“السلم الأهلي الذي يشارك فيه مجرمون مثل فادي صقر وسقراط الرحية هو سلم مشوَّه”.. هكذا علّق الصحفي السوري هادي العبدلله على مقطع مصوَّر يظهر فيه فادي صقر، قائد قوات “الدفاع الوطني” في عهد النظام البائد، إلى جانب عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان ومحافظ دمشق، في عزاء شبان قُتلوا بعد اختطافهم أثناء عودتهم من عملهم في أحد المطاعم.
تعليق العبدلله يُمثّل رأي عشرات الآلاف من الضحايا السوريين الذين يرفضون إفلات جلاديهم من العقاب، ويستنكرون ظهورهم كوجوه للسلم الأهلي في بلدٍ روَوا ترابه بدمائهم، وضحّوا بحريتهم وأنفسهم في سبيل تحرره من طاغية جثم على صدور شعبه لسنوات.
احتدم الجدل وازدادت التساؤلات بين السوريين أكثر حول مآلات العدالة الانتقالية في سوريا، بعد إفراج إدارة الأمن الداخلي في محافظة اللاذقية، بالتنسيق مع لجنة السلم الأهلي، عن عشرات الموقوفين لديها ممن أُلقي القبض عليهم خلال معارك التحرير، ولم يثبت تورّطهم بالدماء بحسب تعبيرها.
سرعان ما لاقت الأصوات المستنكرة والمتسائلة صدى في أروقة الحكومة السورية، ليدعو وزير الإعلام حمزة المصطفى إلى مؤتمر صحفي في مبنى الوزارة يجيب فيه عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان عن التطورات الأخيرة.
الخطوة لاقت ترحيبًا نسبيًا كونها تعاملت مع ردود الفعل ولم تتجاهلها، إلا أن المؤتمر الذي عُقد الثلاثاء الماضي لم يحمل إجابات واضحة من صوفان أو المتحدث باسم الخارجية نور الدين البابا، بل زاد المشهد تعقيدًا وفتح الباب أمام تساؤلات جديدة، بل ومخاوف حقيقية من أن يضيع حلم العدالة الانتقالية الذي ينتظره الضحايا بفارغ الصبر منذ لحظة التحرير.
ربما تختلف وجهات النظر حول ما جاء في المؤتمر، لكن يبقى للقانون رأي واحد، لذا نحاول أن نجيب في هذا التقرير على التساؤلات التي وُلِدت من منظور قانوني.
لجنة السلم الأهلي تحل محل القضاء
قبل الخوض في قانونية التصريحات، يبدو أن الأمر الأكثر إلحاحًا هو حسم الجدل حول صلاحيات لجنة السلم الأهلي التي اعتبرت لجنة العدالة الانتقالية في نقابة المحامين في حمص أنها تجاوزتها، حيث قالت في بيان لها إن “العفو عن فادي صقر وإطلاق سراح الضباط العسكريين يشكّل توغلاً على اختصاص الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية ويخالف أبسط المبادئ القانونية التي تستوجب إصدار قرار الإدانة أو البراءة من السلطة القضائية”.
من جهته، يرى المحامي السوري عارف الشعال، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “الصك الرئاسي الذي أنشأ هذه اللجنة كلّفها فحسب بالتواصل مع الأهالي في الساحل والاستماع إليهم، وتقديم الدعم اللازم لهم بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية”، مؤكدًا أن “هذه المهام تعني أن تكون اللجنة وسيطاً بينهم وبين الأجهزة الأمنية والشرطية لنقل هواجس الأهالي ومخاوفهم، دون أن يكون لها الحق بالتوسط لإطلاق سراح موقوفين أو العفو عنهم”.
كما أنه ليس من صلاحيات الحكومة المتمثلة بوزارة الداخلية الإفراج عن الضباط السابقين لدى النظام، بل من المفترض أن يكون هذا الأمر بيد القضاء ممثلًا بالنائب العام الذي يحيل القضية إلى المحكمة لتصدر القرار الأخير، على أن يكون القضاء مستقلًا عن الحكومة وأجهزتها الأمنية، بحسب مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، الذي شدد على أن ما يجري اليوم بعيد عن المسار القانوني، ويدل على حالة التخبط حيث وزارة الداخلية هي التي تعتقل أو تفرج.
التفاوض مع مجرمي حرب
“بغض النظر عن ثبوت ارتكاب الانتهاكات من عدمه، قام فادي صقر بدور إيجابي، والقيادة مطلعة على ذلك، وشخصيات مثله كان لها دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد”. لعلّ هذه من أكثر تصريحات صوفان استفزازًا للسوريين؛ فكيف يمكن أن يكون وقع هذا الكلام على أم فقدت ابنها على يد العناصر الذين كانوا يتلقون أوامر القتل من صقر؟
لكن كيف يُنظر إلى الأمر قانونيًا؟ هل يمكن التفاوض مع مجرمي حرب لمقتضيات “السلم الأهلي”؟ يجيب المحامي الشعّال بالنفي القاطع، مؤكدًا أنه لا سلطة لأي جهاز في الدولة، ولا حتى للقضاء، أن يقوم بإجراء مفاوضات أو تسويات على جرائم مرتكبة، أما العفو عن أشخاص معيّنين فهو، بموجب الإعلان الدستوري، حق خاص يملكه رئيس الجمهورية بشرط أن يمنحه بعد صدور الحكم بالإدانة من المحكمة واكتسابه الدرجة القطعية.
فيما أكدت نقابة محامي حمص أن “ما ذُكر حول تغليب مصلحة الدولة على حقوق الضحايا هو انتهاك صارخ للشرعية الدستورية والحقوقية”، مشيرة إلى أن “الدولة لا تُبنى على نسيان الجرائم، بل على الاعتراف بها ومحاسبة مرتكبيها، وأن العدالة الانتقالية منظومة متكاملة تقوم على: كشف الحقيقة، إنصاف الضحايا، محاسبة الجناة، وضمان عدم التكرار؛ ولا يمكن إغفال واحدة على حساب الأخرى”.
وتضيف نقابة حمص أن أولياء الدم والضحايا هم من يقررون مصلحتهم، ولا يمكن سلبهم هذا الحق تحت أي ذريعة، وأن تصريحات لجنة السلم الأهلي تُعد مخالفة صريحة للإعلان الدستوري في مادته 49، التي تعتبر مشاركة الضحايا في مسارات العدالة الانتقالية شرطًا رئيسيًا لتحقيق العدالة الانتقالية.
المادة 49: تُحدث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف الضحايا والناجين، إضافة إلى تكريم الشهداء.
ويرى عبد الغني أن الحكومة يجب أن تكون شفافة في توضيح الأسباب وراء إطلاق سراحهم، وإذا ما كانت هناك تسوية أو صفقات، فلابد أن تتم بشكل واضح ومعلن وشفاف، نظرًا لحساسية الملف المرتبط بحقوق الضحايا، سيما أن الاعتداءات بحقهم لم تكن بسيطة، بل تتعلق بالقتل والتعذيب والإخفاء القسري وجرائم واسعة.
ويشير إلى أن الدولة يمكن أن تسقط حقها وتعطي الأمان لأفراد، كما حدث في نزاعات عدة، لكن يجب أن تبرر موقفها بشكل مقنع للضحايا من خلال تقارير تصدر عن الحكومة، تفنّد الدور الذي قام به كل شخص وتوضح مجريات التحقيقات.
مسار العدالة الانتقالية مُهدد
أثارت تصريحات المؤتمر شكوكًا لدى بعض السوريين بأن العدالة الانتقالية باتت حلمًا بعيد المنال، في حين رأى آخرون أن مقتضيات مصلحة الدولة تفرض هذا المسار، لكن ما يجمع عليه الحقوقيون أن السلم الأهلي والعدالة الانتقالية ليسا خيارين متعارضين، بل مسارين متكاملين لا يتحقق أحدهما دون الآخر.
يحذّر الشعّال من أن هذه التصريحات تؤدي إلى انخفاض ثقة الضحايا وذويهم في عزم الدولة على ملاحقة المجرمين، مما يفاقم الأحقاد لديهم ويؤثر على السلم الأهلي، كونه سيوفر ذرائع لعمليات الثأر والانتقام.
ويؤكد عبد الغني انعكاس العفو غير المُعلن بشكل سلبي على مسار العدالة الانتقالية، لأنه يرسل رسالة خاطئة للضحايا أو للمجتمع بأخذ حقوقهم بأيديهم، وهو ما يزعزع السلم الأهلي بدل أن يعززه.
في المحصلة، تبقى العدالة الانتقالية في سوريا أمام اختبار صعب، فإما أن تُبنى على أسس قانونية واضحة تعيد للضحايا حقوقهم وتضمن عدم تكرار المآسي، أو تتحول إلى مسار هشّ يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب تحت ذرائع “المصلحة العليا للدولة”، وبين هذين الخيارين، يترقب السوريون مآل التجربة، وهم يحملون في ذاكرتهم أثمانًا باهظة دفعوها في سبيل عدالة ما زالت مؤجلة.