على ما يبدو، لم يعد جديدًا السماع عن “التخبّط” الذي يدور في أروقة النقابة الفنية في سوريا، سواء بفصل بعض الفنانين أو تقريب آخرين، على خلفيات سياسية وحسابات قديمة وحديثة. لا تنشغل هذه المقالة بإيضاح ما يحدث، بينما يشغلها الحديث حول الحكم الفني على مستوى الخطاب، الذي بدا واضحًا في عددٍ غير قليل من الأعمال الفنية السورية، التي كانت البدايات الأولى في دراما سوريا ما بعد بصق بشّارها.
هذه سوريا الجديدة التي شهدت خطابًا دراميًا بِكرًا. هذه السطور تهتم كثيرًا بمتابعة ذلك “هنا والآن”، وتفكيك بعض الأعمال التي تُثبت ذلك التغيّر.
لماذا نسعى هنا للاهتمام بمحتوى تلك الأعمال وتجاهل، نوعًا ما، التخبّط المؤسساتي الدائر منذ أشهر؟ لأسبابٍ مختلفة، على رأسها أنّ الحكم عليها بالتخبّط بعد شهورٍ قليلة فقط، ليس ذا جدوى كبيرة، بالرغم من تثمين البيان الأخير الذي حمل عنوان: “خارطة طريق لإعادة هيكلة نقابة الفنانين”، الذي ركّز على تقديم ضمانات الاستقلال السياسي للنقابة.
السبب الآخر، والأهم، للاهتمام بمحتوى نماذج من الأعمال السورية الأخيرة، على حساب التنسيقات الإدارية الداخلية للعمل الفني، هو أنّ الجمهور في النهاية غير معنيّ بالنقاشات والمعارك الداخلية، قدر اهتمامه بمناقشة المحتوى النهائي الذي يشاهده، والذي يبدو في المنحى السوري مُبشّرًا وذكيًا ومفرِّغًا للغضب في أغلب مستوياته.
تتساءل هنا: ما الذي تغيّر في الخطاب الفني؟ وإلى أيّ مدى كانت تلك التغيّرات الخطابية متنوّعة وذكية؟ المرور هنا يشمل عدة مسلسلات: “نسمات أيلول”، الذي قرر أن يكون لايت كوميدي، موازيًا للمأساة، ومرفِّهًا نوعًا ما عن الجميع، دون إسقاط إشارات سياسية عابرة ومجازية، في مقابل “تحت سابع أرض”، الذي قدّم شرطيًا فاسدًا مضطرًا للتعامل مع السرقة بمظلومية فارغة تُطهّر الشرطة.
كذلك نشير إلى مسلسل “البطل”، على اعتباره يعيد تجسيد البطولة في مواجهة الفوضى، ومسلسل “ليالي روكسي”، وكيف حاولت فيه الفنانة السورية الأشهر عربيًا سُلافة فواخرجي التطهّر من حماقات تأييد بشّار الأسد القديمة، والتساؤل عن تقاطعات الفن مع السياسة.
“نسمات أيلول” و”تحت سابع أرض”.. مجاز متجاوز ومباشرة فجّة
تبدأ الأسئلة حول كلّ المسلسلات هنا من خلال جوهرٍ أصيلٍ يجمعها: هل بدت تلك الأعمال بديلًا مناسبًا؟ يتساءل بعض المهتمين بالدراما العربية عن المنحى السياسي الطاغي في دراما ما بعد بشّار الأسد. على سبيل المثال، كتاب الشر السائل: العيش مع اللّابديل، الذي يتضمّنُ حواراتٍ بين الفيلسوف والأستاذ الجامعي الليتواني ليونيداس دونسكيس، وعالم الاجتماع البولندي، وصاحب نظرية الحداثة السائلة، زيغمونت باومان.
يناقش الرجل الحداثة الأوروبية المعاصرة، كما يناقش فكرة اللّابديل. هنا نشير إلى جدّية تلك الأعمال ورَزانتها، رغم كل شيء، بتناولها النقدي، ليس مجرد حكمٍ عام، والاحتياج إلى البناء عليها يومًا بعد الآخر. نحاول أن نفهم هنا: هل تبدو تلك الأعمال بديلًا مناسبًا للدراما السورية لحظة بشّار أم لا؟
المخرجة رشا شربتجي، والمؤلف علي الصالح، لهما رأيٌ آخر عن كلّ ذلك في مسلسل “نسمات أيلول”. هنا الأمور تمرّ هادئة حزينة، لكنها تُقدَّم في شكلٍ أقلّ ميلودرامية. يفهم المشاهد ذلك من المشهد الأول، الذي نسمع فيه عن موت الجدّ، بينما نسمع التعليقات الساخرة من الحياة والموت عمومًا.
تتر كرتوني خفيف الاستقبال، يُبشّر ببعض الخفّة. وموسيقى تصاحبه حالمة ورقيقة، فيها من الحزن ما فيها من الوعد بالسعادة لمستقبلٍ منتظر. في إحدى كلمات التتر يقول المغني: “متل دبس رمان، حلو وملح يا قلبي”. يختار المسلسل البُعد التام عن السياسة لصالح المجتمع الصغير، لكنها لا تجد متّسعًا بعيدًا عن التأويلات السياسية، التي باتت تلك الحياة الطبيعية ذاتها حلم السوريين ما بعد الحرب.
تدور أحداث المسلسل في إحدى القرى الريفية السورية، ويتناول العلاقات الإنسانية وهموم سكان الريف، والقضايا والمشكلات اليومية للشباب وكبار السن، وما يواجهونه من تحدياتٍ حياتيةٍ مختلفة، في إطارٍ كوميديٍّ خفيف. كلّ شيءٍ في سوريا يذكّر بالحرب وتبِعاتها عمومًا.
بينما يختار “نسمات أيلول” البُعد النَسِي والمجاز المتجاوز للحظة. نشاهد هنا أكثر الخطابات الدرامية راديكاليةً منذ سقوط بشّار الأسد. هنا مسلسل “تحت سابع أرض”، الذي يحكي عن “المدينة الفاسدة”. يحكي المسلسل قصة الضابط موسى/ تيم حسن، الذي يستغلّ صلاحياته لتحقيق مكاسب شخصية بطرقٍ فاسدة وملتوية. شخصُه ذاته فيه ما لدى السلطة وفسادها في آن. أو كما يقول التتر: “لك كنت علاج، كيف صرت الجرح؟”. بشكلٍ عام، حمل المسلسل شريط صوتٍ مثاليًّا دراميًا.
تتداخل قصة البطل الضابط الفاسد مع سارقي البلدة، الذين عليهم التخلّص منهم. يبدو الخاسر الأكبر هنا هي المدينة التي لم تعد تجد من يحميها فعلًا. يطرح العمل الفساد الشرطي بشكلٍ يتعاطف مع البطل، لكنه يجده نقطةً جيدةً للتساؤل عن دور الشرطة في لحظةٍ فاسدةٍ كليًا. سؤالٌ واحدٌ مفتوح: هل يجب التخلّص من الشرطة الفاسدة، أم السعي إلى إعادة إصلاحها في لحظةٍ تحتاج للبناء أكثر من الهدم؟ هكذا يمكن مشاهدة المسلسل بسياقٍ قريبٍ من السياسة والفن في آن.
البطل.. السؤال الفلسفي هو البداية الحقيقية
الممثل السوري الأكثر شعبيةً عربيًا، بسام كوسا، عاد من خلال مسلسل “البطل”، الذي كتبه رامي كوسا. هذه المرة الأولى التي يُغيّر جلده فيها تمامًا بعد سنواتٍ من تقديمه شخصياتٍ شريرة في “تاج” و”مال القبان”. يُقدّم هنا شخصيةً تجمع بين القوة والهشاشة الإنسانية، لتُعبّر عن أمنيات الدولة السورية كلّها، ربما، اليوم. رجلٌ يحمل صراعاتٍ داخلية وتناقضاتٍ نفسية، تضع في قلبه “بطولته” التي عنونت المسلسل كلّ سوريا اليوم.
يصعب تمامًا التمفصل بين السياسي والفني في مسلسل “البطل”، الذي يحمل مجازاتٍ سياسيةً واضحة، بالرغم من عدم مباشرتها الفجّة في أغلب مشاهده. يطرح المسلسل معضلةً قد يُشكّك فيها. يحكي المسلسل قصته من خلال بطله بسام كوسا/ يوسف، الذي يدخل إلى السجن.
تبدأ الحكاية من خلال جواباتٍ يحكيها الرجل من الداخل، ينظر بأثرٍ رجعي إلى العالم القديم، ليسرده بعين الماضي والمستقبل، من قِبل رجلٍ خسر كلّ شيء، وبات عليه أن يُقدّم تجربته لجيلٍ قادم. يحكيها بصوتٍ فيه من الهزيمة والحزن ما فيه من الصلابة والتمنّي. يبدأ في سرد قصته على المشاهدين.
يختار المخرج هنا سرد قصته بالطريقة الأكثر كلاسيكية، التي تبدأ بتعريف الجمهور بالأسرة التي يعيش فيها البطل، إلى جانب التعريف ببلدتهم الصغيرة كلّها. أسرةٌ سوريةٌ هانئة: الأب مُدرّس، والأم موظفةٌ في الحي، لديهما ولدٌ وبنتٌ في قريةٍ هادئة، سرعان ما تعكّر صفوَها الحرب.
الحرب تصبح الحدث الذي يقلب كلّ الموازين. تهرب القرى القريبة من النيران إلى القرى الأكثر هدوءًا. يُعكّر ذلك صفو الجميع. الحرب وحدها تُدمّر القريب والبعيد. يقف البطل يوسف في لحظةِ اختبارٍ فعلية، ليست تنظيرية على الإطلاق، بين مشهدين في المدرسة: أحدهما يُردّد الطلاب فيه النشيد الوطني بفخر، والآخر يهرعون فيه إلى الخارج مع سماع أخبارٍ عن وصول مساعدات.
بعد عدّة حلقات، يختار فيها المخرج الليث حجو التعبير عن سوريا من خلال مشاهدَ بصريةٍ يمتنع فيها أيّ حديث، الجميع صامتٌ يتساءل عن مصيره في لحظةٍ مضطربةٍ وقلقة، رغم أمنيات التغيير التي تُحلّق في الأفق. يفهم المشاهد إلى أيّ مدى تغيّرت الأمور. يفهم الخطاب كيف تغيّر، أو كيف عليه أن يتغيّر أكثر. يُغلق المسلسل قصته على القرية الصغيرة، ويحكي كلّ شيء عن سوريا من خلالها. يُشاهد الجمهور من خلال القرية الصغيرة كلّ سوريا الجديدة، التي لديها ما يكفي من المشكلات البعيدة عن السياسة والقريبة منها في آن، والتي عليه تقبّل طبقاتها المختلفة بالانصهار فيما بينها، لو أرادت التعايش.
في إحدى قصص المسلسل الجانبية، ترفض إحدى العائلات زواج ابنتهم من شابٍ مجهول الأب، وربيبٍ قديمٍ للسجن، رغم قصة حبهما وتوبته التي بات يشهدها كلّ أهل الحي. يسعى البطل يوسف إلى فكّ ذلك التعقيد، ومحاولةٍ جديدةٍ لانصهار المجتمع سويًا، متناسيًا كلّ القديم، لدى ماضي الشاب والفتاة، أو لدى حبيبين غيرهما، لديهما منحة في الخارج، أحدهما يرى الحلّ في السفر، والأخرى تتردّد في ترك الأهل في وقتٍ خطر. بات على المجتمع التفكير في كلّ شيءٍ مرّةً واحدة، إذا أراد النجاة من الدمار.
ما الذي يجعل مسلسل “البطل” عملًا ملحميًا حقيقيًا؟ رغم اكتمال حبكة السيناريو القويّ والإخراج المثالي المعتاد سوريًا، على المستوى الدرامي على الأقل، فإنّ البطل هنا يحمل تساؤلًا أصيلًا عن اللحظة الفنية سوريًا: هل تتحمّل الدولة وحدها مصير الناس وقت الحرب، أم يحتاج البلد إلى بطلٍ يرى روح القانون في كلّ شيء؟ يختار صنّاع مسلسل “البطل” التفكير في أنّ البطولة لا تصلح فرديًا هنا. البيروقراطية عدوّ البطولة، بشكلٍ عام، الفردية والجماعية. وأنّ المسلسل الذي يحمل اسم “البطل” بألفٍ ولام التعريف، بشكلٍ فردي، ينفي تسميته ضمنيًا، ويعتبر أنّ البطولة، بشكلٍ عام، حدثٌ جماعيٌّ على الدولة كلّها المشاركة فيه.
ليالي روكسي.. سؤال الفن والفنان
إلى جانب مسلسل “البطل”، لاقى المسلسل السوري الآخر “ليالي روكسي” احتفاءً كبيرًا مع عرضه على الشاشات العربية. يجتمع فيه دريد لحّام مع منى واصف، لأوّل مرة منذ 42 عامًا، معهما في بطولةٍ مطلقةٍ لسُلاف فواخرجي.
سُلافة، المقيمة في مصر بعد رحيل بشّار، غير المرحّب بها هنا وهناك نتيجة دعمها غير المشروط لذلك السفّاح، تقول في المسلسل، وعلى خلفية لقاءاته، إنّ السياسة منفصلة عن الفنّ تمامًا. لكنّ الأمر قد لا يبدو كذلك تمامًا، سواء في العمل الدرامي أو في الواقع، في كلّ خطوة، بينما تتحدث بعد سقوطه عن التسامح والنظرة القديمة “الخاطئة”. اليوم، تخرج الفتاة في ثوبٍ جديد، داخل مسلسلٍ حكمته الأكبر هي التسامح مع كلّ القديم.
“ليالي روكسي” كتبه وأخرجه السوري محمد عبد العزيز. يحمل المسلسل نظرةً متماسكةً من شخصٍ واحدٍ لنقل خطابٍ دراميٍّ جديد، يصلح إسقاطه على سوريا اليوم دون شك. سابقًا، صنع “شارع شيكاغو”، الذي تنقّل فيه بين عالمين، تمامًا كما يتنقّل هنا في “روكسي”. تُفصل القصة بين العالمين، حتى على مستوى التشخيص، إذ تعود توتة (سُلاف فواخرجي)، البطلة التي تحلم بالتمثيل، إلى أداءٍ مسرحيٍّ مُبالغٍ فيه نوعًا ما، عند محاكاة اللحظة التي يُحكى المسلسل فيها، في عشرينات القرن الماضي.
يختار المسلسل الرجوع إلى الوراء كثيرًا، للوقوف أمام حدثٍ مفصليٍّ للحكي من خلاله. بدايةٌ ذكيّةٌ لتجاوز المباشرة، والعودة إلى التاريخ، الذي يُجيد السوريّون بشكلٍ مثاليٍّ حكي قصصهم من خلاله. تعرف الغالبية الريادة السورية في صناعة الأعمال التاريخية. تبدأ أحداث المسلسل مع تعذّر عرض أوّل فيلم سوري؛ يبدأ المسلسل من رغبةٍ عارمةٍ في إعادة البدء في صناعة فيلم، وقت وجود الاحتلال الفرنسي آنذاك. تقول البطلة: “كيف بدي أرفع راس البلد، وأنا راسي مكسور؟”. يبدو المجاز مثاليًا، وربما لا يمكن تجاهله حول سوريا اليوم؛ سوريا ما بعد بشّار الأسد، المولودة مع سلطةٍ جديدة.
كلّ شيءٍ يبدو واضحًا من الحلقات الأولى للعمل. في معركة الحلقة الأولى، يقول الشيخ الكبير في فضّ النزاع بين أهل الحارة: “ولاد بلدٍ واحدٍ أنتو، ما بيصير تختلفوا”. يقول الضابط في المشهد التالي، مع سؤاله عن سبب التدخّل لفضّ النزاع: “مصلحتنا تقتضي: فرّق تسد”. هناك سوريا التي تسعى للتخلّص من المحتلّ بالاتحاد، تمامًا مثلما حدث قبل شهورٍ مع سوريا اليوم.
يبدو أنّ السؤال، من داخل العمل وخارجه، لا يزال مطروحًا، وإجابته لدى كلّ سوريّ فقط: هل يُسامح السوريون من سمح لبشّار الأسد بالاستمرار والقتل، أم على الدولة الجديدة تجاوز كلّ الماضي؟ تطرح الدراما سؤالها الجديد وتتركه للمشاهد.