منذ بزوغ الإسلام وحتّى ما قبل اكتشاف النفط، كانت مكة تستقبل قرابة 100 ألف حاجٍّ سنويًا، يأتون سيرًا على الأقدام، أو عبر البحر، أو على ظهور الدواب، لكنّ هذا المشهد تغيّر جذريًا مع تطوّر وسائل النقل الحديثة، إذ بات ما يقرب من 3 ملايين مسلمٍ يؤدّون فريضة الحجّ سنويًا.
هذا التزايد الهائل في أعداد الحجاج، رافقه تسارعٌ في مشاريع التحديث التي تبنّتها السعودية، والتي يعتبرها قادة المملكة ضروريّةً لمواكبة احتياجات الحجّ المعاصر، إلّا أنّها أدّت إلى مشكلاتٍ خطيرة وتبِعاتٍ سلبيّة، وأسهمت في تقويض الشعيرة وتجاهل الهويّة التاريخيّة لمكة.
وسط وتيرة التحديث المتسارعة، أدّى ضياء الدين سردار فريضة الحجّ خمس مرّاتٍ خلال فترة إقامته في السعودية منذ أواخر السبعينيّات، وخلال تلك السنوات كوّن معرفةً عميقةً بمكة ومحيطها، وشهد عن كثب التحوّلات الجذريّة التي لحقت بها، وتُعدّ تجربته من أبرز الروايات النقديّة المعاصرة للحجّ، حيث قدّم من خلالها تقييمًا شاملًا لتجربة الحجّ في سياقها الحديث، وجمع رؤاه وتحليلاته في كتابه “مكة: المدينة المقدّسة” الصادر عام 2014.
ما الذي دفعه للحج؟
وُلد ضياء الدين سردار عام 1951 في باكستان، وترعرع متنقّلًا بين باكستان ولندن خلال ستينيّات القرن العشرين، ويروي أنّ علاقته بمكة بدأت منذ طفولته، حيث كانت صورة المسجد الحرام والكعبة القطعةَ الوحيدة من الزخارف في منزل أسرته.
يروي سردار أنّ معرفته الأولى بالإسلام ارتبطت بمكة، فمن خلال قصص السيرة، أصبحت مكة وأماكنها أكثر ألفةً له من وطنه، كما تعلّم منذ صغره أنّ الحجّ ركنٌ من أركان الإسلام، فحفظ تفاصيل المناسك وتخيّل مواقع الحجّ كمنى وعرفات ومزدلفة، وكان يحلم أن يكون حاجًّا يومًا ما، ليحوّل صورة مكة في خياله إلى واقعٍ حقيقي.
ويصف سردار مكة بأنّها مقصدٌ روحيٌّ وأخلاقيٌّ يتوجّه إليه في صلاته وتساؤلاته الوجوديّة، ويُجسّد هذا الارتباط بقوله: “لم أشكّ يومًا في أنّني يجب أن أتوجّه دائمًا إلى مكة إذا أردت تحقيق شيءٍ ذا قيمةٍ في حياتي”.

ثم في منتصف العشرينيات من عمره، تحقّق حلم سردار بالوصول إلى مكة، وعمل في معهد أبحاث الحجّ الذي تأسّس حديثًا في جدة عام 1975، وخلال خمس سنواتٍ قضاها في السعودية، انكبّ على إجراء دراساتٍ حول تجربة الحجّ، وشارك في إعداد مخطّطاتٍ وتوصياتٍ فنيّةٍ قدّمها مع زملائه في المعهد بهدف تحسين أداء الشعيرة والحفاظ على الطابع العمرانيّ والتاريخيّ لمكة.
حج على الأقدام: محاولة استعادة تجربة الحجاج الأوائل
خلال سنوات إقامته في السعودية، عاش سردار تحوّلاتٍ جذريّةً طرأت على مكة، ولاحظ اتّساع الفجوة بين الصورة المثاليّة التي حملها في مخيّلته منذ الطفولة، والواقع المتغيّر مع كلّ موسم حجّ.
وحين خضع المسجد الحرام لأعمال توسعة وأُعيد بناؤه في أواخر السبعينيّات، اختلفت صورة مكة المحفورة في قلبه، ويروي أنّ هذا التغيّر دفعه إلى أداء حجّه الخامس سيرًا على الأقدام، آملًا أن يمنحه ذلك استعادة جوهر تجربة الحجّ كما عاشها الحجّاج على مرّ العصور.
كان سردار بحاجةٍ إلى دابةٍ ليُعيد تمثيل رحلة الحجّ كما كانت في الماضي، فاختار الحمار بدلًا من الجمل، فرغم أنّ الجمل كان وسيلة النقل التقليديّة، لكنّه أصبح أرستقراطيًّا مدلّلًا ورمزًا للترف، بينما بدا الحمار خيارًا عمليًّا لحمل الماء والمؤن.
أمضى سردار أسبوعين يبحث عن حمارٍ في جدة وضواحيها دون أن يعثر على مبتغاه، وفي أحد الأيام، التقى برقيب شرطةٍ محلّيٍّ أرشده إلى بدويٍّ يرغب في بيع حماره، واصطحبه إلى منزل البدوي، فوجد سردار الحمار بحالةٍ جيّدة، لكنّ سعره كان مرتفعًا، عشرة آلاف ريال، ورغم اعتباره المبلغ مبالَغًا فيه، تفاوض حتّى اشترى الحمار بنصف السعر.
وفي اليوم السادس من ذي الحجة، انطلق سردار برفقة صديقه ظفر، ودليلهم علي، إضافةً إلى الحمار الذي سمّاه “جنكيز”. بدأوا رحلتهم من جدة على الطريق السريع، ثم انحرفوا باتّجاه جبال الحجاز، وساروا حتّى حلول الليل، حيث نصبوا خيمتهم في أحد الأودية بناءً على نصيحة دليلهم. وخلال الرحلة، كان البدو يرمقونهم بدهشة، وكأنّهم قادمون من زمنٍ آخر.
في تلك اللحظة، أدرك سردار أنّ الحمار أصبح عبئًا لا يمكن الاستمرار معه، فربطه بجوار بئرٍ قديمة، واقترح عليه عليّ نقله إلى مخيّم منى بواسطة شاحنةٍ صغيرة، وبعد مفاوضاتٍ شاقّةٍ مع السائقين، وجدوا من وافق على نقله مقابل أجرٍ مرتفع.
وُضع “جنكيز” في الشاحنة، وغادر عليّ مع السائق متّجهين إلى المخيّم، أمّا سردار، فاختار السير على الطريق السريع بدلًا من تسلّق الجبال، لكنه سرعان ما ندم، إذ واجه مخاطر كبيرة بسبب حركة المرور الكثيفة، ووصل إلى المسجد الحرام وهو في غاية الإنهاك والتعب.
في خيمته الواقعة أعلى قمّةٍ في منى، كان سردار يتأمّل في جوهر الحجّ الحقيقي، وفجأةً دخل عليه صديقه ظفر برفقة حاجٍّ آخر، وقال له: عليك أن تتعرّف على الأخ سليمان. وأخبره سليمان أنّه جاء للحجّ من الصومال سيرًا على الأقدام في رحلةٍ امتدّت سبع سنواتٍ كاملة، في تلك اللحظة، تلاشت مشاعر الفخر التي كانت تعتري سردار.
يعتقد سردار أن الدرس الأساسي من تجربته يكمن في تقبّل الواقع، والسعي لإيجاد حلولٍ للمشكلات القائمة، فقد تلاشت لديه تصوّراته الرومانسيّة بمجرد دخوله المسجد الحرام، إذ يرى أن فكرته في عبور الصحراء سيرًا على الأقدام للوصول إلى الكعبة لم تُولد الشعور الذي كان يأمله، بل اكتشف جانبًا مظلمًا يفوق ما كان يتخيّله، ليرسم من خلال ذلك صورةً لهذا الوجه الآخر من مكة.
الحوادث المتكررة
عندما أدّى سردار فريضة الحج، لم يكن مجرد حاجّ، بل شارك من موقعه في معهد أبحاث الحجّ في تقديم توصياتٍ لتحسين تجربة الحجاج، شملت توفير خيامٍ مقاومةٍ للحريق، وإنشاء مناطق مظلّلةٍ للراحة، وتشجيع المشي إلى منى وعرفات ومزدلفة قدر الإمكان، مع تقييد استخدام المركبات الخاصة إلا في الحالات الطارئة. كما اقترح بدائل تأخذ في الاعتبار الجوانب البيئيّة، غير أنّ السلطات السعوديّة تجاهلت هذه المقترحات.
وجّه سردار انتقاداتٍ حادّةً لقرارات تطوير مواقع الحجّ، وخصّ بالتحديد التوسعة الثالثة للمسجد الحرام التي بدأت عام 1988 واستمرّت حتى عام 2005، منتقدًا التغييرات الجذريّة التي رافقتها، بما في ذلك إنشاء مآذن جديدة، وتركيب أنظمة تكييف، إضافةً إلى شقّ طرقٍ وبناء أنفاقٍ وتحديث البنية التحتيّة في منى وعرفات ومزدلفة. كما أشار إلى التوسعة الكبيرة لمنطقة رمي الجمرات، التي تطوّرت من طابقين إلى خمسة، بطول 950 مترًا، وبقدرةٍ استيعابيّةٍ تصل إلى 300 ألف حاجٍّ في الساعة.
ورغم ضخامة هذه المشاريع، رأى سردار أنّها تمثّل تهديدًا لسلامة الحجاج، ويذكر أن معهد أبحاث الحجّ عارض بشدّةٍ إنشاء الأنفاق، واصفًا إيّاها بـ”مصائد الموت”، ومع ذلك، لم تُؤخذ هذه التحذيرات بعين الاعتبار.
ويستعرض سردار سلسلةً من الكوارث الناتجة عن مشاريع التوسعة غير المدروسة في مكة، أبرزها مأساة عام 1990، حين أدّى تدافعٌ في نفق المعيصم إلى وفاة 1426 حاجًّا. كما تكرّرت الحوادث في منطقة الجمرات، حيث توفي 270 حاجًّا عام 1994، أعقبتها حوادث مماثلة في أعوام 1998 و2001 و2003 و2004، وبلغت ذروتها في عام 2006، بمقتل 346 حاجًّا في تدافعٍ عند جسر الجمرات، وفي العام نفسه، انهار فندق الغزة، مُوديًا بحياة 76 حاجًّا.
ورغم التعديلات التي أُجريت عقب كلّ كارثة، ظلّت عيوب التصميم قائمة، وهو ما دفع سردار لتوقّع وقوع كارثة كبرى كلّ ثلاث سنوات، وهو ما تحقّق لاحقًا. وانطلاقًا من هذه القناعة، اتّهم سردار السلطات بتجاهل التوصيات التي قدّمها، ممّا تسبّب -في رأيه- بوقوع حوادث مأساويّة كان من الممكن تجنّبها. وقد عبّر عن خيبة أمله من هذه الإخفاقات، معتبرًا أنها من الأسباب الرئيسيّة التي دفعته للاستقالة من معهد أبحاث الحجّ.
طغيان ناطحات السحاب
يرى سردار أن مكة تغيّرت بسرعة في أواخر القرن الماضي، فظهرت ناطحات السحاب، واجتاحها مضاربو العقارات، ونتج عن ذلك تدهورٌ عمرانيّ ومشاكلُ اجتماعيّة، أصبحت المدينة صاخبةً ومزدحمة، ويفتقر تصميمها الحديث إلى الروحانيّة والجمال، بعدما اختفت المباني القديمة والمساحات الخضراء، وسيطرت السيّارات على المشهد. وبرأيه، لم يبقَ من روح مكة القديمة سوى جمال الكعبة.
في الواقع، ينتقد سردار كثيرًا البناء المستمرّ لناطحات السحاب في مكة، معتبرًا أنها حوّلت المدينة المقدّسة إلى نسخة شبيهة بديزني لاند أو لاس فيغاس، حيث تحوّل محيط مكة إلى تمجيدٍ للمال والرفاهية والتّرف والاستهلاك، على حساب الروحانيّة. ويشير إلى أن برج ساعة مكة، ثاني أطول مبنى في العالم، غيّر أفق المدينة بشكل جذريّ، إذ بات يعلو فوق المسجد الحرام ويهيمن بصريًا على الكعبة نفسها.
في تعليقاته النقديّة، يُشبه سردار مكة المعاصرة بمدينة هيوستن الأمريكيّة، التي يعتبرها مثالًا لمدينة غنيّة بالنفط لكنها تفتقر إلى الهويّة، ويشير إلى أن عددًا من أفراد العائلة المالكة المشاركين في تطوير مكة تأثّروا بهيوستن، لما تتمتع به من حداثةٍ نفطيّة ومناخٍ مشابه لمناخ السعودية، فسعَوا إلى إعادة تشكيل مكة على نمطها إلى حدٍّ كبير.
ويشير سردار إلى أن الخطط الرامية لبناء 130 ناطحة سحاب تُطلّ على المسجد الحرام، وتوسعة الحرم ليستوعب ما يقارب 5 ملايين مُصلٍّ، تُهدّد بطمس القسم العثمانيّ التاريخيّ للحرم، بما في ذلك الأعمدة المُزخرفة بأسماء الصحابة، ويُحذّر من احتمال إزالة المسجد الحرام القديم بالكامل لصالح منشأة حديثة ضخمة، إضافةً إلى تعرّض مواقع أخرى، مثل غار حراء، لخطر الهدم.
محو التاريخ
منذ خمسينيات القرن العشرين، بدأت مكة تشهد تحوّلات عمرانية واسعة مع إنشاء أحياء جديدة لاستيعاب الحجاج، ورغم التحفّظ الشعبي تجاه الأبنية المرتفعة لما تُسببه من مساس بحرمة الحرم، وُضعت لوائح تُحدّد ارتفاع المباني وتُراعي هوية مكة، كما ظهرت مبادرات تهدف إلى الحفاظ على المباني التاريخية لمكة، وكما يشير سردار، فخلال تلك المرحلة، بدت مكة وكأنها تُحقّق توازنًا بين الحداثة والأصالة.
بحسب سردار، بدأت أولى مراحل تدمير تراث مكة في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكان شاهدًا على ما جرى، فقد أُزيلت بالجرافات أعداد هائلة من المباني التاريخية، وهُدمت أجزاء من مكة لتوسيع المسجد الحرام وإنشاء طرق ومساحات مفتوحة جديدة، وبعد إعادة البناء عام 1976، توسّعت مساحة المسجد من 2,9 إلى 19 هكتارًا، وشهدت الساحة الداخلية تغييرات جوهرية، شملت هدم أروقة المذاهب.
تبدّلت ملامح المناطق المُحيطة بالحرم تدريجيًا مع تشييد المباني الحديثة الشاهقة، ما أفقد مكة طابعها الإسلاميّ التقليديّ، وأضعف الجانب الروحي لتجربة الحجاج، وباتت المدينة أشبه بأيّ عاصمة معاصرة، يعمّها ضجيج السيارات والطائرات وتغمرها رائحة العوادم.
وفي مواجهة هذا المد العمرانيّ المتسارع، أسّس سامي عنقاوي معهد أبحاث الحج في محاولة لإنقاذ روح مكة، وانضمّ إليه ضياء الدين سردار لتوثيق تاريخ المدينة وبيئتها ورصد التحديات المرتبطة بالحج، وقد نبّه المعهد إلى أن التخطيط العمراني الحديث إن استمر على هذا النحو، سيشوّه هوية مكة، ويُقصي سكانها الأصليين، محوّلًا إياها إلى غابة خرسانية تفتقر إلى الروح والمعنى.
وفي عام 1982، ومع تولّي الملك فهد الحكم، بدأت التوسعة السعودية الثانية، التي شملت إنشاء بوابة الملك فهد وأربع عشرة بوابة إضافية، بالإضافة إلى قبتين ومئذنتين جديدتين، وبفضل هذه التوسعة، أصبح المسجد يتّسع لنحو 820 ألف مُصلٍّ في الأيام العادية، ومليون خلال موسم الحج، وعلى الرغم من التحسينات الكبيرة، بدا المسجد الحرام الجديد مختلفًا بشكل ملحوظ عن طابعه التاريخيّ القديم.
شعر سكان مكة الأصليون، الذين توارثوا العيش فيها عبر الأجيال، بقلقٍ إزاء ما يطرأ على مدينتهم من تحوّلاتٍ متسارعة، فقد أحسّ الشباب بالغربة في مواجهة التغيّرات التي طالت ملامح الحياة اليومية، بينما عبّر كبار السن عن حزنهم العميق لفقدان أحيائهم القديمة وتفكّك الروابط الاجتماعية التي كانت تجمعهم، من التقاليد المجتمعية إلى أنماط المعيشة والعمارة التي شكّلت هوية مكة على مرّ العصور.
يقول سردار إنه غادر عمله في معهد أبحاث الحج بعدما أدرك أن السلطات السعودية ماضية في تحويل مكة إلى ما يشبه ديزني لاند، ويُشير بأسى إلى أن نحو 95% من مباني مكة القديمة، التي يعود تاريخها إلى ألف عام وتضمّ أكثر من 400 موقع تاريخي، قد دُمّرت بالكامل. فقد وصلت الجرافات ليلًا، وهُجّرت عائلات عريقة من منازلها لإفساح المجال لإقامة مجمّع برج ساعة مكة الملكي عام 2012، فوق أنقاض التراث المكّي العريق.
وبحسب سردار، فإن تدمير تراث مكة وتنفيذ مشاريع عمرانية جائرة في أقدس بقاع الأرض جرى دون التشاور مع مسلمي العالم أو الاستعانة بآراء خبراء العمارة الإسلامية، ويذكر أنه سعى للحفاظ على هوية المدينة عبر إعداد خرائط لأحيائها القديمة واقتراح خطط تطوير حضريّ تُحافظ على طابعها التاريخي، لكنّ السلطات السعودية، المتأثرة بالوهابية وثروة النفط، رفضت تلك المبادرات، ولم تُظهر برأيه أيّ احترام لآثار الماضي.
يستغرب سردار ويتساءل: ماذا يفعل المسلمون أمام محو ماضيهم في مهد هويتهم؟ وما يقلقه بشدة هو ندرة الأصوات التي تجرؤ على انتقاد السياسات السعودية علنًا، ففي حين عبّرت دول مثل تركيا وإيران عن رفضها لتدمير المعالم التاريخية، لا تزال الغالبية العظمى من الدول الإسلامية تلتزم الصمت.
وبحسب سردار، تخشى العديد من الدول انتقاد السعودية بسبب ثروتها ونفوذها الكبير عبر منظمة المؤتمر الإسلامي، كما تتحكّم المملكة بنظام حصص صارم يُحدّد عدد الحجاج المسموح لهم بأداء الحج، ولا تتردد في استخدام هذه السلطة كوسيلة ضغط أو عقاب.
الروح الاستهلاكية
يرى سردار أن هناك مكة منسيّة تختبئ خلف ستار القدسية، ويُشير إلى أن مكة المعاصرة، باستثناء الكعبة، قد انفصلت عن ماضيها وبيئتها الأصلية، ويستشهد بوصف بعض الزائرين المعاصرين لها بأنها “بلا مأوى”، بينما قارنها آخرون بشوارع مدينة هيوستن الأمريكية، في إشارة إلى فقدانها للروحانية وتحوّلها إلى مدينة يغلب عليها الطابع المادي والدنيوي.
يجادل سردار بأن مكة مليئة بالتناقضات، حيث غمرت الروح الاستهلاكية المفرطة بيت الله الحرام، الذي من المفترض أن يرمز إلى المساواة، ويذهب إلى القول إن السلطات السعودية لم تقتصر على محو الطابع المعماريّ التاريخي لمكة، بل حوّلتها إلى مجمّع تجاريّ ضخم من الزجاج والفولاذ، وأصبح الحج، في رأيه، تابعًا لصناعة التجزئة، لا العكس.
كما يرى سردار أن مناسك الحج لم تسلم من موجة النزعة الاستهلاكية المتزايدة، فبين تنقّل الحجاج من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات ومزدلفة، لم تعد تجربة الخيام موحّدة كما كانت في السابق، إذ باتت شركات السياحة تخصّص خيامًا فسيحة ومكيّفة لزوارها، مع عروض توفّر مستويات أعلى من الراحة والرفاهية.
ويُضيف سردار أن هذه التحوّلات أفرغت الحج الحديث من معانيه الأصلية، إذ تحوّل التركيز من الروحانية والتجرّد إلى التنافس في الخدمات، من حيث جودة الإقامة ومستوى الرفاهية المقدّمة. فالحج، كما يصفه، أصبح مشروطًا بالباقات المختارة التي تتراوح من نجمة واحدة إلى سبع نجوم، مما يعكس تفاوتًا يتنافى مع مبدأ المساواة الذي يقوم عليه الحج.
يروي سردار أن المملكة تستهدف جذب الحجاج الأغنياء الذين ينفقون أموالهم في مراكز التسوق الفاخرة والمتاجر الراقية المنافسة لتلك الموجودة في نيويورك ولندن وباريس، وأنها، بالتعاون مع مستثمرين من القطاع الخاص، تعمل على تطوير خدمات الإقامة والتجزئة في مكة لزيادة أعداد “الحجاج المميزين”.
غياب التنوع الثقافي والديني
يرى سردار أن ما شهدته مكة من دمار تاريخيّ أحدث تحوّلًا جذريًّا في طبيعة المدينة، فرغم أن مكة لم تكن يومًا كمراكز الفكر الإسلامي الكبرى مثل بغداد أو دمشق أو القاهرة، فقد تميّزت بتعدّدها الديني واحتضانها لمختلف المذاهب والتيارات الفكرية، أما اليوم، فقد تلاشى هذا التنوّع، وتحوّلت المدينة إلى فضاء لا يعترف إلا بتفسير واحد للإسلام.
يرى سردار أن الحج اليوم تحوّل إلى رحلة سياحية منظّمة داخل نطاق الفنادق، حيث ينتقل الحجاج الميسورون بسياراتهم الخاصة، ونادرًا ما تتاح لهم فرصة لقاء أشخاص من ثقافات وبلدان متنوّعة، مما جعل الحج مجرّد أداء طقوس وسوق استهلاكيّ، وبحسب سردار، فقد فقد الحج المعاصر مكانته كمجال للنقاش أو التنوّع التي كانت تتميّز به هذه الفريضة في السابق.
يُعبّر سردار عن حزنه لغياب اللقاءات التي كانت تجمع بين الحجاج والعلماء، والتي كانت تُشكّل سابقًا منصة للنقاشات الفقهية والفكرية في جوّ مفتوح يعكس تنوّع العالم الإسلامي. ويُشير إلى أن السلطات السعودية تحظر أي نشاطات سياسية خلال موسم الحج. كما يُوجّه سردار انتقادات لاذعة للمؤسسة الدينية السعودية، معتبرًا أنها سيطرت على تجربة الحج وحوّلتها إلى مشهد يخضع لهيمنة السلطة بالكامل، مما أضعف جوهر الفريضة وقلّل من معانيها العميقة.
أضرار بيئية
في حجه الأول عام 1975، شعر سردار بخيبة أمل بسبب التباين بين توقّعاته الروحية والواقع المادي الذي واجهه، وبنهاية السبعينيات، تزايد قلقه من التبِعات البيئية لتوسعة مكة، إذ يرى أن مشاريع التطوير المستمرة تسبّبت في أضرار بيئية خطيرة، مثل تلوّث المياه، إضافةً إلى ارتفاع مستويات الملوّثات السامة في الهواء نتيجة عوادم السيارات.
يذكر سردار أن وسائل النقل في منى تُنتج 80 طنًا من الانبعاثات يوميًا خلال موسم الحج، ما يجعل الحجاج يعانون من استنشاق ضباب دُخاني ضار، وسط أضرار واضحة من الحرارة والإرهاق، ورغم تحذيراته، لم تُعتمد الحلول التي اقترحها هو وزملاؤه.
ومن اللافت أن مكة، رغم مظاهرها العمرانية الحديثة، تعاني – حسب سردار – من بنية تحتية مهترئة، حيث لا يزال نظام الصرف الصحي قديمًا، وتتسرّب المياه بالقرب من المسجد الحرام، وفي مقابر آل البيت وعلى أطراف المدينة، ما يُشكّل تناقضًا واضحًا مع مظاهر التحديث الظاهرة فوق السطح.
وفي الختام، ورغم كل ما وجّهه سردار من انتقادات، يؤكّد أن مكة ستظل حلمًا يراود كل مسلم، ومصدر إلهام لا ينضب، بغضّ النظر عن التحوّلات السياسية أو التغيرات التي تطرأ على ملامح مكة.