استيقظ العالم، فجر اليوم الجمعة، على حدث مفصلي ينذر ببداية مرحلة ملتهبة من الصراع في المنطقة، حيث شن الاحتلال الإسرائيلي هجومًا وصفه بـ”الاستباقي” على مواقع عسكرية ونووية في إيران، أسفر عن سقوط قادة عسكريين كبار وعلماء نوويين.
وفي تعليق لخص الهدف الرئيسي للهجوم، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “نحن موجودون في لحظة حاسمة، والهجوم يأتي لضرب البنية التحتية النووية لإيران”، مؤكدًا أن البرنامج النووي الإيراني خطر واضح ومباشر على بقاء إسرائيل.
كما أشار مسؤول عسكري إسرائيلي إلى أن الضربات استهدفت عناصر من البرنامج النووي الإيراني وقدرات النظام الصاروخية بعيدة المدى، لافتًا إلى أن طهران تعمل على برنامج سري لتجميع سلاح نووي، ولديها ما يكفي من المواد لتجميع 15 قنبلة نووية خلال أيام.
الهجوم الإسرائيلي الأكبر من نوعه على إيران استهدف قلب البنى التحتية النووية، ولا شك أن منشأة نطنز التي توصف بأنها “القطعة المركزية” في برنامج تخصيب اليورانيوم كانت من بين الأهداف الإسرائيلية، إذ أكد الإعلام الإيراني الرسمي أن “إسرائيل” استهدفت موقع أحمدي روشن لتخصيب اليورانيوم في منشأة نطنز بمحافظة أصفهان مرتين، وأنه لا تقارير إلى الآن عن وجود تلوث نووي.
بينما أفادت وسائل إعلام إسرائيلية أن الهجمات دمرت نطنز، أكدت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية تضررها بأجزاء مختلفة منها، مشددة على عدم وجود أي تسرب لتلوث إشعاعي أو كيميائي خارج المنشأة.
كما أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن نطنز كانت من بين الأهداف التي استهدفتها الهجمات الإسرائيلية، وقال مديرها العام رافائيل غروسي إن الوكالة تراقب عن كثب “الوضع المقلق للغاية في إيران”، وتتواصل مع السلطات الإيرانية بشأن مستويات الإشعاع، كما تتواصل مع مفتشي الوكالة في البلاد.
لم يكن الهجوم على منشأة نطنز النووية الأول من نوعه، بل جاء حلقة في سلسلة طويلة من المواجهات التي جعلت من هذا الموقع أحد أكثر الأهداف حساسية في إيران، فعلى مدى عقدين، تحولت نطنز إلى خط تماس دائم بين طهران وخصومها، كونها تمثل العصب الرئيسي لطموحات إيران النووية. فماذا نعرف عن هذه المنشأة؟ وما الذي يجعلها بهذه الأهمية؟
محصّنة في عمق الصحراء
تقع منشأة نطنز النووية شمال شرق محافظة أصفهان وسط إيران، بالقرب من مدينة كاشان، وتبعد نحو 220 كلم جنوب شرق طهران على هضبة وسط الصحراء، وترتفع نحو 1666 مترًا فوق سطح البحر، محمية بجبال مثل سلسلة “كوه إي كولانج غزا”، ما يجعلها بمثابة قلعة تحت الحماية الطبيعية.
وقد بُنيت المنشأة تحت الأرض بعمق يتراوح بين 40 و50 مترًا، ومحاطة بجدران خرسانية سميكة بسمك نحو 7.6 متر بهدف حمايتها من أي هجوم جوي.
تمتد المنشأة إلى جانب طريق رئيسي يربط بين أصفهان وكاشان، مما يسهل نقل المعدات والمواد، ويُستخدم أقرب مطارين مدنيين أو عسكريين في أصفهان وكاشان للوصول إليها.
تضم المنشأة كلاً من محطة تخصيب الوقود التجارية (FEP) ومحطة تخصيب الوقود التجريبية (PFEP)، وتتكون من ثلاثة مبانٍ تحت الأرض محصنة بشكل كبير، اثنان منها مصممان لاستيعاب 50 ألف جهاز طرد مركزي، بالإضافة إلى ستة مبانٍ فوق الأرض، كما يضم اثنان من هذه المباني قاعات بطول 2500 متر تستخدم لتجميع أجهزة الطرد المركزي الغازية.
بوابة إيران إلى العتبة النووية
تُوصَف منشأة نطنز بأنها “قلب البرنامج النووي الإيراني”، نظرًا لأنها المقر الرئيسي الذي أنتجت فيه طهران الغالبية العظمى من وقودها النووي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وفيها تحديدًا رفعت إيران مستوى التخصيب إلى 60%، وهو ما يضعها عمليًا على عتبة القدرة على إنتاج أسلحة نووية.
كُشف عن نطنز لأول مرة عام 2002، وبدأت إيران رسميًا تخصيب اليورانيوم فيه عام 2010، وكانت تعتمد في ذلك أساسًا على أجهزة من الجيل الأول IR-1 بموجب الاتفاق النووي. ومع تصاعد التوترات، ركّزت طهران على تركيب أجهزة طرد مركزي متطورة مما يرفع قدرة التخصيب وكفاءته.
وكشف تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه منذ أبريل/نيسان 2021 ركّبت إيران عدة سلاسل من أجهزة IR-2m وأجهزة IR-4، يصل مجموعها إلى أكثر من ألف جهاز.
تحوي المنشأة أكثر من 50 ألف جهاز طرد مركزي، موزعة في مبانٍ تحت الأرض تم حفرها خصيصًا وتخضع لحماية عالية، وتعمل فيها مجموعات متعددة من أجهزة الطرد المركزي، تُعرف بـ”سلاسل التخصيب”، التي تعمل معًا لتسريع عملية تخصيب اليورانيوم.
وتُعتبر القوى الكبرى منشأة نطنز مؤشرًا رئيسيًا لقدرات إيران النووية ومصدر قلق دائم، ويؤكد الصحفي ورئيس تحرير صحيفة يورو تايمز، علي الجابري، على ذلك بقوله: “إنها تعدّ محور الصراع الإيراني مع إسرائيل والغرب، حيث يرى الغرب أن تطوير منشآت مثل نطنز يُقرب إيران من العتبة النووية، أي القدرة على إنتاج سلاح نووي في وقت قصير، فيما تعتبر إسرائيل نطنز تهديدًا وجوديًا وتدرجه في أولويات أي ضربة استباقية”.
وتمثل ورقة مساومة دبلوماسية، إذ يُدرج نشاط نطنز في كل مفاوضات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فيما تستخدمها إيران كورقة ضغط، ملوّحة بتوسيع تخصيب اليورانيوم في نطنز كلما تعثرت المفاوضات النووية.
تاريخ من الهجمات
فيروس “ستوكسنت” الإلكتروني (2009–2010)
تعرضت المنشأة لهجوم سيبراني باستخدام فيروس “ستوكسنت”، استهدف أنظمة الكمبيوتر التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزي، مما أدى إلى تعطل الأجهزة، فيما اتهمت إيران، الولايات المتحدة و”إسرائيل” بالوقوف خلف هذا الهجوم.
ووفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أوقفت إيران، بين نهاية عام 2009 ومطلع عام 2010، تشغيل واستبدال ما يقرب من 1000 جهاز طرد مركزي في نطنز بسبب الأضرار الناجمة عن فيروس ستوكسنت.
واضطرت إيران إلى تعليق أنشطة التخصيب مؤقتًا في محطة إثراء الوقود، وتشير التقديرات بأن الهجوم الإلكتروني أخّر التطوير النووي الإيراني لمدة تتراوح بين 18 شهرًا وعامين.
انفجار يوليو (2020)
وقع انفجار كبير في مبنى مركز مونتاج أجهزة الطرد المركز ضمن منشأة نطنز، وتسبب بحريق كبير، لكن لم ينجم عن الانفجار أي إصابات بشرية أو تسرّب إشعاعي، مع ذلك اعترفت إيران بأضرار جسيمة لحقت بالمنشأة، بينما توقع خبراء أن الانفجار أدى إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني لمدة تتراوح بين عام وعامين.
وربط مسؤولون إيرانيون في حينه الحريق باستهداف العالم النووي محسن فخري زاده، معتبرين أن الحادثين يأتيان ضمن سلسلة من الحملات التخريبية، كما أشارت تقارير صحفية إلى تورط الاستخبارات الإسرائيلية في التفجير إلكترونيًا، رغم إعلان مجموعة تسمى بـ”فهود الوطن” مسؤوليتها عن الهجوم.
هجوم أبريل (2021)
تعرضت نطنز لهجوم إلكتروني استهدف شبكة الكهرباء الداخلية في المنشأة، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي، ورجحت مصادر استخباراتية أمريكية استخباراتية أميركية أن الهجوم الإلكتروني سيؤخر البرنامج النووي لطهران تسعة أشهر، لأنه استهدف مركز الطاقة المحمي بشكل مستقل لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي تنتج اليورانيوم المخصب، وبينما لم تتبنَ “إسرائيل” الهجوم رسميًا، أفادت مصادر أمنية لوسائل إعلام إسرائيلية أن جهاز الموساد نفذ هجومًا إلكترونيًا ناجحًا.
في كل مرة تتعرض فيها المنشأة لاستهداف، تسارع إيران إلى أعمال الترميم، مُصرّة على مواصلة السعي لتحقيق طموحها النووي. ومع كل جولة تصعيد أو مفاوضات، تعود نطنز إلى واجهة المشهد كأحد أهم الرموز في معادلة الشد والجذب بين طهران وخصومها، على اعتبارها ورقة استراتيجية تُدار بها لعبة التوازنات الإقليمية والدولية، وترتبط بها حسابات الحرب والسلام في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.