كما كان متوقعًا، لم تتوانَ البحرية الإسرائيلية عن اعتراض سفينة “مادلين”، إحدى سفن “أسطول الحرية”، قبل وصولها إلى شواطئ قطاع غزة، حيث قامت بقرصنتها على بعد كيلومترات قليلة من الساحل.
“مادلين” السفينة رقم 36 ضمن تحالف أسطول الحرية، الذي يسعى إلى كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ العام 2007، وقد أبحرت في مطلع يونيو/حزيران من العام 2025 من ميناء كاتانيا الإيطالي، وعلى متنها 12 ناشطًا من جنسيات متعددة، إضافةً إلى مساعدات إنسانية تضم الغذاء والدواء والمعدات الطبية.
جاءت هذه الرحلة بعد نحو شهر من قصف الطائرات المسيَّرة الإسرائيلية لسفينة “الضمير العالمي” قبالة سواحل مالطا، ما أدى إلى تعطيل انطلاقها في اتجاه قطاع غزة، على الرغم من أنها كانت تستعد للمهمة ذاتها.
تندرج هذه المحاولات المتكررة ضمن جهود نشطاء كسر الحصار لتسليط الضوء على الجرائم المرتكبة في القطاع، من قتل وتجويع، في ظل حرب الإبادة المستمرة. ويؤكد منظمو الرحلة أن “مادلين” تمثِّل فعلًا سلميًّا من المقاومة المدنية، وأن المشاركين فيها يتقاسمون قناعةً واحدة: أن للشعب الفلسطيني الحق في الحرية والكرامة والعدالة، تمامًا مثل سائر شعوب العالَم.
قرعٌ لجدران العالَم
تعود قوافل كسر الحصار إلى الواجهة مجددًا، بوصفها أداةً نضاليةً قديمةً متجددة، سعى منظموها الأوائل إلى تحويلها إلى جهد دولي شعبي الطابع، يهدف إلى التأثير في الرأي العام العالمي، ومن خلاله في المواقف الرسمية للدول، للضغط في اتجاه إنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2007.
في هذا السياق، تمثِّل سفينة “مادلين” أحدث حلقات سلسلة طويلة من المحاولات البحرية لكسر الحصار. أولى هذه المحاولات الناجحة كانت في أغسطس/آب من العام 2008، حين نجحت حركة “غزة الحرة” في إيصال سفينتين (“الحرية” و”غزة الحرة”) إلى ميناء غزة، على متنهما متضامنون دوليون ومساعدات رمزية.
تكررت التجربة في خريف العام نفسه، وكان أبرزها رحلة سفينة “الكرامة”، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سرعان ما شددت الحصار وبدأت باعتراض السفن بشكل منهجي.
بلغت المواجهة ذروتها في مايو/أيار من العام 2010، مع انطلاق “أسطول الحرية”، الذي ضم ست سفن، أبرزها “مافي مرمرة” التركية، وحينها، اقتحمت قوات “كوماندوز” تابعة للبحرية الإسرائيلية السفينة في المياه الدولية، ما أسفر عن استشهاد عشرة متضامنين وإصابة العشرات على يد قوات الاحتلال.
وقد أحدثت مجزرة “مرمرة” صدمةً في الرأي العام العالمي، ودفعت تركيا إلى تصعيد دبلوماسي حاد ضد “إسرائيل”، وأعادت حصار غزة إلى واجهة النقاش الدولي، وأسهم هذا الضغط المتراكم لاحقًا في تخفيف جزئي لبعض القيود على دخول البضائع والسلع إلى القطاع.
وعلى الرغم من المجزرة، واصل تحالف “أسطول الحرية” جهوده بين العامين 2011 و2018، إذ أبحرت عدة سفن وقوارب في اتجاه قطاع غزة، من بينها “قارب النساء”، وبكل المحاولات فإن سلوك الاحتلال ظلَّ ثابتًا: اعتراض السفن، ومصادرتها، وترحيل طواقمها، دون السماح لها بالوصول إلى غزة.
لكن “إسرائيل”، التي دفعت ثمنًا سياسيًّا باهظًا بعد حادثة مرمرة، غيَّرت تكتيكاتِها. إذ خلصت المؤسسة الأمنية في دولة الاحتلال إلى أن المواجهة العنيفة كانت “كارثةَ علاقاتٍ عامة”، ما استدعى تغييرًا في طريقة التعامل مع السفن اللاحقة، عبر فرض ضوابط صارمة على القوات المهاجمة، وتكثيف الجهد الإعلامي لإظهار صورة “غير عنيفة” لعمليات القرصنة البحرية.
وقد بدا هذا التوجه جليًّا في تعامل الاحتلال مع “مادلين”، إذ حرص الناشطون على توثيق رحلتهم بالبث المباشر، بينما كشفت القناة “14” الإسرائيلية أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قررت السيطرة على السفينة بهدوء، وترحيل طاقمها جوًّا بأسرع وقت ممكن.
في المقابل، سعى الاحتلال إلى التحايل على الرأي العام، عبر نشر مشاهد توثق توزيع جنوده المياه والطعام على الناشطين، وتحويل الأنظار من واقعة القرصنة والاختطاف إلى “حسن المعاملة”، في محاولة لتجميل المشهد.
وكان تحالف “أسطول الحرية” قد أعلن أن قوة من قوات الاحتلال صعدت إلى متن السفينة بعد قطع الاتصالات عنها، واختطفت مَن فيها، قبل اقتياد السفينة إلى ميناء أسدود. من جهته، أوضح مركز “عدالة” الحقوقي أنه من بين النشطاء الاثني عشر، رفض ثمانية التوقيع على أوراق الترحيل، وسيُعرضون على المحكمة، بينما جرى ترحيل الأربعة الآخرين.
كسرُ حاجز العجز
يرى كثيرون أن نموذج “مادلين” تجاوَز البُعدَ الرمزيَّ ليتحوَّل إلى محاولة حقيقية لكسر حاجز العجز الدولي، ففي وقت تواطأت فيه غالبية حكومات العالَم مع جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ولم تفلح التحركات الشعبية في فرض مواقف سياسية فعلية على تلك الحكومات، ظل الفعل الشعبي في دول العالَم محصورًا في أشكال تظاهرية مُقيَّدة بالمحدِّدات التي وضعتها السلطات، بل إنه جرت محاصرة بعض الحراكات، ومُلاحقة منظِّميها، لا سيما في الولايات المتحدة.
ضمن هذا السياق، تبدو محاولة كسر الحصار من خلال إرسال قارب صغير يحمل مساعدات غذائية وأدوية إلى غزة بمثابة إعلان رفض لحالة السكون والعجز، وتجسيد لفعل إنساني مقاوم في مواجهة آلة الحرب والحصار، وهذا ما حمله المتضامنون الاثنا عشر على عاتقهم، وهم يشقُّون الأميال البحرية ليقتربوا من شاطئ غزة المحاصر، المحروم من أبسط مقومات الحياة.
الناشط الفلسطيني المقيم في أوروبا، الذي عرَّف عن نفسه بِاسم “رمزي” (طارق مصطفى) بسبب ملاحقته القضائية لنشاطه ضمن حركة المقاطعة الدولية لـ”إسرائيل” “BDS”، أوضح في حديث لـ”نون بوست” أن الجهود الشعبية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني باتت تنحو نحو التفكير في أدوات جديدة، قادرة على دفع الأحرار في العالم لتجاوز العجز السلبي، والانتقال إلى خطوات أكثر تأثيرًا وجرأة.
يقول مصطفى: “لم يكن أحد من المنظِّمين يتوقع أن حكومة تقتل الجوعى على أبواب مراكز توزيع المساعدات –التي حولتها إلى مصائد أمنية– يمكن أن تُراعي أي مواثيق دولية أو مطالبات إنسانية، حتى من بعض الدول التي بدأت باتخاذ مواقف أكثر وضوحًا من الإبادة”.
ويضيف أن تحرك طاقم “مادلين” أجبر وزارات الخارجية في الدول التي يحمل النشطاء جنسياتها على فتح قنوات اتصال مباشرة ومتابعة لحظية للمستجدات، وصولًا إلى إصدار بيانات رسمية تطالب بضمان أمن وسلامة المتطوعين على متن السفينة. بهذا، تحوَّلت الرحلة إلى ما يشبه “تظاهرة دبلوماسية” بحرية، تابعتها عقول وقلوب الآلاف حول العالم، وهي تترقَّب كل ميل بحري تخطوه السفينة في اتجاه غزة.
ويختم مصطفى بالقول: “ندرك جميعًا أن ما حملته السفينة قليل جدًّا مقارنةً بالكارثة الإنسانية التي تتطلب جسورًا من الإمدادات، لكن حتى وإن لم تصل، فقد نجحت في تحريك مياه راكدة، وفتحت آفاقًا جديدة نحو تحركات أوسع وأعمق”.
في السياق ذاته، أصدرت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في قطاع غزة بيانًا استنكرت فيه جريمة القرصنة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق سفينة “مادلين” في المياه الدولية.
وأعربت الشبكة عن بالغ قلقها على سلامة النشطاء الدوليين الاثني عشر الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال في خلال اقتحام السفينة، مؤكدة أن ما جرى يمثِّل جريمةً واضحةً وانتهاكًا صارخًا لكل المواثيق والمعاهدات الدولية.
كما توجهت الشبكة بالتحية والتقدير إلى المتضامنين، مشددةً على أن رسالتهم الإنسانية وصلت إلى كل بيت في قطاع غزة، على الرغم من الألم والمعاناة، وحظيت بتقدير كبير من مختلف فئات الشعب الفلسطيني.
خطوة من الألف ميل
مع كل تحرك تضامني في اتجاه غزة، يتجدد السؤال ذاته: ما جدوى هذه المبادرات إن لم تكن قادرةً على تغيير الواقع الكارثي في القطاع؟ فالإبادة تجاوزت الآن عشرين شهرًا، فيما يواصل العالَم الرسمي صمتَه، وكأنَّ حكوماته قد قررت أن تنام على آهات الأطفال والجرحى والمحرومين من الطعام والدواء.
في هذا السياق، تواصل “نون بوست” مع الناشط الغزي “أبو كنعان”، أحد أكثر المتابعين والمتفاعلين مع الجهود الدولية لكسر الحصار، الذي علَّق على حادثة اعتراض “مادلين” بالقول:
“صحيح أننا نشهد تصاعدًا في الحراك التضامني العالمي من أجل وقف العدوان ورفع الحصار، وقد ساهمت في ذلك الفظائع الموثقة على الهواء مباشرة، من قتل وتجويع وتدمير شامل، لكننا لم نصل بعد إلى اللحظة التي يمكن القول فيها إن هذا الحراك بات يملك أدوات ضغط فعلية على الاحتلال والمنظومة الدولية لوقف هذه الكارثة الممتدة في فلسطين، وفي قطاع غزة تحديدًا”.
ويضيف: “نُقدّر بشدة ما فعله النشطاء الشجعان من خلفيات وجنسيات متعددة بتحريك سفينة جديدة ضمن أسطول الحرية، وندرك أهمية تكرار هذه المحاولات في تسليط الضوء، وفي إحراج الاحتلال أخلاقيًّا وقانونيًّا، لكنها، برأيي، ما تزال مجرد خطوة ضمن رحلة الألف ميل”.
وسط كل ما يحدث، قد يراودك سؤال الجدوى: كيف يمكن لسفن وقوافل الحرية المدنية أن تنهي حصار #غزة مع آلة القتل العسكرية الإسرائيلية؟
📝إليك بعضًا من النتائج الملموسة التي من الممكن لهذه المبادرات أن تحقّقها 👇#مادلين#MadleenToGaza pic.twitter.com/QafYXVR4tk
— نون بوست (@NoonPost) June 10, 2025
وحول المطلوب، يرى “أبو كنعان” أن الأمر يتطلب “جهدًا أكثر تنظيمًا لتوسيع هذا الشكل التضامني وتحشيده وتنويعه، بما يشمل مختلف الفئات: السياسية والبرلمانية والأكاديمية والثقافية والطلابية والشبابية والنقابية”.
ويؤكد أن الأمر يحتاج إلى برنامج فعاليات منظم، قادر على تجاوز الجدران التي شيدتها المنظومة الغربية الاستعمارية، والتي تسعى إلى حصر التضامن ضمن أطر رمزية لا تؤثر تأثيرًا فعليًّا على الاحتلال الإسرائيلي.
وحين سُئل مجددًا عن جدوى هذه التحركات، أجاب: “يمكن القول إنها تُحدث تصدعات في جدار الحماية الدولي الذي يحتمي به الاحتلال، وتُقضُّ مضجعه، وتكشف زيف روايته، لكنها لن تتمكن من لجم عدوانه ما لم تُمارَس ضغوط فعلية على حلفائه الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. نحتاج إلى آلية حقيقية تضمن محاسبته، ومنع تحوله إلى كيان مارق فوق القانون، وإعادة تثبيت مبدأ العدالة الدولية كمرجعية لأي نظام يدّعي احترام حقوق الإنسان”.
ويضيف: “السفينة يجب أن تتحول إلى أسطول، والأسطول إلى آلاف القوافل البرية، ومشهد التضامن إلى حالة جماهيرية عابرة للحدود، تُعيد إلى الأذهان مشاهد مسيرات العودة الكبرى، التي كانت من أرقى تعبيرات الإرادة الشعبية على الرغم من التضحيات الجسيمة التي رافقتها”.
ويختم “أبو كنعان”: “نعلم أن هذا النضال الأممي لن يحقق أهدافه دفعة واحدة، لكنه عبر خطوات جدية ومنظمة ومتراكمة قادر على كسر حاجز الإفلات من العقاب الذي يحمي هذا الكيان المارق، ويقود في النهاية إلى مساءلته دوليًّا”.
ثم يضيف من قلب غزة: “نحيِّي كل الأصوات الشجاعة التي تناضل وتصرخ ضد الحصار والعدوان، ونعدُّها امتدادًا طبيعيًّا لمقاومتنا، مهما اختلفت ساحاتها وأدواتها. يجب أن تتوسع هذه الحالة التضامنية وتتجذر، لأننا نواجه احتلالًا هو الأبشع في التاريخ الحديث، وعدوانًا يجري تحت غطاء دولي وعربي مخزٍ”.