تحضُر إيران كثيرًا في الخطاب الإسرائيلي العام، وفي الهاجس الشخصي لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الذي يرى في وجود أي قوة نووية في المنطقة، باستثناء كيانه، خطرًا وجوديًا، ومع طوفان الأقصى ازداد حضور هذا الهاجس وتعميمه بالتزامن مع تصريحات متواترة عن استعداد إسرائيلي لتوجيه ضربة موجعة.
وهو ما كان، صبيحة الثالث عشر من يونيو/حزيران، حين وجّهت “إسرائيل” ضربة استباقية لعدد من المواقع والمنشآت النووية الإيرانية، بالإضافة إلى سلسلة اغتيالات مركزة طالت صفوفًا أولى في المنظومة العسكرية والعلمية النووية، ما أعاد إلى الواجهة التساؤل عن حجم المنشآت النووية الإيرانية، وإمكانياتها الإنتاجية والدفاعية، وحظوظ نجاتها من الضربة الإسرائيلية.
ضربات الاحتلال تطال مواقع استراتيجية في #إيران، بينها منشآت تخصيب يورانيوم وصواريخ، وقواعد عسكرية في أصفهان وتبريز وكرمنشاه. pic.twitter.com/rByT0me8vp
— نون بوست (@NoonPost) June 13, 2025
مواقع وأدوار
تفاخرت المواقع الإعلامية الإسرائيلية باستهداف مفاعل نطنز، فيما اعتُبر خنجرًا في قلب الطموحات النووية الإيرانية، حيث ارتج الموقع بما لا يقل عن عشرة انفجارات بين الساعة 4:18 فجرًا و5:56 صباحًا، بينما تضاربت الأنباء حول حدوث تسربٍ نووي من عدمه.
لم تقتصر الضربة الإسرائيلية على نطنز، بل شملت عدة مواقع صاروخية، بينما أعلنت حكومة الاحتلال أن الهجمات ستتوالى ولن تتوقف، ما يضع قرابة 12 إلى 17 منشأة نووية وعسكرية إيرانية تحت عدسة الإعلام ووطأة ضربةٍ محتملة قادمة.
تتوزع المنشآت على مساحة مليون ونصف المليون كيلومتر مربع، بين وسط وجنوب وغرب إيران، وبعيدًا عن مناطق النزاع المباشر والحدود المتوترة، وتختلف مهامها بين منشآت رئيسية وأخرى عسكرية ومراكز أبحاث، فالمنشآت النووية الخمس الرئيسية: نطنز، فوردو، أراك، أصفهان، وبوشهر، تتوزع بين نطنز وأصفهان في الوسط، على بعد 250 كم جنوب طهران.
في منشأة نطنز يتم تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة طرد مركزي متطورة، وفيها قسمان، أحدهما فوق الأرض والآخر تحتها، وقد تعرضت لعدة هجمات سيبرانية وفيزيائية، كان آخرها تفجير داخلي عام 2020، قبل الضربة الإسرائيلية الأخيرة.
أما في منشأة أصفهان وسط إيران، فيتم تحويل خام اليورانيوم إلى غاز اللازم للتخصيب، وتضم مرافق بحثية نووية ومفاعلًا صغيرًا للأبحاث، بينما تقع فوردو داخل جبل جنوب طهران، وتقوم بعمليات تخصيب محمية في عمقٍ صخري يتجاوز 90 مترًا، وهي مخصصة لتخصيب اليورانيوم عالي النقاوة، وتُعد من أكثر المنشآت تحصينًا في إيران.
هناك أيضًا منشأة أراك الواقعة غرب إيران، حيث يتم إنتاج الماء الثقيل والبلوتونيوم، وكان الاتفاق النووي الموقع عام 2015 ينص على تحديد إنتاج البلوتونيوم فيها بما لا يؤدي إلى استخدامه عسكريًا أو الاستثمار فيه في الأسلحة النووية.
وفي محافظة بوشهر على ساحل الخليج العربي، تقع منشأة بوشهر، حيث يتم إنتاج الكهرباء والطاقة النووية المدنية بمساعدة روسية، وهي أكثر منشأة تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث لا يتم إنتاج أي مكونات عسكرية، كما أن الوقود النووي الفاعل فيها مستورد من روسيا ويُعاد إليها.
المواقع العسكرية الحساسة
أما المنشآت العسكرية، أو تلك التي تُثار حولها شبهات الاستخدام النووي العسكري، فهي بارشين وكاراج ولشكر أباد ومريوان وسجنر، وأخرى قرب قم في شمال وسط البلاد.
تقع بارشين جنوب شرق العاصمة، داخل مجمع عسكري محظور على المدنيين، ويُعتقد أنها تُستخدم لتنفيذ تجارب تفجيرية غير تقليدية مرتبطة بالأسلحة النووية، وكانت قد تعرضت لتفجير غامض عام 2020.
أما كاراج، فتقع في محافظة البرز غرب طهران، على مسافة 40 كم من العاصمة، وتقوم بمهمة إنتاج وتجميع أجهزة الطرد المركزي، وهي أجهزة هامة في عملية التخصيب النووي، وقد استُهدفت أيضًا في هجوم بطائرة مسيّرة عام 2021.
بينما تقع منشأة لَشكر آباد شمال غربي طهران، قرب بلدة شهريار، في إطار حيوي جامع لمجمعات أمنية وصناعية، وتتم في مبانيها ومرافقها مهمة فصل النظائر النووية باستخدام الليزر، حيث اعتبرتها وكالة الطاقة الذرية في تقاريرها جزءًا من منظومة التسليح النووي الإيراني.
وفي جنوب إيران، وبالقرب من مدينة آباده في محافظة فارس، تقع منشأة مريوان، حيث يتم إخضاع المكونات النووية لاختبارات عسكرية، وقد اكتشف مفتشو وكالة الطاقة آثار يورانيوم طبيعي فيها، لم تقدم إيران تفسيرًا كافيًا لأسباب وجوده.
ومن محافظة يزد وسط إيران، التي تتميز بالمناخ الصحراوي وبُعدها عن المظاهر الحضرية والمدنية، يقع منجم سجند، وهو منجم يورانيوم يتم فيه استخراج الوقود النووي قبل تخصيبه. أما في قم جنوب طهران فهناك مرافق لوجستية لدعم منشأة فوردو، تقوم على تخزين ونقل ودعم العمل الأساسي على المواد النووية، وهي تخضع لحماية استثنائية عادة.
ومعظم هذه المنشآت لديها مواقع فرعية ومخازن، وملحقة بمختبرات جامعية ومصانع وقود، وتتفاوت في الحجم والوظيفة والأهمية، ولا تكون دائمًا مستقلة أو عسكرية الهدف.
التحصين والدفاع
الأهمية الكُبرى للمنشآت النووية ازدادت في خضم المحادثات واتفاق 2015، وما رافقه من انسحاب دونالد ترامب منه في ولايته الأولى 2019، وما لاحقه من طوفان الأقصى التي شهدت خطابًا “اسرائيليًا” متصاعدًا لأهمية استهدافها ووقف تخصيب اليورانيوم فيها، وهو ما استلزم تقنيات تحصين ودفاع استثنائية لحمايتها.
حيث تعد منشأة فوردو مثالًا نموذجًا على الاستفادة من البيئة التضاريسية لتأمين الإنتاج النووي، فالمعامل مبنية في عمق جبلٍ صخري، يصعب استهداف عمقه حتى باستخدام صواريخ ثقيلة، ويحتاج لاستراتيجية هجوم جوي وصاروخي معقد لتفجيره، وهو ما دفع الإعلام “الإسرائيلي” للتأكيد في وقتٍ مبكر على أن الضربة استثنت المنشأة الجبلية، نتيجة غياب السلاح المناسب لاختراقها.
هذا النموذج دفع إيران لبناء منشآت جديدة داخل البيئة الجبلية الحاضنة، فأطلقت منشأة نطنز الثانية، التي كانت عمليات البناء فيها تتم على عمق 90 مترًا تحت الأرض.
يتزاوج ذلك مع حماية الكترونية من الهجمات السيبرانية، طُورت بُعيد 2021 بعد اختراقات فيروس Stuxnet الذي أصاب أجهزة الطرد المركزي، كما ترافقت الحماية الالكترونية مع تغيير أنظمة التشغيل واستخدام أنظمة غير متصلة بالإنترنت air-gapped systems.
وخلال الأشهر الأخيرة نشرت إيران أنظمة دفاع جوي مثل S-300 الروسية، حول المواقع النووية، وأرفقتها بأنظمة حماية محلية مثل 373، بالإضافة إلى جملة طائرات مسيرة خاصة بالمراقبة.
وعلى خلاف معظم المنشآت النووية فإن كُلا من إيران وأعدائها (أمريكا وإسرائيل) يولون أهمية خاصة لمنشأتين محددتين في مراقبة وتتبع النشاط النووي الإيراني، هما نطنز وفوردو، ويتم اعتبارهما بؤرتا الصراع النووي وروح المشروع النووي الإيراني.
فنطنر تحتوي على العدد الأكبر من أجهزة الطرد المركزي، ويُسابق من خلال عُلمائه لزيادة انتاج اليورانيوم المخصب ما يؤهله لتجاوز العتبة النووي، ويمنحه مرونة الانتقال من البرنامج السلمي إلى البرنامج العسكري النووي، كما أنها المنشأة الأكبر والأكثر تطويرًا، ولذا كانت نقطة استهدافٍ متكرر من قبل “إسرائيل”، فيزيائيًا وسيبرانيًا.
أما فوردو، فالعمق الذي تتميز به المنشأة يجعلها غير قابلة للانكشاف تمامًا عسكريًا أو جويًا، ويتيح لها تخزين اليورانيوم بمستويات صعب رصدها، كما يعيق من وصولية مفتشي الوكالة الذرية لجميع مرافقها.
المنشآت النووية الإيرانية تحت وطأة الضربة
هذا التوسع الإيراني في البنى التحتية النووية وأساليب التحصين والدفاع، أخضع واقع المنشآت النووية لتساؤل سريع بعد سويعات من الضربة الإسرائيلية حول مستقبل المشروع النووي الإيراني، وحجم الأضرار التي أصابته، وتأثيرها على حيازة إيران له بسيكولوجية تتجاوز الثروة إلى الكرامة، وتجعل استمراره مرتبطًا باستمرار إيران نفسها.
لكن الغبار الجزئي الذي انقشع عن الضربة، التي لم تتوقف تمامًا بعد، لفت النظر إلى عدة متغيرات؛ فالتأثير الأكبر الذي طال المشروع النووي الإيراني لم يكن لوجستيًا بقدر ما كان بشريًا، نتيجة استهداف واغتيال ما لا يقل عن 5 علماء نوويين إيرانيين، إضافة لأكثر من 25 قائدًا عسكريًا على صلة مباشرة بدعم الطاقة النووية واستخداماتها العسكرية.
وربما يمكن تفسير التوجه الإسرائيلي نحو الأهداف البشرية بدلًا من البنى التحتية، إلى الطبيعة المحصنة للأخيرة، التي تجعل وقفها عبر الهجوم العسكري صعبًا ومكلفًا وغير مؤكد النتائج، وهو ما ظهر في استهداف منشأة نطنز التي، ورغم تصاعد دخان الحرائق منها، إلا أن عدم وجود تسرب نووي يؤكد حصانة المكونات النووية، كما أن استهداف المنشأة الجديدة قيد الإنشاء يوحي بصعوبة استهداف المنشآت القديمة.
ناهيك عن أن أداة الهجوم، التي يُرجح أنها “الطائرات المسيّرة فقط”، تجعل من حجم الأضرار محدودًا، رغم أن تعددها ما بين استهداف منشآت ومراكز إنتاج واغتيالات في صفوف العلماء يفاقم أثرها دون أن يجعله قاتلًا، ويكفي أن غياب فوردو عن الاستهداف إشارة لمحدودية الوصول الإسرائيلي.
هل انتهى البرنامج النووي الإيراني؟
ذلك مستبعد حاليًا، ومحاولات إنهائه بحاجة إلى سلاح أمريكي خارق للتحصينات وتدخل عسكري أمريكي من القواعد المتاخمة لإيران، وإلى بنية سياسية مختلفة في إيران عن البنية الحالية، قد تلتزم بسلميته دون إنهائه تمامًا، لكن الضربة ستؤثر عليه ولا شك.
بالرغم من ذلك، تبقى الضربة الإسرائيلية قابلة للتعاظم وأثرها مرشحًا للامتداد، لا سيما مع خطاب يتجاوز اعتبارها تكتيكًا مرحليًا إلى حرب مخطط لها، لتغدو رسالة استراتيجية متعددة الطبقات، تهدف إلى إخضاع وتحذير واختبار حلفائها وأعدائها ومحيطها، قدراتهم العسكرية وخطواتهم السياسية، ومواقفهم الحقيقية.
بالمحصلة، لن يتوقف مشروع البرنامج النووي الإيراني بعبوة ناسفة أو طائرة مسيرة أو باغتيال معظم علمائه. ربما يتزايد طرديًا كخطوة انتقامية، وربما ينحصر في الحدود السلمية، وفي الحالتين، من المبكر جدًا الحكم على مستقبله، حتى تنتهي الضربة الإسرائيلية على الأقل، وتظهر ملامح وحدود الرد الإيراني عليها.