على غير ما كان يتوقعه جل الخبراء العسكريين، شنت “إسرائيل” فجر اليوم الجمعة سلسلة ضربات جوية على المنشآت النووية الإيرانية والقواعد العسكرية، مع اغتيال العديد من القادة العسكريين في الحرس الثوري والجيش الإيراني.
تأتي هذه الضربات بعد شد وجذب كبيرين بين إيران والولايات المتحدة، فيما توعّدت “إسرائيل” باستمرار ضرباتها على إيران، في تحرك يبدو أن تل أبيب حققت من خلاله سيادة جوية وعملياتية بعد أن تمكنت من اغتيال نحو 20 من القادة العسكريين الكبار في الضربة الأولى، وذلك وفق ما أكدته وكالة رويترز ظهر اليوم الجمعة.
وكانت نذر الحرب على إيران قد بدأت الأربعاء الماضي، بعد أن أعلنت واشنطن عن إجلاء موظفيها غير الأساسيين وعائلاتهم من سفارتها ببغداد بسبب مخاطر أمنية، وفق ما أكدته وزارة الخارجية الأميركية، حيث شمل التحرك الأميركي السفارة والقنصلية التي تتخذ من مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان مقرًا لها.
وبعد ساعات على الإعلان عن هذا التحرك، جاء تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية الذي أكد أن عملية إجلاء الأميركيين من العراق ليست طوعية، وإنما مغادرة إلزامية بأوامر رسمية، في الوقت الذي أكد فيه المتحدث باسم سفارة واشنطن ببغداد أن أوامر المغادرة فورية وأن أسبابها تأتي في خضم تصاعد التوتر الإقليمي.
الحرب مستمرة
تشهد منطقة الشرق الأوسط تسارعًا محمومًا فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، لا سيما بعد الضربات الجوية الإسرائيلية على إيران وإعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم التزام طهران ببنود الضمانات النووية، في الوقت الذي صعّدت فيه إيران كذلك من وتيرة نديّتها للوكالة وواشنطن معًا، وأعلنت قرب البدء بتنفيذ موقع نووي جديد على أراضيها.
وأكدت وسائل إعلام إيرانية مقتل ما لا يقل عن 100 إيراني حتى اللحظة، إضافة إلى تدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية العسكرية لإيران، خاصة تدمير مطار تبريز واستهداف عدد من المنشآت النووية، سيما منشأة نطنز التي تُعد قلب المشروع النووي الإيراني، إضافة إلى منشآت فوردو وخنداب وأصفهان.
في السياق، يشير الباحث الأمني حسن العبيدي إلى أن ما حدث في إيران يعد انهيارًا شاملًا لمنظومات القيادة والسيطرة الجوية والدفاعية والاستراتيجية، مبينًا أن القيادة الإيرانية لم تتمكن حتى من حماية القيادات العسكرية الرفيعة للدولة الذين اغتيلوا خلال نومهم في منازلهم، وهو ما يؤشر إلى اختراق مخابراتي واسع النطاق في إيران، بما يعيد للأذهان ما حدث مع حزب الله في لبنان قبل نحو 9 أشهر.
من جهته، قال الخبير العسكري اللواء فايز الدويري إن “إسرائيل” والولايات المتحدة نفذتا “خداعًا إستراتيجيًا” ضد إيران من حيث التوقيت، معربًا عن قناعته بأن الرد الإيراني يجب أن يكون “مركبًا، وإلا ستكون نتائجه ضعيفة”، وفق تعبيره.
وأضاف الدويري في حديث تلفزيوني أن الخداع الاستراتيجي يتمثل بالتوقيت، حيث كان من المتوقع أن تتم الضربة الإسرائيلية بعد جولة المفاوضات المقبلة التي كان من المقرر عقدها الأحد المقبل في العاصمة العمانية مسقط.
وفيما يتعلق بالخسائر التي تكبدتها إيران، كشف الدويري أن هناك أهدافًا “يمكن تعويضها”، وأخرى “تحتاج إلى وقت لتقييمها”، وأهدافًا ثالثة “يصعب تعويضها”، لافتًا إلى أن قتل القادة العسكريين البارزين يندرج ضمن الأهداف التي يمكن تعويضها رغم تأثيرهم، إذ يوجد من يحل مكانهم في هذه المناصب العسكرية الحساسة.
أما الأضرار التي تحتاج إلى تقييم، فبحسب الدويري، تتمثل بمنظومة القيادة والسيطرة والقواعد الجوية ومنشأة نطنز النووية وأي أهداف عسكرية أخرى لمعرفة مدى وحجم الأضرار التي طالتها، فيما أكد أن الأهداف التي يصعب تعويضها تتمثل بعلماء الذرة، حيث تفيد الأنباء عن اغتيال ما بين 6 إلى 9 علماء ذرة في الهجوم الإسرائيلي، متسائلًا: “كيف تم اصطيادهم بهذه السهولة؟”.
كيف سيكون الرد؟
يبدو أن الرد الإيراني على الضربات الإسرائيلية لن يكون سهلا أو يسيرا، خاصة مع انتفاء عنصر المفاجأة ونقل “إسرائيل” جميع أساطيلها الجوية إلى الخارج، مع وجود 3 طبقات من أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي.
في هذا الشأن، يشير الدويري إلى أن إرسال طهران لـ 100 طائرة مسيّرة نحو إسرائيل لا يعد ردا مؤثرا وموازيا للضربة الإسرائيلية، مبينا أن هذه الطائرات تحتاج ساعات للوصول، ويمكن التعامل معها بداء من القبة الحديدية وصولا إلى منظومة “السهم آرو-3” والطائرات.
يختتم الدويري تعليقه بالإشارة إلى أن الرد الإيراني لا بد أن يكون مركبا وثلاثي الأبعاد، وإلا فإن نتائجه ستكون ضعيفة، وفق قوله، حيث يرى أن أي رد إيراني لا بد أن يكون ثلاثيا يمزج بين المسيّرات من أجل الإغراق الجوي، مع استخدام صواريخ باليستية تقليدية، إضافة إلى صواريخ فرط صوتية، وذلك وفق توقيتات معينة بحيث يكون وصولها متزامنا.
التصعيد في العراق
أكدت الأنباء استخدام “إسرائيل” للمجالين الجويين السوري والعراقي، فيما شهدت وسائل التواصل الاجتماعي فجر اليوم سيلًا من المنشورات التي تؤكد سماع دوي طائرات حربية، فيما أعلن العراق لاحقًا إغلاق المجال الجوي.
يقول الخبير الأمني حسن العبيدي إن إغلاق العراق للمجال الجوي يعد سياسيًا بالدرجة الأولى، مبينًا أن الولايات المتحدة هي المسيطرة فعليًا على الأجواء العراقية، فضلًا عن عدم امتلاك العراق لمنظومات رادار متطورة تغطي الأجواء العراقية، بما يعني أن الكيان لا يزال حرًا في استخدام الأجواء العراقية والسورية في ظل عدم امتلاك البلدين لأي منظومات متقدمة للرصد، وفق قوله.
في السياق، ورغم أن المصالح الأميركية منتشرة في جميع بلدان الشرق الأوسط ودول الخليج العربي، إلا أن التحرك الأميركي وسحب الموظفين لم يشمل إلا العراق مع سحب بعض الموظفين من البحرين والكويت كذلك، دون أن تشمل هذه الإجراءات السعودية أو الإمارات وقطر اللتين تضمان قاعدتي الظفرة والعديد الجويتين، وهو ما يثير العديد من التساؤلات.
ويشير الباحث الأمني حسن العبيدي إلى أن سبب التحركات الأميركية في العراق يأتي انطلاقًا من اختراق طهران للعراق أمنيًا مع وجود العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، فضلًا عن أن المصالح الأميركية في العراق سبق أن تعرضت للعديد من الضربات الصاروخية وعبر الطائرات المسيّرة كذلك.
ويتابع العبيدي في حديثه لـ “نون بوست” أن التحرك الأميركي الاستباقي يأتي تحسبًا لأي رد فعل من إيران أو أذرعها في العراق، والذي قد يشمل مهاجمة السفارة الأميركية أو قاعدة فيكتوريا بمطار بغداد الدولي، سواء بالصواريخ أو باختطاف موظفي السفارة في حال تطور الأحداث.
ويرى العديد من الخبراء أن التحركات الأميركية في العراق تشي بأن واشنطن لا تزال غير واثقة بالوضع السياسي في البلاد، ولا تثق بالحكومة العراقية، بما قد يشير إلى تطورات جذرية في الملف العراقي مستقبلًا، لا سيما أن إخلاء السفارة ببغداد يعطي انطباعًا سلبيًا عن الوضع الداخلي للبلاد، بما سيؤثر على القطاعات الاقتصادية والتصنيف الأمني للبلاد.
في غضون ذلك، يرى الدكتور إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الدولية والاستراتيجية بجامعة بغداد، أن إخلاء السفارة الأميركية في العراق يعد تحولًا خطيرًا وبداية لمرحلة تتسم بالتغيير الجذري، وفق ما نشره على موقعه الرسمي في منصة X.
ولعل التحرك الأميركي جاء تحسبًا لما قد يحدث بالفعل وفق ما أكده الخبراء، حيث أعلن الأمين العام لكتائب “سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي إرسال عشرات من أسماهم بـ”الاستشهاديين” لمهاجمة المصالح الأميركية في حال اندلعت الحرب ضد إيران.
وكتب الولائي، الذي يتزعم إحدى الفصائل الشيعية المؤثرة في المشهد العراقي، في تدوينة له انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي ما نصه: “إذا اندلعت الحرب، سيكون المئات من الاستشهاديين على الموعد، وسيُذل كبرياء أمريكا ثانيةً كما ذُل أول مرة في العراق حين خرجت تجر أذيال الخيبة”.
فيما علقت كتائب سيد الشهداء بعد الضربة التي استهدفت إيران بالقول إن “العدوان الإسرائيلي ليس موجهًا ضد إيران وحدها، بل يمتد ليشمل المنطقة بأكملها، وبالتالي فإن العراق لن يكون في مأمن إذا استمرت وتيرة التصعيد بهذا الشكل. العراق قد لا يبقى ساكنًا في حال تطورت المعطيات الميدانية والسياسية، إذ إن كل الحروب التي تُشن ضد الكيان الصهيوني تندرج في إطار الدفاع عن قضايا الأمة، والعراق جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة”.
ويحذر المراقبون من أي تدخل للفصائل العراقية في الحرب بين إيران و”إسرائيل”، وهو ما تعمل الحكومة العراقية على احتوائه فعليًا، حيث أغلقت القوات الأمنية العراقية المنطقة الخضراء المحصنة وسط بغداد، والتي تضم السفارة الأميركية، ولا تسمح القوات الأمنية بدخول المربع الأمني إلا لمن يحمل تصاريح أمنية خاصة.
بدوره، دعا رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر للنأي بالعراق عن الحرب بين “إسرائيل” وإيران، مبينًا بالقول: “من المهم أن تكون أرض العراق بعيدة عن تلك الحرب، فإن العراق وشعبه ليس بحاجة إلى حروب جديدة”، داعيًا إلى “كتم أصوات” من أسماهم “الأصوات الفردية الوقحة، والإصغاء إلى صوت الحكمة”، وفق ما نشره على حسابه في منصة إكس.
هي حرب بدأت فعليًا بين إيران و”إسرائيل”؛ حيث تحاول الأخيرة جر واشنطن إلى حرب شاملة ضد طهران، فيما تتوعد إيران برد حازم، وسط تحذيرات من جر العراق إلى أتون حرب لن يقوى اقتصاده ونظامه السياسي على تحملها.
وإذا كانت الساعات الأولى من التصعيد قد أظهرت حجم الأضرار في البنية التحتية العسكرية والنووية الإيرانية، فإن الأيام المقبلة مرشحة لكشف ملامح مرحلة جديدة تتجاوز الحسابات النووية الصرفة إلى مشهد إقليمي أكثر تعقيدًا، يحمل في طياته احتمالات توسع الحرب لتشمل ساحات متعددة، من العراق وسوريا إلى الخليج واليمن، مع ما يرافق ذلك من تداعيات أمنية واقتصادية عالمية.