلس الوزاري المصغّر، لكن رئيس جهاز “الشاباك” كان على علم بها، بينما أبدى شكوكه بشأن معرفة رئيس الأركان إيال زامير بالأمر، قائلًا: “نحن نتحدث عما يُعادل تنظيم “داعش” في غزة”.
ردَّ نتنياهو على هذه التصريحات عبر مقطع فيديو استعراضي نشره على منصة “إكس”، قال فيه: “ما الذي سرَّبه ليبرمان؟ أن مصادر أمنية فعَّلت مجموعة تعارض “حماس”؟ ما السيء في ذلك؟ إنها خطوة قد تنقذ حياة جنودنا”.
يمثِّل هذا الرد أول اعتراف رسمي من نتنياهو بأن “إسرائيل” تجاوزت حدود التنسيق الأمني مع جماعات محلية، وانخرطت انخراطًا مباشرًا في تسليحها، في محاولة لبناء “قوة أمنية بديلة” على الأرض، تكرر ما جرى في تجارب مشابهة في العراق ولبنان.
هل سينجح الاحتلال في تحويل #غزة إلى ميليشيات تُغذّيها الإمارات وتُباركها السلطة؟ وما دور ياسر أبو شباب في هذا المشروع؟ pic.twitter.com/wbPr4mvBV2
— نون بوست (@NoonPost) June 9, 2025
صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية نقلت عن مسؤولين –لم تُسمِّهم– أن لدى ميليشيا “أبو شباب” سجل من الهجمات ضد “إسرائيل”، وعلاقات مع تنظيم الدولة الإسلامية، وتاريخ طويل من الإجرام والتهريب.
من جهته، عدَّ المحلل السياسي آفي إشكنازي أن تسليح نتنياهو لجماعات إجرامية في غزة يُعد تخليًا عن فكرة “بناء بديل حقيقي لحماس”، ورأى في ذلك “مقامرة خطيرة قد تنقلب على الجيش الإسرائيلي نفسه”.
ووفقًا لتقرير “يديعوت أحرونوت”، فإن الشاباك دبر مؤخرًا خطة سرية لتسليح ميليشيا محلية في رفح، بدعوى تحدي سيطرة “حماس” في الجنوب، وجرت الموافقة عليها مباشرة من نتنياهو، ونُقلت عشرات بل مئات البنادق والمسدسات من “إسرائيل” إلى هذه الجماعة، التي تحافظ على علاقات اقتصادية وثيقة مع “داعش سيناء”، على الرغم من أنها ليست جزءًا رسميًّا منه.
وعلى الرغم من أن هذا الاعتراف الرسمي أثار جدلًا في الإعلام والسياسة الإسرائيلية، فإنه لم يكن مفاجئًا لأهالي القطاع، وخاصةً سكان رفح، الذين يعرفون هذه العصابة جيدًا، ويعرفون مواقعها وتحركاتها، ويعلمون أنها ما كانت لتستمر أو تتجرأ لولا الحماية المباشرة من الاحتلال.
وقد تدخلت الطائرات الإسرائيلية مرارًا لاستهداف القوى الأمنية الفلسطينية، كلما حاولت التدخل لوضع حدٍّ لهذه العصابة واعتداءاتها على قوافل المساعدات، ما شكَّل غطاءً عسكريًّا مباشرًا لهيمنة المليشيا على بعض مناطق الجنوب.
خلفيات جنائية وداعشية وارتباطات إقليمية
هدف تركيز الأضواء على عصابة “أبو شباب” إلى تعزيز نماذج بديلة كما روَّج إعلام الاحتلال، وجاء في سياق ممارسةِ الضغط النفسي والسياسي على المجتمع في قطاع غزة، وضخِّ دعايات تهدف إلى إعادة تقديم “اللص والبلطجي” في صورة الزعيم والمنقذ، القادر على تشكيل “مشروع اختراقي” داخلي، لكن هذا التركيز أتى بنتائج عكسية على صُنَّاع المشروع، إذ دفع إلى فتح ملفات رموز التشكيل، وكشف الخلفيات الإجرامية والإرهابية لأفراده.
ياسر أبو شباب، قائد التشكيل، من أبناء مدينة رفح، وينتمي إلى قبيلة الترابين، وهي قبيلة عريقة تمتد بين غزة والنقب وسيناء، وعلى الرغم من محاولاته الاحتماء بالهوية القبلية، فقد أعلن وجهاء قبيلته مرارًا براءتهم منه، مؤكدين أن “الترابين قدمت الشهداء في صفوف المقاومة ولا يمكن أن تغطي من يعتدي على الناس أو يتعاون مع الاحتلال”.
“أبو شباب” معروف بعدائه الشديد لحركة “حماس”، وقد سبق أن اعتُقل لديها بتهم تتعلق بتهريب الممنوعات وارتكاب جرائم جنائية. وقد أُفرج عنه في الأيام الأولى لحرب الإبادة بعد تدمير عدد من المقار الأمنية. وحسب لـ”يديعوت أحرونوت”، فإن “أبو شباب” بدأ حياته في تجارة المخدرات –خصوصًا الحشيش والحبوب المخدرة– ثم انتقل مؤخرًا إلى “حماية قوافل المساعدات”، وهي الصفة التي استخدمها لتغطية عمليات السطو والنهب المنظم.
جاء مقطع الفيديو الذي نشرته كتائب القسام عن استهداف “قوة مستعربين” شرق رفح، ليكشف عن تطابق ملامح بعض المسلحين الظاهرين فيه مع شخصيات من تشكيل “أبو شباب”. وكان واضحًا ظهور غسان الدهيني، الرجل الثاني في التشكيل، وهو يقود عملية تمشيط تسبق تحركات جيش الاحتلال، قبل أن تستهدفهم المقاومة.
الدهيني –الذي يُعد في روايات أخرى القائد العملياتي الفعلي للتشكيل– أحد أفراد جهاز الأمن الوقائي في السلطة الفلسطينية، ويُعرَف بخطابه التحريضي ونشاطه على وسائل التواصل. بعد ظهوره في مقطع القسام المصوَّر، حاول الدفاع عن نفسه مدَّعيًا أن مصدر دعمه “الشرعية الفلسطينية”، في إشارة إلى السلطة الفلسطينية في رام الله.
وبعد نفي رسمي من الناطق باسم الأجهزة الأمنية في الضفة، نشر الدهيني رده على هذا النفي، بمقطع مصور وهو يطلق النار وبجواره سيارة تحمل لوحة إماراتية كتب عليها “الشارقة”، ما فتح تساؤلات حول الأدوار الإقليمية في دعم هذا التشكيل.
في هذا السياق، نقلت قناة “i24news“ العبرية عن مصادر رفيعة في السلطة الفلسطينية أن العلاقة بين الميليشيا والسلطة بدأت قبل عدة أشهر، وذكرت أن قناة الاتصال افتتحها بهاء بعلوشة، الضابط الكبير في المخابرات العامة، والذي مرر الاتصال إلى مستشار الرئيس محمود الهباش. وكشف التقرير أن الرئيس عباس أوعز للمقرَّبين منه بإخفاء العلاقة مع “أبو شباب”، قائلًا: “لا تحتضنوه ولا ترفضوه… والأهم، لا تتركوا أثرًا”.
وأضاف التقرير أن هذه العلاقة أسفرت عن تقديم مساعدات مالية ورواتب لعناصر الميليشيا، إلى جانب دعم عربي، لم تُفصح القناة عن اسمه، لكنه يرتبط بوضوح بما ظهر في فيديو الدهيني.
وأما العنصر الثالث البارز في الميليشيا، فهو عصام النباهين، من مخيم النصيرات، وهو من العائدين من صفوف “داعش” في سيناء. وقد سبق أن حُكم عليه بالإعدام في غزة بعد اتهامه بالتورط في تفجيرات استهدفت كوادر من القسام عام 2015، لكنه فرَّ من السجن مع بداية الحرب.
وأضاء الصحفي المصري عمر سعيد في منشور عبر فيسبوك على ماضي النباهين، مستندًا إلى تقرير سبق ونشره عام 2017، رصد فيه مشاركة فلسطينيين من غزة في هجمات “داعش” بسيناء ضد الجيش المصري.
وأكد أن التحقيقات الأمنية في غزة آنذاك ربطت النباهين بعمليات التفجير التي استهدفت خمس سيارات لقيادات من القسام، وكان من بين المتورطين آخرون، فروا جميعًا إلى سيناء وانضموا إلى “ولاية سيناء”.
أفضى التعاون الأمني بين “حماس” والدولة المصرية إلى تصفية معظم هؤلاء، بينما ظل مصير النباهين مجهولًا حتى يونيو/حزيران 2023، حين رُصِد في النصيرات، فحاولت قوة أمنية اعتقاله، ما أسفر عن استشهاد قائدها، ثم أُلقي القبض عليه لاحقًا وحُكم عليه بالإعدام شنقًا، قبل أن يفر مجددًا مع بداية الحرب الحالية.
وفي بيان رسمي، أعلنت عائلة النباهين في قطاع غزة تبرؤها الكامل من عصام “الدبعي” النباهين، ووصفت سلوكه بـ”السطو والعربدة والتعدي على حقوق الناس وأسر الشهداء”. البيان، الذي نشرته الدكتور ميسون محمد عليان النباهين، شدد على أن البراءة شاملة وتُعبِّر عن موقف العائلة بأكملها، مشيرًا إلى أن المختار سبق وأصدر بيانًا مماثلًا قبل الحرب، مؤكدًا أن المذكور كان مطلوبًا للعدالة، وأن الاحتلال “يستغل أصحاب السوابق لتنفيذ أجنداته”.
ما بين “لَحد” و”أبو شباب”: الأدوات تتبدل والمصير واحد
تعيد “إسرائيل” تكرار استراتيجية قديمة، تقوم على خلق قوى محلية موالية تعمل كأذرع أمنية بالوكالة، تُنفِّذ المهام القذرة وتُخفِّف كلفة الاحتلال. وبينما شكَّل “جيش لحد” النموذج الأكثر شهرة في جنوب لبنان في خلال فترة الاحتلال (1978–2000)، تطلُّ اليوم مليشيا “أبو شباب” في شرقي رفح كنسخة غزية مشوهة، تخدم الأهداف ذاتها: تقويض المقاومة، وتمكين المشروع الإسرائيلي عبر واجهات محلية.
وعلى الرغم من اختلاف السياقات الزمنية والمكانية، تتشابه التجربتان في بنيتهما الوظيفية، إذ نشأ كلاهما في ظل الاحتلال، وتلقّى دعمًا عسكريًا مباشرًا من “إسرائيل”، وسعى إلى توظيف الانقسامات المحلية لتثبيت نفوذه.
تأسس جيش “لحد” بقوة تنظيمية وعقيدة عسكرية نسبية، وعمل على قمع المقاومة اللبنانية ضمن مشروع المنطقة العازلة، أما مليشيا “أبو شباب”، فظهرت في بيئة فوضى ما بعد تدمير البنية الأمنية في غزة، وتعتمد على العنف العشوائي والنهب وتقديم خدمات ميدانية للاحتلال تحت غطاء “حماية المساعدات”.
لكن الفرق الجوهري أن “جيش لحد” استمر لعقدين، بينما تواجه مجموعة “أبو شباب” رفضًا شعبيًّا واسعًا منذ لحظة تشكُّلها، بعد تبرؤ العائلات والقبائل منها، وكشف خلفياتها الجنائية والداعشية، وتورطها في التنسيق مع الاحتلال على حساب المجتمع الفلسطيني.
في الحالتين، لم تكن الغاية الحقيقية لهذه التشكيلات “حماية السكان”، بل فرض السيطرة، وتفتيت النسيج الوطني، وتقديم بدائل زائفة تحاول التسلل إلى الفراغات التي تخلقها الحرب.
وتدرك “إسرائيل” أن آلة الحرب وحدها لن تُسقِط غزة، لذا تلجأ إلى أدوات موازية أبرزها الفوضى، والتجويع، والمليشيات، لكنها، كما في لبنان، تفشل في قراءة التاريخ. فكل من رَهن نفسه لخدمة المشروع الصهيوني انتهى على هامش المشهد أو طُرد مدحورًا، لا فرق بين “أنطوان لحد” و”ياسر أبو شباب” سوى اسم المكان والزمان.
وفي غزة، حيث جذور الوطنية أعمق من أن تقتلعها الطائرات، ستلفظ الأرض كل من خانها، مهما حاولت “إسرائيل” تجميل صورته أو تضخيم حجمه، وسينتهي مشروع “المليشيا” كما انتهى مشروع “المنطقة العازلة” في جنوبي لبنان، بالسقوط، والهروب، والانهيار.