في وقت مبكر من صباح الجمعة، شنت إسرائيل ضربات جوية غير مبررة في عمق الأراضي الإيرانية، مستهدفة مواقع قرب أصفهان وطهران. وبحسب التقارير، كان من بين القتلى علماء ومسؤولون حكوميون كبار ومدنيون، بينهم نساء وأطفال.
ومع ذلك، وفي غضون ساعات، صوّر قادة غربيون ووسائل إعلام غربية العدوان الإسرائيلي على أنه “دفاع استباقي” عن النفس. وزعم مسؤولون أمريكيون أن إسرائيل تصرفت لإحباط “تهديد إيراني وشيك”، بينما أصرّ زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، جون ثيون، على أن الضربات كانت ضرورية لمواجهة “العدوان الإيراني” وحماية الأمريكيين.
وعلى الرغم من عدوانها المتواصل في مختلف أنحاء المنطقة، لا تزال صورة إسرائيل العنيفة والعدوانية تُقدَّم في الغرب كضحية لضحاياها، وهي رواية سادت منذ ما قبل تأسيس الكيان الاستيطاني الاستعماري سنة 1948.
كلما زادت إسرائيل من احتلال الأراضي وقمع الشعوب، ازداد إصرار الغرب على تصويرها على أنها ضحية.
هذا التصوير لم يكن صدفة.
وفي سنة 1936، بعد بضعة أشهر من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاحتلال البريطاني، أوضح الزعيم الصهيوني البولندي ديفيد بن غوريون (المولود باسم غرون) كيف ينبغي على الصهاينة تبرير احتلالهم لفلسطين:
نحن لسنا عربًا، ويقيسنا الآخرون بمعيار مختلف… أدواتنا في الحرب تختلف عن أدوات العرب، ولا يمكن للنصر أن يتحقق إلا من خلال أدواتنا. قوتنا تكمن في الدفاع… وهذه القوة ستمنحنا انتصارًا سياسيًا إذا عرفت إنجلترا والعالم أننا ندافع عن أنفسنا بدلًا من أن نهاجم.
وفي سنة 1948، ووفقًا لهذه الإستراتيجية الصهيونية، قدّمت الرواية الغربية السائدة الصهاينة، الذين ارتكبوا مجازر بحق الفلسطينيين وطردوهم من وطنهم، كضحايا بائسين لا يفعلون سوى الدفاع عن أنفسهم في وجه السكان الأصليين الذين استولوا على أراضيهم.
غير أن “الغزو الدفاعي” الذي شنّته إسرائيل على الضفة الغربية وغزة، قبل 58 سنة من هذا الشهر، هو الذي رسّخ صورتها كـ”ضحية” محاصَرة، ومهّد الطريق للإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
واليوم، حتى هذه الإبادة تُقدَّم في الغرب على أنها مسألة دفاع عن النفس. فإسرائيل، كما يُقال لنا، لا تزال ضحية لضحاياها، الذين قتلت أو جرحت منهم ما يقارب 200,000 شخص في حربها الأخيرة من أجل “الدفاع عن نفسها”.
الضحية المقدسة
رفعت حرب يونيو/ حزيران 1967 مكانة إسرائيل في الغرب إلى مستوى الضحية المقدسة التي لا يُمكن المساس بها.
وتضاعف عدد مؤيديها بين المسيحيين واليهود الغربيين على حد سواء، الذين كانوا يرون العرب والفلسطينيين على أنهم مضطهدو إسرائيل.
وفي الواقع، كان هذا المناخ المشحون بالعداء الشديد للعرب نقطة تحوّل في المسار السياسي للمفكر الراحل إدوارد سعيد، الذي شهد ذلك بنفسه عن كثب في الولايات المتحدة.
تم الاحتفاء باحتلال إسرائيل للأراضي على أنها أعمال بطولية في سبيل الدفاع عن النفس، وهو انقلاب متعمَّد للأدوار بين الضحية والمعتدي لا يزال يُشكّل التصورات الغربية حتى اليوم.
إن استعراض ما يُسمى بـ”إنجازات” حرب 1967 – والتخطيط الذي سبقها – يساهم في تفسير كيف استمرت صورة إسرائيل كضحية، رغم ما ترتكبه من مجازر وعمليات تهجير قسري.
بين سنتي 1948 و1967، دمّرت إسرائيل نحو 500 قرية فلسطينية، واستبدلتها بمستوطنات يهودية. وقد قوبل هذا المحو في الغرب بالاحتفاء، واعتُبر معجزة: بناء دولة يهودية بعد المحرقة، رغم مقاومة السكان الأصليين “البغيضة” الذين كانوا يسعون لحماية وطنهم.
ووصف المؤرخ إسحاق دويتشر، الذي يُوصَف غالبًا بأنه من منتقدي الصهيونية، محو إسرائيل لفلسطين وشعبها بأنه “أعجوبة ومعجزة تاريخية”، شبيهة بـ”الأساطير البطولية الكبرى” في العصور القديمة.
وفي سنة 1969، تأمل موشيه ديان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، في “الإنجازات الأسطورية” لإسرائيل في تدمير فلسطين، قائلاً: “أُقيمت قرى يهودية مكان القرى العربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء تلك القرى العربية، ولا ألومكم، لأن كتب الجغرافيا التي كانت تذكرها لم تعد موجودة. فليست الكتب وحدها من اختفت، بل القرى العربية نفسها لم تعد موجودة أيضًا.”
دفع فخر موشيه ديان بسرقة إسرائيل للأراضي الفلسطينية إلى دعوته الإسرائيليين قبل ذلك بسنة إلى عدم الاكتفاء بما تم احتلاله، قائلاً: “يجب ألّا تقولوا – لا قدّر الله – ‘هذا يكفي؛ إلى هنا، إلى ديغانيا، إلى مفلسيم، إلى ناحل عوز!’ فهذا ليس كل شيء.”
تواطؤ الغرب
لم يكن تأسيس الصهاينة لدولتهم على أرض فلسطينية مسروقة سببًا في أي انتقاد من قبل الغرب.
ففي الوقت الذي مجّد فيه الغرب سرقات إسرائيل “الأسطورية” للأراضي، أبدى أسفه على صِغَر مساحتها، وساند مخططاتها الاستعمارية التوسعية التي كانت قد بدأت بالفعل. فطالما أن إسرائيل تُقدَّم كضحية، فلا بد أنها تحتاج إلى مزيد من الأراضي لتحتلها.
وقد عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا عن هذا الرأي، حين دافع في فبراير/ شباط عن خطة إسرائيل لضم الضفة الغربية بقوله: “إنها دولة صغيرة… دولة صغيرة من حيث المساحة.”
لقد كانت أطماع إسرائيل في أراضي الآخرين واضحة بشكل لا لبس فيه قبل وبعد حربها سنة 1956 على غزة وشبه جزيرة سيناء، وأثناء احتلالها الأول لهما.
بعد هذه الحرب، تحدث ديفيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل المؤسس والعلماني، بلغة توراتية، وادّعى أن احتلال سيناء كان “الأعظم والأمجَد في تاريخ شعبنا”.
وادّعى بن غوريون أن الحرب والاحتلال الناجحين أعادا “ميراث الملك سليمان من جزيرة يوتفات في الجنوب إلى سفوح لبنان في الشمال”. وأضاف أن “يوتفات” – وهو الاسم الذي سارع الإسرائيليون إلى إطلاقه على جزيرة تيران المصرية – “ستعود مرة أخرى لتكون جزءًا من مملكة إسرائيل الثالثة”.
ووسط التنافس الإمبريالي بين فرنسا وبريطانيا، أصرت الولايات المتحدة على انسحاب إسرائيل، ما أثار غضب ديفيد بن غوريون، الذي قال: “حتى منتصف القرن السادس، كانت السيادة اليهودية قائمة على جزيرة يوتفات… التي حررها الجيش الإسرائيلي بالأمس.”
كما أعلن أن قطاع غزة “جزء لا يتجزأ من الأمة”، مستشهدًا بنبوءة إشعياء التوراتية، وتعهد قائلاً: “لن تتمكن أي قوة، مهما كان اسمها، من إرغام إسرائيل على إخلاء سيناء.”
ورغم الدعم الشعبي الواسع لإسرائيل في الغرب، اضطرت القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب بعد أربعة أشهر تحت ضغط من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وقد رحّبت مصر بقوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة “يونيف” على جانبها من الحدود، بينما رفضت إسرائيل استقبال مراقبي الأمم المتحدة.
إستراتيجية توسعية
في سنة 1954، اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون “الدخول إلى المناطق منزوعة السلاح “على الحدود الإسرائيلية السورية“، والاستيلاء على المرتفعات الواقعة عبر الحدود السورية “وهي جزء من هضبة الجولان أو كلها”، والدخول إلى قطاع غزة أو الاستيلاء على موقع مصري قرب إيلات”.
واقترح موشيه ديان أيضًا أن تحتل إسرائيل أراضي مصرية في رأس النقاب جنوبًا، أو أن تشق طريقها عبر سيناء، جنوب رفح، وصولًا إلى البحر المتوسط. وفي مايو/ أيار 1955، ذهب إلى حد اقتراح أن تضم إسرائيل جنوب لبنان حتى نهر الليطاني.
كما مضت إسرائيل قدمًا في تنفيذ خططها لسرقة كامل الأراضي الواقعة في المنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود السورية قرب هضبة الجولان. وبحلول سنة 1967، كانت قد استولت على المنطقة بأكملها.
إلى جانب هذه الاستيلاءات والاحتلالات للأراضي، اتسعت الطموحات الإقليمية لإسرائيل بشكل مطّرد بين سنتي 1948 و1967. وسعت مرارًا وتكرارًا إلى استفزاز ضحاياها العرب للرد على هجماتها، بهدف إيجاد ذريعة لاحتلال الأراضي العربية التي تطمع بها، بينما تواصل تصوير نفسها كضحية لضحاياها.
وفي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، احتلت القوات الإسرائيلية قرية السموع في جنوب الضفة الغربية، الواقعة عبر الحدود داخل الأراضي الأردنية، ونسفت أكثر من 125 منزلًا، إلى جانب عيادة القرية ومدرستها.
وتعرض الجنود الأردنيون الذين هرعوا للرد على الهجوم لكمين قبل وصولهم إلى القرية، فقُتل 15 جنديًا وثلاثة مدنيين على يد القوات الإسرائيلية، فيما أُصيب 54 آخرون.
وفي أبريل/ نيسان 1967، بدأت إسرائيل بتهديد سوريا، وضم المزيد من أراضي المنطقة منزوعة السلاح عبر إرسال مزارعين وجرارات وجنود متنكرين في زي شرطة. وعندما ردّت سوريا بإطلاق قذائف الهاون، شنّت إسرائيل، بصفتها “الضحية”، هجومًا بـ70 طائرة مقاتلة، وقصفت العاصمة دمشق وقتلت 100 سوري.
تصنيع الذريعة
لقد أثارت الاستفزازات الإسرائيلية غضب الرأي العام العربي.
وفي مايو/ أيار 1967، رضخ الزعيم المصري جمال عبد الناصر أخيرًا للضغوط الشعبية القادمة من مختلف أنحاء العالم العربي، وطلب سحب قوات الأمم المتحدة “يونيف” من الأراضي المصرية، وهي القوات التي لم تسمح إسرائيل بوجودها على جانبها من الحدود مطلقًا، كما قرر إغلاق مضيق تيران، الواقع عند مدخل البحر الأحمر، أمام الملاحة الإسرائيلية، وهو إجراء قانوني بموجب القانون الدولي، إذ يقع المضيق ضمن المياه الإقليمية المصرية.
وأرسل عبد الناصر فرقتين عسكريتين إلى سيناء لحماية الحدود بعد رحيل قوات الأمم المتحدة، وأغلق المضيق الذي لم يكن يمر عبره سوى نسبة تقل عن 5 بالمائة من حركة الشحن الإسرائيلية.
وكانت إسرائيل، التي دأبت على استفزاز العرب بانتظار الذريعة المناسبة لاحتلالهم وسرقة أراضيهم، قد وجدت الآن عدة ذرائع لتحقيق ذلك.
وفي 5 يونيو/ حزيران 1967، شنت إسرائيل حربها على كلٍ من مصر والأردن وسوريا. وخلال ستة أيام، كانت قد احتلت قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية حتى قناة السويس، للمرة الثانية خلال عقد واحد، إضافة إلى كامل الضفة الغربية من الأردن وهضبة الجولان السورية.
وعلى عكس العالم العربي، الذي يُطلق على الحرب اسم “حرب يونيو/ حزيران 1967″، يُصرّ الإسرائيليون ورعاتهم الإمبرياليون في الغرب على الزعم بأن إسرائيل كانت هي “المُعتدى عليها”، لا المعتدية على جيرانها العرب. بل إنهم يصفون تلك الحروب المتعددة بأنها “حرب الأيام الستة”، في تشبيه ضمني لإسرائيل بالإله، الذي خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.
وانفجر الغرب في ابتهاج عنصري جامح؛ حيث وصفت صحيفة ديلي تلغراف الحرب بأنها “انتصار الحضارة”، بينما أعلنت صحيفة لوموند الفرنسية أن انتصارات إسرائيل قد “خلّصت” أوروبا “من عقدة الذنب التي حملتها جراء مآسي الحرب العالمية الثانية، وما قبلها من اضطهادات، بدءًا من المذابح في روسيا وصولًا إلى قضية دريفوس، والتي رافقت ولادة الصهيونية. ففي قارة أوروبا، تم الثأر أخيرًا لليهود – ولكن للأسف، على حساب العرب – من ذلك الاتهام التراجيدي والغبي: ‘لقد ذهبوا كالخراف إلى المذبح'”.
محو فلسطين
كما فعلوا في سنة 1948، شرعت القوات الإسرائيلية في محو قرى فلسطينية في الضفة الغربية من على الخريطة، بما في ذلك بيت نوبا وعمواس ويالو، وشرّدت نحو 10,000 من سكانها، ثم واصلت تدمير قرى بيت مرسم وبيت عوّا وحبلة والجفتلك وغيرها.
وفي القدس الشرقية، اجتاحت القوات الإسرائيلية حي المغاربة، الذي سُمِّي بهذا الاسم قبل سبعة قرون حين قدم متطوعون مغاربة من شمال أفريقيا للانضمام إلى صلاح الدين في حربه ضد الفرنجة الصليبيين.
وكان الحي مملوكًا لوقف إسلامي منذ قرون. وقد مُنح آلاف السكان بضع دقائق فقط لإخلاء منازلهم، التي هُدمت على الفور بالجرافات لإفساح المجال أمام الحشود اليهودية الغازية لدخول البلدة القديمة والاحتفال بانتصارهم قبالة حائط البراق؛ المسمى بـ”الحائط الغربي”.
وأقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي الأول للأراضي المحتلة، حاييم هرتسوغ، المولود في أيرلندا والذي أصبح لاحقًا سادس رئيس لإسرائيل، بمسؤوليته عن تدمير ذلك الحي العريق والمكتظ بالسكان.
وبأسلوب عنصري إسرائيلي معتاد، وصف هرتسوغ الحي بأنه “مرحاض” قرروا “إزالته”. ويبدو أن هذا ما يفعله “الضحايا المتحضّرون” حين ينتصرون على ضحاياهم.
وجابت سيارات الجيب الإسرائيلية شوارع بيت لحم بمكبرات الصوت مهددة السكان: “أمامكم ساعتان لمغادرة منازلكم والفرار إلى أريحا أو عمّان. وإن لم تفعلوا، فسيتم قصف بيوتكم”.
وتبع ذلك تهجير جماعي، إذ أُجبر أكثر من 200,000 فلسطيني على عبور نهر الأردن إلى الضفة الشرقية. وكما في سنة 1948، قام الجنود والمدنيون الإسرائيليون بنهب ممتلكات الفلسطينيين.
وفي غزة، طردت القوات الإسرائيلية 75,000 فلسطيني بحلول ديسمبر/ كانون الأول 1968، ومنعت 50,000 آخرين، كانوا يعملون أو يدرسون أو يسافرون في مصر أو أماكن أخرى خلال حرب 1967، من العودة إلى ديارهم.
وسجّلت الأمم المتحدة نزوح 323,000 فلسطيني من غزة والضفة الغربية، من بينهم 113,000 لاجئ من نكبة 1948 تم طردهم للمرة الثانية.
ويبدو أن هذا أيضًا كان متّسقًا مع ما يُسمى بـ”السلوك المتحضّر”.
“ضحايا متحضرون”
وطردت إسرائيل أكثر من 100,000 سوري من هضبة الجولان، ولم تترك في المنطقة سوى نحو 15,000 شخص بنهاية الحرب.
دمّرت إسرائيل 100 بلدة وقرية سورية، ونقلت أراضيها إلى مستوطنين يهود. وفي سيناء، حيث كان السكان في ذلك الوقت من البدو والمزارعين في الغالب، أصبح 38,000 شخص لاجئين.
وقتلت إسرائيل أكثر من 18,000 مصري وسوري وأردني وفلسطيني خلال الحرب، في حين لم يتجاوز عدد قتلاها من الجنود الألف.
وخلال الحرب وبعدها، أعدم الإسرائيليون ما لا يقل عن 1,000 أسير حرب مصري رميًا بالرصاص بعد أن استسلموا، وأُجبر العديد منهم على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم.
وقتل الإسرائيليون الأسرى الفلسطينيين الذين كانوا يخدمون في الجيش المصري، بعد أن تم اختيارهم خصيصًا للإعدام. وواصلت إسرائيل ترحيل الفلسطينيين بالمئات مع تقدم الاحتلال.
كان كل ما سبق، في نظر الغرب، دليلاً إضافيًا على ما يفعله “الضحايا المتحضّرون” عندما يحتلون أراضي من يعتبرونهم غير متحضّرين.
ومع ذلك، وعلى الرغم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموثّقة، وعنصريتها الصريحة والمعادية للعرب والازدراء العنصري الصارخ، فقد صُوّرت فتوحات إسرائيل على أنها انتصار “عادل” حققه “ضحاياها” الإسرائيليون ضد “مضطهديهم” العرب.
التوسع الاستعماري
وفي حين أصرت أصوات المؤيدين لإسرائيل في الغرب على أن “إسرائيل المسكينة” كانت تحافظ على احتلالها الوحشي للأراضي التي احتلتها سنة 1967 بغرض مقايضتها بالسلام من ضحاياها “العدائيين”، كانت إسرائيل في الواقع تمضي قدمًا في مشروعها الاستعماري.
دعونا نلقي نظرة سريعة على الوضع.
بحلول سنة 1977، أي بعد عشر سنوات من الاحتلال، كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من حزب العمل قد ضمّت القدس الشرقية، وأنشأت 30 مستوطنة يهودية في الضفة الغربية وحدها، وأربعًا في قطاع غزة، مع المزيد قيد الإنشاء.
وكان أكثر من 50,000 مستوطن يهودي قد انتقلوا بالفعل إلى المستوطنات التي أُقيمت في القدس الشرقية، والتي تم وصفها عمدًا بشكل مضلل بأنها “أحياء سكنية”.
كما أنشأت حكومات حزب العمل غالبية المستوطنات الثماني عشرة في شبه جزيرة سيناء قبل أن يصل حزب الليكود إلى السلطة.
وفي سنة 1972، قامت حكومة حزب العمل بطرد 10,000 مصري بعد أن صادرت أراضيهم في سنة 1969. وتم هدم منازلهم ومحاصيلهم ومساجدهم ومدارسهم لإفساح المجال أمام إقامة ستة “كيبوتسات”، وتسع مستوطنات يهودية ريفية، ومستعمرة “ياميت” اليهودية في سيناء المحتلة.
وفي نهاية المطاف، جرى تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء سنة 1982، وذلك عقب توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
وفي سوريا المحتلة، أنشأت إسرائيل أول مستعمرة يهودية لها، “كيبوتس الجولان”، في يوليو/ تموز سنة 1967.
وأثناء جولته في مرتفعات الجولان عقب حرب سنة 1967 مباشرة، شعر رئيس الوزراء الإسرائيلي من حزب العمل، ليفي أشكول “واسمه الأصلي شكولنيك”، بحنين جارف إلى مسقط رأسه، وهتف بفرح: “تمامًا كما في أوكرانيا.”
وطرد الإسرائيليون نحو 5,000 لاجئ فلسطيني من منازلهم في “الحي اليهودي” بالقدس الشرقية، وهو حي لم يكن يومًا حصرًا لليهود، وكان قبل سنة 1948 أقل من 20 بالمائة من ملكيته لليهود. وفي ذلك الوقت، لم تتجاوز الممتلكات اليهودية تتجاوز ثلاث معابد يهودية وساحاتها المحيطة بها.
وفي سنة 1948، فرَّ نحو 2,000 من السكان اليهود في ذلك الحي إلى الجانب الصهيوني، عندما تدخل الجيش الأردني وأنقذ القدس الشرقية من النهب والاحتلال الصهيوني.
حتى قبل سنة 1948، كان المسلمون والمسيحيون يشكلون في الواقع غالبية سكان “الحي اليهودي” الذي تبلغ مساحته هكتارين، وكان معظم اليهود الذين عاشوا هناك يستأجرون منازلهم من أصحاب مسلمين أو مسيحيين أو من أوقاف تابعة لهاتين الطائفتين.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي، تم توسيع الحي بشكل كبير ليغطي أكثر من 16 هكتارًا.
لقد حافظ “الوصي الأردني على أملاك الغائبين” على جميع الممتلكات اليهودية باسم مالكيها الأصليين، ولم يصادرها مطلقًا.
وبعد سنة 1967، أعادت الحكومة الإسرائيلية الممتلكات اليهودية في القدس الشرقية إلى مالكيها اليهود الإسرائيليين الأصليين، في حين صادرت جميع الممتلكات الفلسطينية في الحي.
وفي المقابل، لم تُعَدّ الممتلكات الفلسطينية في القدس الغربية، التي استولت عليها إسرائيل سنة 1948، إلى الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية الذين باتوا، بعد احتلال سنة 1967، يطالبون بحقهم فيها.
إعادة تشكيل القدس
وفي 29 يونيو/حزيران 1967، وضعت إسرائيل القدس الشرقية المحتلة تحت سلطة بلدية القدس الغربية الموسعة. وأقدمت على عزل رئيس البلدية الفلسطيني الأردني ومن ثم ترحيله، كما حلّت المجلس البلدي، وشرعت في تهويد كامل الإدارة المدنية للمدينة.
وعقب الاحتلال مباشرة، أُعلن عن المنطقة كموقع أثري، مما أدى إلى حظر كافة أعمال البناء فيها.
وأطلقت السلطات الإسرائيلية أعمال حفريات أثرية تحت الأرض في محاولة يائسة للعثور على الهيكل اليهودي، مما أدى إلى تدمير العديد من المباني الفلسطينية التاريخية، بما في ذلك تكية الفخرية التي تعود للقرن الرابع عشر والمدرسة التنكزية.
وفي سنة 1980، أعلنت إسرائيل رسميًا ضم المدينة، وهو إجراء اعتبره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “لاغيًا وباطلًا” بموجب قرار صادر عنه.
استمرت الحفريات وعمليات الحفر تحت المواقع الإسلامية المقدسة وبجوارها بوتيرة سريعة بحثاً عن المعبد الأول المراوغ، الذي لم يتم العثور عليه أبداً – على افتراض أنه كان موجودًا أصلاً.
وتبع ذلك طرد الفلسطينيين المقدسيين من منازلهم، وفرضت سلطات الاحتلال حظر تجول دوريًا، بالإضافة إلى عقوبات جماعية شملت مختلف أنحاء الأراضي المحتلة.
كما أعاد الإسرائيليون تسمية الضفة الغربية بـ”يهودا والسامرة”، وغيّروا أسماء المدن والشوارع لتتوافق مع رواياتهم التوراتية المتخيلة.
وكل ذلك، وأكثر بكثير، سبق الإبادة الجماعية الجارية اليوم، وقوبل إما بالثناء أو اللامبالاة من قِبل مؤيدي إسرائيل ومموليها في الغرب.
نموذج دائم
يبدو أن الدعم الغربي السائد لإسرائيل يزداد طرديًا مع ازدياد قسوتها تجاه ضحاياها.
النكبة التي ارتكبتها في سنة 1948 ونظام الفصل العنصري الذي فرضته على الفلسطينيين الذين لم تتمكن من طردهم بين سنتي 1948 و1967 فُدما في الرواية الغربية باعتبارهما إنجازات ملحمية لـ “الضحايا اليهود” على حساب الشعب الذي اغتصبوا أراضيه ودمروا حياته منذ ذلك الحين.
ولكن إذا كان وصف رد الفلسطينيين على الاحتلال الإسرائيلي المستمر بالمقاومة يعتبر جريمة أخلاقية في الغرب اليوم، فإن بن غوريون نفسه لم يتردد في وصفه بذلك في سنة 1938.
وأوضح أن الثورة الفلسطينية “هي مقاومة نشطة من قبل الفلسطينيين لما يعتبرونه اغتصابًا لوطنهم من قبل اليهود، ولهذا السبب يقاتلون”.
وتابع: “خلف الإرهابيين توجد حركة، رغم بدائيتها، إلا أنها لا تخلو من المثالية والتضحية بالنفس… نحن المعتدون وهم يدافعون عن أنفسهم. والبلاد ملكهم لأنهم يسكنونها، بينما نحن نريد أن نأتي ونستوطنها، ومن وجهة نظرهم، نحن نريد أن نسلبهم وطنهم بينما لا نزال نحن خارجَه.”
بصرف النظر عن ذلك، كانت قدرة إسرائيل “الدفاعية” وشبه الإلهية على إبادة ضحاياها في سنة 1967 هي التي أكدت للغرب تفوقها الحضاري السامي.
وأصبحت تلك الحرب النموذج الدائم لحملات إسرائيل “الاستباقية” المزعومة، وهي حروب توسّع نطاقها الاستعماري بينما تُمكّنها في الوقت نفسه من الظهور بمظهر الضحية البريئة.
وليس من المستغرب، إذن أن يستحضر داعمو إسرائيل في الغرب هذا الإرث ليس فقط بعد ضرباتها الأخيرة على إيران، بل طوال حملتها الإبادة الجماعية في غزة وعدوانها الأوسع في الضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن. فوفق رؤيتهم، لا تكتفي إسرائيل بالدفاع عن نفسها، بل تؤدي دور الوكيل عن الغرب.
إن هجومها الحالي ليس سوى مثال صارخ آخر على ما يمكن للضحايا “الغربيين” أن يفعلوه – بل ما ينبغي لهم فعله – في ضحاياهم من غير الغربيين.
المصدر: ميدل إيست آي