منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، لعبت إيران دورًا مركزيًا في تثبيت أركان نظام بشار الأسد، سياسيًا وعسكريًا، عبر تمويل وتسليح الميليشيات الطائفية وتقديم الدعم الاستخباراتي والتقني لقمع الانتفاضة الشعبية، ثم ما لبثت أن تحوّلت سوريا سريعًا إلى ساحة أساسية لمشروع الهيمنة الإيراني، تُدار فيها المعارك بدماء إيرانية تارة وغير إيرانية مرات ومرات، وتُرفع فيها رايات لا تمت بصلة لمطالب السوريين بالحرية.
دفعت إيران بميليشياتها العابرة للحدود “فاطميون”، “زينبيون”، و”حزب الله” وغيرها من الميليشيات لتحويل المواجهة إلى حرب عقائدية، رسّخت الانقسام المجتمعي، وعزّزت وحشية النظام، ثم لم يكن هذا التدخل دعمًا لحليف، بل استباحة سياسية وعسكرية اكتملت أركانها بارتكاب المجازر، ومحاصرة المدن، وإعادة تشكيل البنية السكانية لصالح مشروعٍ مذهبي لا علاقة له بسوريا.
واليوم، مع تصاعد المواجهة بين إيران وإسرائيل، يجد السوريون أنفسهم أمام مشهد يتساقط فيه قادة إيرانيون تلطخت أيديهم بدماء المدنيين، لا في معركة تحرر، بل ضمن تصفية حسابات إقليمية ودولية اشتعلت نارها منذ سنوات ويبدو أنه حان وقت العمل الفعلي بين العدوين، القادة الذين اغتيلوا مؤخرًا في إيران هم ذاتهم من كانوا يتحركون بين دير الزور ودمشق، ويشرفون على هندسة القمع الوحشي داخل الأراضي السورية.
الشماتة بمقتل هؤلاء مفهومة، لكنها يجب ألا تحجب سؤالًا أكبر: هل تُعيدنا هذه التصفيات إلى موقع الضحية مجددًا؟ فغياب إيران لا يعني بالضرورة قوة سوريّة صاعدة (على الأقل عسكريًا وبنيويًا)، بقدر ما يفتح الباب واسعًا أمام قوة أخرى لطالما تعاملت مع الجغرافيا السورية كمنطقة فراغ قابلة للملء.
معطيات تجعلك تفهم الحنق السوري تجاه حكام إيران
على الرغم من أنه يصعب الفصل التام بين جرائم قوات النظام المخلوع والميليشيات الإيرانية بحكم اندماجها في العمليات؛ إلا أننا جمعنا بعض الأرقام الدالة على إيغال إيران ووكلائها بالدم السوري ودمار البلاد عبر المصادر المفتوحة.
منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة 2011 تعاملت طهران مع سوريا على أنّها جبهة متقدّمة لمشروعها الإقليمي؛ فدفعت بعسكريّي «فيلق القدس» ثم شبكات الميليشيات الشيعية إلى أغلب المحافظات، واستمرّ حضورها حتى سقوط النظام أواخر 2024، مخلِّفة شبكة قواعد عسكرية ومراكز عقائدية امتدّت من حلب إلى درعا.
1 – القوّة البشريّة لطهران في سوريا
بلغ ذروةَ الانتشار ما بين 2015 و2018 نحوُ 1 – 2 ألف ضابط وجندي إيراني نظامي يشرفون على 20 – 25 ألف مقاتل أجنبي من «حزب الله» و«فاطميون» و«زينبيون» وسواهم، إضافةً إلى بضعة آلاف من جيش النظام تحت القيادة الإيرانية المباشرة.
2 – الانتشار العسكري الإيراني
بحلول منتصف 2024 وثّقت دراسات ميدانية 52 قاعدة ثابتة و477 نقطة/حاجز إيرانية موزّعة على 14 محافظة، بعد أن كانت شبكة مواقع طهران في 2023 تتجاوز 500 موقع بين قواعد ونقاط لوجستية.
3 – التمويل
قدّرت مؤسّسات بحثية كلفة الدعم الإيراني المباشر لدمشق والميليشيات بما يقارب 16 مليار دولار بين 2012 و2018، بينما رُفعت التقديرات الرسمية اللاحقة إلى زهاء 30 ملياراً حتى 2020.
4 – الخسائر الإيرانيّة
أقرّت طهران في 2016 بتجاوز قتلاها حاجز الألف، بينهم عدد من كبار الضبّاط في «الحرس الثوري»، فيما وثّقت تقارير لاحقة مقتل مئات آخرين من الميليشيات الأفغانية والباكستانية.
5 – القواعد اللوجستية المفصلية
تركّز رهان طهران على محور بري يبدأ من منفذ البوكمال/القائم إلى الداخل السوري وصولاً إلى لبنان، مع عقدة دعم إضافية في مطار T-4 بحمص وجبل عزّان بحلب؛ وقد جعل هذا الممرّ هدفاً لضربات إسرائيلية وأميركية متكرّرة.
6 – الحصيلة الإنسانية
وثّقت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» مقتل 4162 مدنياً في 2018 وحدها على يد قوات النظام وميليشياته الشيعية الداعمة لإيران، بينهم 713 طفلًا و562 امرأة، ضمن حصيلةٍ تُقدَّر بعشرات الآلاف منذ 2013 في القصير، الغوطة، حلب، ودير الزور.
7 – النهب والتدمير
منذ 2019 رصدت تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان عمليات تعفيش واسعة للمنازل والمنشآت في ريفَي حلب وحماة نفّذتها قوات النظام وميليشيات إيرانية، واعتُبرت جريمة حرب موثَّقة في نحو ثلاثين منطقة.
8 – الهندسة الديموغرافية
اتفاق «البلدات الأربع» (كفريا / الفوعة ↔ الزبداني / مضايا) 2017 مهَّد لإخلاء بلدات سنّية غرب دمشق مقابل إيواء عائلات موالية لإيران، فاتحاً الباب أمام ضرب البنية السكانية المعارضة حول العاصمة.
9 – قانون 10 لسنة 2018
أتاح القانون إعلان مناطق «تنظيم عمراني» ومصادرة أملاك الغائبين خلال مهلة ثلاثين يوماً، ما هدّد قرابة عشرة ملايين سوري بفقدان بيوتهم وأملاكهم، ووفّر غطاءً قانونيًا لبيع العقارات لمستثمرين مرتبطين بإيران و«حزب الله».
10 – التوطين المذهبي
وثّقت تقارير صحفية انتقال مئات العائلات الشيعية العراقية إلى أحياء داريا والمناطق المحيطة بدمشق بعد تهجير سكانها الأصليين، في إطار مساعٍ إيرانية لـ«إعادة هندسة» الحزام الديموغرافي حول العاصمة.
11 – السيطرة الاقتصادية
وقّع النظام في 2017 عقوداً تمنح طهران حقَّ استثمار مناجم الفوسفات في خنيفس والشرقية قرب تدمر، إلى جانب خططٍ لمرفأ اللاذقية ومشاريع طاقة؛ لكنها تعطّلت بعد انهيار النظام أواخر 2024.
12 – ماذا تركت إيران وراءها؟
عند انسحابها أواخر 2024 تركت طهران شبكةَ مواقعٍ مدمَّرة، وحسينياتٍ ومدارس دينية جديدة، وأحياءً فارغة أُفرغت من سكانها الأصليين، فضلاً عن ديونٍ استثمارية وشبهات فساد قُدِّرت بمئات الملايين ستخضع لتدقيق الحكومة الجديدة في دمشق.
حين يتحوّل الغضب إلى شماتة… ثم إلى سؤال مصيري
بداية، لا بد من الحديث عن أن العداوة السوريّة مع إيران، هي مع قادة القرار الإيراني حكوميين وعسكريين وصولًا للمرشد، هؤلاء هم من قادوا الحرب وحشدوا الميليشيات للزج بها ضد الشعب السوري، أما الشعب الإيراني فلك أن تسأل أي سوري اليوم ليقول لك إن ذلك الشعب المليء بالتاريخ والعابق بالثقافة والحضارة إنما يعاني كما عانينا من نظام قامع للحريات وضاغط على صدور شعبه، وما احتجاجات “مهسا أميني” عنا ببعيدة.
وعندما اجتاحت الشماتة وجدان السوريين مع توالي الضربات الإسرائيلية التي طالت شخصياتٍ إيرانية رفيعة في طهران وسوريا ولبنان. لم تكن هذه مشاعر عابرة، بل امتدادًا لغضبٍ مكبوت تجاه من حوّل بلادهم إلى ساحة حرب طائفية، وساهم في إجهاض ثورتهم لسنوات قبل أن تنطلق جحافل التحرير وتثب وثبتها من تحت الدمار والركام وتلف طوق الإعدام على رقبة نظام البعث وحلفائه.
لكن الفرح بسقوط بعض الجلادين لا يجب أن يغفل حقيقة مقلقة: إن رحلت إيران فإن “إسرائيل” ما زالت على الحدود تضرب يمنة ويسرة في سوريا، وكلاهما أي “إيران وإسرائيل” يلتقيان على تقاطع واحد: اعتبار سوريا ساحة اختبار ومسرح تصفية حسابات وتمدد مذهبي وتوسع شمولي، لا كيانًا سياسيًا مستقلًا له قراره ومصالحه.
فـ “إسرائيل” التي لطالما حافظت على “ضوابط شكلية أمام العالم” في عملياتها، باتت اليوم تضرب عمق إيران وبرنامجها العسكري والنووي دون تردد، وتنفّذ عمليات دقيقة داخل سوريا دون أي اكتراث بسيادة دولة أو شعب، وتراجع المحور الإيراني لم يقابله صعود سوري، بل فراغ مفتوح تُحكم فيه إسرائيل سيطرتها بهدوء وتقنية عالية.
لذلك، لا بد من تجاوز نشوة الشماتة إلى سؤال مصيري: من يملأ الفراغ؟ من يرسم الخطوط؟ وهل نعيد تكرار تجربة الاستباحة لكن تحت راية أخرى؟
إسرائيل في الفضاء الفارغ: عدوٌ بلا كوابح ولا خطوط حمراء
لم يكن السقوط الإيراني في سوريا لحظة تحرير فحسب، بل كان من زاوية أخرى لحظة كشف، كشفٌ عن هشاشة الواقع السوري، وغياب أي رادع حقيقي أمام تغوّل قوة إقليمية أخرى لا تقل عداءً وخطرًا، تتحرك “إسرائيل” اليوم فوق سوريا كما تشاء، لا رادع عسكري، ولا غطاء سياسي، ولا حتى توازن تهديد متبادل. كل ما يمنع الضربة التالية هو قرار في تل أبيب، لا قدرة رد في دمشق.
التحوّل من احتلال عقائدي جاء من الشرق، إلى هيمنة تقنية آتية من الجنوب، لا يُبشّر بتحوّل نوعي، بل بتبديل السجّان. كلاهما لا يرى في سوريا شعبًا، بل معبرًا أو حاجزًا، ساحة أو خاصرة رخوة.
وإذا استمرت “إسرائيل” في إعادة صياغة المشهد الإقليمي كما تفعل اليوم، فإنها لا تكتفي بملء الفراغ، بل بترسيخ واقع جديد، يكون فيه وجودها غير مرئي بالضرورة لكنه فاعل، غير مباشر لكنه حاكم، والخطر لا يكمن في الصاروخ التالي، بل في معادلة الردع الجديدة التي تُكتب بسكوت الآخرين.
السوريون بلا سلاح… لكن ليس بلا موقف
قد لا يملك السوريون اليوم جيشًا أو منظومة دفاع جوي أو غطاء دولي، لكنهم يملكون ما هو أخطر: الوعي. وعي بأن السيادة ليست مجرد حدود، بل رواية، وموقف، وخطاب سياسي لا يبرر الاستباحة تحت أي ذريعة، المطلوب اليوم ليس خطاب حياد وإن كان ذلك مفهومًا بحكم غياب القوة أمام عدو يملك القوة المطلقة في كل الشرق الأوسط ويصول ويجول فيها، نحنا بحاجة إلى خطاب سيادة، ربما لا ندخل محاور، ولكن من المهم ألا نكون أداة، فمن دفع ثمنًا باهظًا لاستقلاله لا يسلّمه مرة أخرى تحت اسم الواقعية.
بناء الجبهة الداخلية، وتعزيز الرواية الوطنية، واستعادة المبادرة الإعلامية والسياسية، هو طريق حماية سوريا مما هو آتٍ. المقاومة ليست بالضرورة بندقية، بل وضوح رؤية وموقف، يعرف من هو العدو، ويرفض أن يُستنسَخ.
إيران كانت احتلالًا دمويًا. و”إسرائيل” لا تقل خطرًا في أدواتها وغاياتها. ومن لم يتعلم من التجربة الأولى، سيكتب عليه أن يعيش الثانية بتكلفة أكبر.
ما نراه اليوم من تصدّع المشروع الإيراني، وسقوط أدواته في سوريا ولبنان، ليس نصرًا سهلًا، بل نتيجة لعنة الدم السوري الذي سُفك ظلمًا. لا القانون أنصفهم، ولا العالم أنصت لصراخهم، لكن التاريخ يسجل: من خان دماء السوريين، لا ينجو من الحساب، ولو بعد حين، وهناك على الضفة الأخرى فإن التاريخ سيدور على العدو الجنوبي، فما سفكه في غزة سيكون حسابه عسيرًا كما شهدنا بأمّ أعيننا مصرّع الجبابرة والطغاة.. ولعنة الدماء صعبة لا تجاريها لعنة!