ترجمة وتحرير نون بوست
طوال يوم الإثنين، تجمّع صحفيون ونشطاء ومتظاهرون يمينيون في جفعات يونا، وهي تلة مطلة على ميناء أسدود جنوب” إسرائيل”، ترقّبًا لوصول سفينة “مادلين”. لكن البحرية الإسرائيلية كانت قد أوقفت السفينة، التي تحمل على متنها 11 ناشطًا وصحفيًا وشحنة مساعدات إنسانية، في طريقها إلى غزة. حوالي الساعة الثالثة فجرًا، صعد ضباط إسرائيليون على متن السفينة وسيطروا عليها بشكل غير قانوني بينما كانت لا تزال في المياه الدولية.
وصلت إلى الميناء برفقة سفن البحرية بعد حوالي 20 ساعة فقط، ومع غروب الشمس كانت السفينة مرئية من الشاطئ. لكن يبدو أن البحرية قررت الانتظار حتى حلول الليل لإدخالها إلى الميناء، على الأرجح لمنع وسائل الإعلام المنتظرة على الشاطئ من توثيق الحدث وتغطيته.
بسبب انقطاع الاتصال بالسفينة في الصباح الباكر، باستثناء بعض مقاطع الفيديو التي صوّرها النشطاء قبل اعتقالهم وفيديو قصير نشره الجيش، لم يتبقَّ لوسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير لتغطيته، لذلك قررت التركيز على “حملة العلاقات العامة”، كما وصفها موقع “واي نت” واسع الانتشار.
على سبيل المثال، وصف مسؤول العلاقات العامة إيلون ليفي (الذي أقيل في آذار/ مارس الماضي من منصبه كمتحدث باسم الحكومة) صورة المجندة المقنعة في مواجهة غريتا ثونبرغ بأنها “أفضل صورة للحرب”، وأعلنت عناوين أخرى أن “إسرائيل انتصرت في معركة الرأي العام”.
ويمكن العثور على أحد هذه “الانتصارات” على القناة 12 حيث قال مقدم الأخبار عوديد بن عامي لأحد نشطاء الهاسبارا: “لقد تم تكريم الناشطة البيئية [ثونبرغ] من قبل أحد أفراد الكوماندوز الإسرائيلي “شايطيت 13″ بماء في زجاجة بلاستيكية وشطيرة. وقد حرصوا على أن تكون شطيرة بسطرمة – على الرغم من أنها مشهورة بأنها نباتية”.
وفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن تسليم ساندويتش غير نباتي ملفوف في بلاستيك “غير قابل للتحلل” إلى ناشط بيئي نباتي يعتبر نجاحًا في العلاقات العامة. لا يسع المرء إلا أن يتخيل رد الفعل في “إسرائيل” إذا تباهت وسائل الإعلام الرئيسية في أوروبا أو الولايات المتحدة بتسليم معتقل يهودي متدين شطيرة لحم خنزير.
لم يكتفِ بن عامي بسخريته المتعلقة بالشطيرة بل أشار لاحقًا بتهكّم إلى أن ثونبرغ ستضطر إلى القيام برحلات جوية ملوثة للبيئة أثناء ترحيلها من “إسرائيل”، وهو أمر تتجنبه بشكل عام. كما أن وزارة الخارجية استغلت الفرصة ونشرت صورة لثونبرغ على متن طائرة تابعة لشركة طيران العال، والتي نشرها البرنامج التلفزيوني الإسرائيلي الشهير “حزانور” مع تعليق “غريتا تشارك في تدمير البيئة بطائرة ملوثة للبيئة في طريق عودتها إلى الوطن. هل نتمنى لها رحلة سعيدة؟”.
الاستهزاء كاستراتيجية
استنادًا إلى ردود فعل مثل تلك المذكورة أعلاه، سرعان ما يتضح أن تعامل “إسرائيل” مع قضية “مادلين” يوضّح الكثير عن حالة الدولة بشكل عام وعن دبلوماسيتها العامة (أو الهاسبارا، أي الجهد الدعائي الذي ترعاه الدولة) بشكل خاص، أكثر مما يكشف عن الأسطول الرمزي نفسه.
تجري “عملية العلاقات العامة” برمتها – من منع وصول السفينة إلى غزة مرورًا باحتجازها في المياه الدولية ووصولًا إلى طقوس الإذلال المتنوعة التي تستهدف النشطاء – في ظلّ استمرار الإعلام الإسرائيلي في تجنّب تغطية ما تفعله إسرائيل بغزّة وسكانها.
بل إن وسائل الإعلام المحليّة تختار حتى الآن السخرية من المهمة بأوصاف ساخرة مثل “يخت السيلفي” أو “أسطول المشاهير”، بدلًا من الاستجابة لمطالب منظمي الأسطول برفع الحصار والسماح بدخول المساعدات دون عوائق إلى القطاع.
يحدث كل هذا في الوقت الذي يتزايد فيه عدد المناصرين حول العالم، وبشكل متزايد داخل” إسرائيل“، لإنهاء تجويع “إسرائيل” لسكان غزة فضلًا عن القصف والتدمير الممنهج والقتل العشوائي للمدنيين. لذا، ليس من المستغرب أن يلجأ الخطاب الإسرائيلي الرسمي فقط إلى التصيد والتحايل ومحاولات السخرية من هذه المجموعة الصغيرة من النشطاء السلميين.
وقد انتقل هذا النهج من الحكومة ووسائل الإعلام إلى مُحرِّضي اليمين الذين توافدوا إلى ميناء أسدود للاحتفال بهذا “الإنجاز” بالرقص رافعين الأعلام الإسرائيلية وتعطيل بثّ نشرات الأخبار العربية، كما ألهم هذا التوجه صفحات التواصل الاجتماعي في مدن إسرائيلية مختلفة ساخرةً من صورة غريتا من خلال استبدال الشطيرة التي قدّمتها لها مجندة إسرائيلية بصور طبق مدينتهم المميز.
إن هذا الاستهزاء الانفعالي والسخرية العفوية يُبرزان الفجوة المتزايدة بين الواقع الذي نراه يوميًا في جميع أنحاء العالم، وما يُذاع للجمهور الإسرائيلي ألا وهو أن “كل شيء على ما يرام، ولا توجد إبادة جماعية، وقد أعطينا غريتا شطيرة”.
غض الطرف عن الحقيقة
لم ينتهِ الهوس عند هذا الحد، فقبل وصول مادلين إلى “إسرائيل” صرّح وزير الدفاع إسرائيل كاتس بأنه أمر بعرض “فيلم الرعب” على النشطاء، وهو مقطع فيديو دعائي من إنتاج “إسرائيل” يُظهر هجوم مسلحي حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ووفقًا لتقرير في صحيفة هآرتس، أراد كاتس تركيب كاميرات في الغرفة لتسجيل النشطاء وهم يشاهدون الفيلم، لكن وزارة الخارجية عارضت ذلك، ووصل الأمر إلى مكتب رئيس الوزراء لاتخاذ قرار، وفي النهاية تقرر عدم وضع كاميرات في الغرفة.
في النهاية، لم يُجبر النشطاء على مشاهدة الفيلم. مع ذلك، كتب كاتس لاحقًا: “أُدخلت غريتا وزملاؤها في الأسطول إلى غرفة عند وصولهم لمشاهدة فيلم الرعب لمجزرة 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وعندما رأوا ما حدث، رفضوا الاستمرار في المشاهدة”، مضيفًا، دون أدنى إدراك، أنهم “غضوا الطرف عن الحقيقة”.
كما أشارت أورلي نوي من +972 في منشور على فيسبوك، فإن محاولة إجبار النشطاء على مشاهدة الفيلم تُشير إلى “التحول الغريب لهذا الفيلم من أداة دعائية إلى أداة عقاب”. لم يُعرض الفيديو، الذي عُرض على دبلوماسيين وصحفيين وأكاديميين أجانب، للجمهور الإسرائيلي ويعود ذلك جزئيًا إلى مخاوف من احتمال حدوث ضرر نفسي.
وتحويل عرضه إلى “عقاب” هو تطور طبيعي في النهج الإسرائيلي، الذي تعامل مع أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر في المقام الأول كأداة لإسكات وتهميش وقمع الانتقادات الموجهة إلى الفظائع التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة والمطالبة بإنهاء الحرب، حتى عندما تأتي مثل هذه الانتقادات من عائلات الضحايا أو الرهائن.
إن مثل هذا السلوك ليس حالة شاذة ولا هو فورة غضب لمرة واحدة من قبل وزير دفاع معتوه ، بل هذا ما يعتبر سلوكًا عاديًا ورسميًا في “إسرائيل” هذه الأيام. من خلال إجبارهم – أو على الأقل تهديدهم – على مشاهدة الفيلم تعرض نشطاء الأسطول لنفس المعاملة التي تعرض لها الأسرى الفلسطينيون الذين أجبروا على مشاهدة مشاهد الدمار في غزة، أو المعتقلين الذين تم تصويرهم رغماً عنهم بطرق مهينة.
غضب العديد من الصحفيين الإسرائيليين من الفيديو الذي صورته ثونبرغ قبل اعتقالها ونُشر بعد استيلاء الجيش على السفينة، وقالت فيه إنها ورفاقها قد “اختطفوا” من قبل الجيش. من الناحية القانونية، بما أن المجموعة تم اعتقالها في المياه الدولية، فإن هذا بالفعل “احتجاز غير قانوني”، كما أوضحت المحامية هديل أبو صلاح من مركز عدالة التي كانت ضمن الفريق القانوني الذي يمثل المحتجزين.
مرّة أخرى، نرى منطق الاحتلال “يتسرّب” – تمامًا كما هو الحال مع الأسرى الفلسطينيين الذين يُحتجز الكثير منهم تحت الاعتقال الإداريّ دون محاكمة، تجد “إسرائيل” صعوبة في استيعاب أنه لا يمكنها اختطاف الناس أينما شاءت.
إلى جانب انتصار العلاقات العامة قصير المدى الذي احتفل به عوديد بن عامي وأمثاله، وجدت ناشطة الدعاية الإسرائيلية مايا بنتويتش سببًا آخر لشعور الإسرائيليين بالارتياح حيث قالت: “نحن محظوظون بعض الشيء، فهناك الكثير من الأحداث الجارية في العالم”، في إشارة ضمنية إلى أنها قد تصرف الانتباه عن أسطول غزة.
لكنها لم تذكر الأمر الوحيد الذي سيمنع المجتمع الدولي من مضايقة إسرائيل بشأن الفظائع التي ترتكبها في غزة. الأمر الوحيد الذي لا تزال وسائل الإعلام، رغم استطلاعات الرأي والاحتجاجات في الشوارع، عاجزة عن تصوره: ألا وهو إنهاء الحرب.
المصدر: +972