لم تكن الملاجئ طارئة على الفكر الإسرائيلي أو مرتبطة بمرحلة دون أخرى بعد قيامه على أرض فلسطين؛ فمنذ البداية، أدرك مؤسسو الكيان أن وجوده فتيلٌ لحروب تتجاوز حربه الأولى، وأن إطالة أمده ترتبط ببنية تحتية عسكرية ومدنية قادرة على ابتلاع أسوأ ما في الحروب والتخفيف من صدمتها.
لذا، جعلت حكومات الكيان من الملاجئ تطورًا طبيعيًا للحالة العمرانية السكانية، فأنشئت العديد من الملاجئ تحت الأرض في المدن والضواحي خلال السنوات الخمس الأولى من قيامه، بهدف ردع تهديد القنابل الجوية التقليدية التي قد تتلقاها التجمعات الاستعمارية خلال حروبها مع الأنظمة العربية.
الملاجئ كجزء من التخطيط الاستيطاني
أصدرت حكومة الاحتلال قانون الدفاع المدني في عام 1951، لتُلزم جميع المباني السكنية والصناعية والعمومية بتوفير ملاجئ آمنة، تكون على شكل غرف تحت أرضية، مدعمة بالخرسانة والتحصينK ومع كل حرب تندلع معها أو بجوارها، تطورت الملاجئ واتسعت.
في الفترة ما بين السبعينيات والثمانينيات، ازداد انتشار الملاجئ في مناطق الشمال والحدود الشرقية، لمواجهة صواريخ التشكيلات العسكرية الفلسطينية واللبنانية، وصواريخ الكاتيوشا التي قصرت الملاجئ التقليدية عن صدهاK فانتشرت الملاجئ المنفصلة التي تخدم مباني سكنية متعددة في وقت واحد، بالتوازي مع تطوير استراتيجيات تأمين الكيبوتسات ضد الهجمات القريبة.
وفي حرب الخليج الأولى عام 1991، وبعد وصول صواريخ سكود العراقية إلى قلب الكيان، نشأت الحاجة إلى ملاجئ تحمي من الأسلحة الكيماوية، ما أدى إلى تفعيل قانون الدفاع المدني القديم، وإصدار لوائح جديدة عام 1992، تفرض على المباني توفير وبناء غرف محصنة داخلية تُعرف باسم مرخاف موغان.
وتتميز هذه الغرف بقدرتها على تحمل الانفجارات والشظايا الناتجة عن الأسلحة التقليدية، وتوفر الحماية من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، كما تُبنى بجدران وأسقف من الخرسانة المسلحة، وأرضيات بسمك 20–30 سم، وأبواب ونوافذ فولاذية محكمة الإغلاق.
وإضافة إلى هذه المزايا، فهي تراعي التنوع العمراني، فمن أنواعها ميكلات وماماد وميجونيت وغيرها. ومنها ما يُقام في الشوارع والنوادي والتجمعات السكنية لخدمة المرافق العامة وسكانها، ومنها ما يُبنى بملاصقة الوحدة السكنية الداخلية، ومنها ما هو تحت الأرض، وما يتم تركيبه في البناء، ومنها العام والخاصK وهي في الغالب قوية في التصدي للهجمات الصاروخية، لكنها ليست كذلك أمام الزلازل.
لاحقًا، وبعد الانسحاب من قطاع غزة وتطوير المنظومة الصاروخية الفلسطينية، تعزز وجود الملاجئ بتشريعات إضافية تُلزم جميع المباني الجديدة بتوفير غرف محصنة قادرة على تصفية الهواء وتأمين الحماية من الصواريخ والأسلحة الكيميائيةK كما تم زيادة أعداد الملاجئ في المناطق الجنوبية، وإنشاء بنية تحتية محصنة في المدارس والحافلات والمرافق العامة، من ضمنها 300 غرفة تحصينات دفاعية في مستوطنة سديروت عام 2008 وحده.
لكن هذه التشريعات والقوانين ونسخها المتطورة حافظت على نسق واحد طوال عقود، وهو استثناؤها المجتمعات والبلدات العربية، في إطار الاستثناء الشامل لهم من خطط التطوير والهندسة المعمارية وتوسعة البناء وترخيص المزيد من المرافق والمباني، والتخطيط الحضري المتوافق مع توزعهم وأعدادهم.
وهو ما ألقى بظلاله على سلامتهم في كل حرب وعدوان يفتتحه الاحتلال، وتركهم دائمًا مكشوفين أمام مختلف أنواع الكوارث والأزمات، العسكرية والديموغرافية، والبيئية والحضرية، وجعل لهم تاريخًا منفصلًا كضحايا الحروب، بالتوازي مع تاريخ من تطوير الملاجئ الإسرائيلية.
البوصلة الأمنية لا تشير للفلسطينيين
خلال الحروب المختلفة التي خاضتها دولة الاحتلال، وجدت المجتمعات العربية نفسها مكشوفة مبكرًا، تحت سماء محمّلة بالصواريخ والقذائف، من دون بنية تحتية مناسبة لتلقي الضربات، وبدون ملاجئ أو غرف محصنة، ففي حرب لبنان الثانية عام 2006، أطلق حزب الله 3900 صاروخ على الكيان، ما أسفر عن مقتل 44 مدنيًا، من بينهم 19 عربيًا، بنسبة بلغت 43% من إجمالي القتلى، إضافة إلى أضرار واسعة في المباني والطرق داخل البلدات العربية.
ووفقًا لتقرير مراقب الدولة عام 2007، فقد بقي أكثر من 150,000 عربي في 13 بلدة شمالية من دون ملجأ ملائم، وحتى في البلدات التي وُجدت بها مرافق دفاعية، كانت تفتقر إلى النوعيات الحصينة تحت الأرض، مثل ملاجئ “ميكلات”.
بعد الحرب، أطلقت الحكومة برنامجًا وطنيًا لتحديث الملاجئ، خاصة في شمال البلاد، لكن البرنامج اقتصر على كريات شمونة وصفد ونهاريا وعكا ومستوطنات الخط الأمامي، مستثنيًا البلدات العربية من ميزانية تجاوزت 90 مليون شيكل، شملت إلى جانب البناء، تحديث التهوية والكهرباء والإضاءة.
وفي الخطة الوطنية للفترة بين 2012–2020، والتي أُدخلت من خلالها أجهزة تكييف، وإنارة حديثة، وخطوط إنترنت لاسلكي للملاجئ، ظلت التجمعات العربية خارج إطار التنفيذ، وعُزي ذلك إلى مسؤولية منظمات أهلية يهودية عنها، مثل “Vision for Israel”، التي قامت بتمويل تحديث 250 إلى 300 ملجأ خلال هذه الفترة.
منسيون تحت القصف
بعد طوفان الأقصى، ورغم إطلاق وزارة الدفاع برنامجًا خاصًا لتجديد الملاجئ القديمة في المناطق الاستراتيجية، ظلت البوصلة مرتبطة بالتجمعات اليهودية، مثل تل أبيب والجلمة وأشدود والخضيرة، ما تسبب في خسائر كبيرة في التجمعات والبلدات العربية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بلغ عدد القتلى المدنيين جراء الاستهداف الصاروخي لحزب الله 46 مدنيًا، و133 جريحًا، معظمهم من منطقة الجولان والمثلث الشمالي، عُرف من بينهم أربعة من القرى العربية الشمالية، و12 طفلًا عربيًا درزيًا في بلدة مجدل شمس، إلى جانب 47 إصابة مؤكدة في صفوف السكان العرب، ما يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه.
في أم الفحم، نحو 32 شابًا فلسطينيًا اعتُقلوا بتهمة “نية الاحتفال”، في حين يحتفل مستوطنون علنًا بسقوط الصواريخ الإيرانية على البلدات الفلسطينية. pic.twitter.com/0E5jpbysyz
— نون بوست (@NoonPost) June 18, 2025
أما بعد الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي، فقد أُعيد اكتشاف التهميش العنصري للأقلية العربية بطرق أخرى. أولها، مقتل أربع فتيات في بلدة طمرة العربية بعد سقوط صاروخ على سقف منزلهن، في الأيام الأولى من الحرب، وسط احتفاء بعض المجتمعات اليهودية المجاورة بآثار الحريق ودماء القتلى، ما عزز شعور العرب بالعدوانية المتأصلة بين الأغلبية اليهودية والسكان الأصليين، ودفعهم للقول إنهم بالنسبة للحكومة “أكياس ملاكمة”.
وثانيها، ندرة الملاجئ وحالتها المزرية، وهو ما يرتبط بالتخطيط الحضري التمييزي، حيث تُطوّر البلدات اليهودية على حساب العربية، ويُمنع البناء والتحديث في الأخيرة، ففي طمرة، التي يبلغ عدد سكانها 36 ألفًا، لا توجد سوى خمسة ملاجئ صغيرة متنقلة قديمة.
وفي بلدتي مجد الكروم ودير الأسد، اللتين يبلغ عدد سكانهما 53 ألف نسمة، لا يوجد سوى ملجأين عامين فقط، بينما تحظى بلدة كرمئيل اليهودية، التي يبلغ عدد سكانها 55 ألفًا، بـ126 ملجأ عامًا ومئات الملاجئ المتنقلة والغرف المحصنة.
وحتى في الغرف المحصنة الملحقة بالمباني السكنية، التي فرضتها القوانين الإسرائيلية بعد عام 1992، فإن قوانين منع التمدد العمراني ذاتها، حالت دون توفرها في المجتمعات العربية، ما جعل 60% من المنازل هناك من دون “مماد” أو غرف محصنة، وقد أكدت تقارير مراقب الدولة عام 2018 هذه الفجوة، مشيرة إلى أن 46% من المواطنين العرب يعيشون في مبانٍ بلا حماية، مقابل 26% فقط من اليهود.
الفلسطيني يُعامل كـ”خسارة جانبية”
لا يقف التمييز عند حدٍ معين، بل إن السياسة الإسرائيلية تبدو مخصصة لتأمين الموت وتخصيصه للعرب في مختلف أماكن وجودهم، حيث تفتقد 29% من المدارس والروضات وجود ملاجئ ملحقة أو مجاورة، مقابل 12% من مدارس المجتمع اليهودي.
وبينما يُستعاض عنها في المجتمع اليهودي بملاعب ومتنزهات وحافلات محصنة توفر الحماية من الصواريخ والضربات الكيماوية، وترتفع نسبة انتشارها في التجمعات الحدودية، تختفي هذه الميزة تمامًا في المجتمعات العربية.
هذا الإهمال المتعمد تفاقم كثيرًا بالتزامن مع الحكومات اليمينية المتعاقبة، التي خفضت ميزانيات المجتمع العربي، حتى تلك المخصصة لخدمات الإسعاف الأولي والدفاع المدني ومحاربة الجريمة وتطوير البنى التحتية، بما ينسجم مع خطاب سياسي وحكومي صريح يرى في الفلسطيني، صاحب الأرض، عدوًا داخليًا يجب القضاء عليه.
السياسة الحكومية الإسرائيلية المتعاقبة منذ النكبة أفرزت على الأرض جغرافيا عسكرية تحمي الوجود اليهودي على حساب العربي، فحرمان العربي من البناء والتوسع العمراني دفعه للتعمير رغم أنف الحكومة، ليكون بذلك مخالفًا لها، غير معترف بوجود منزله في الوثائق الرسمية.
وهو ما يفسر النسب المرتفعة لهدم المنازل في المناطق العربية، ويفسر بدرجة كبيرة غياب الملاجئ ونقصها، وتأخر إشعارات الإنذار أو اعتمادها على تكنولوجيا بدائية مثل الفنارات، وهو الدارج في قرى البدو في النقب، حيث يُترك الناس لمصيرهم ولقدراتهم الذاتية في الوصول إلى مكان آمن.
هذا ما حصل مع الطفلة مولدة العسوني البالغة من العمر سبع سنوات، التي أصيبت في إبريل/نيسان 2024 بجروح خطرة بسبب شظايا صاروخ إيراني أصابها حين كانت تبحث عن ملجأ آمن.
إصابة مولدة تعود إلى وجودها في بلدة الفوعة البدوية غير المعترف بها، والتي غالبًا ما اتخذت سماؤها ميدانًا لمناورات الدفاع الجوي الإسرائيلي، بتصنيفها مناطق مفتوحة خارج نطاق الحماية الجوية وخط دفاع ثانوي، ما يتسبب بإسقاط صواريخ وشظايا فيها، ينتج عنها ضحايا أو إصابات أو حرائق، على حساب حماية المناطق اليهودية المجاورة.
وبدلًا من أن تُعترض الصواريخ فوق التجمعات اليهودية، يتم اعتراضها فوق التجمعات العربية، وبذلك تكون نسبة سقوط الشظايا على رؤوس سكانها المحرومين من الملاجئ أكبر، كما يُختصر وقت التحذير وصفارات الإنذار فيها من دقيقة إلى دقيقتين، مقابل خمس إلى سبع دقائق في التجمعات اليهودية المجاورة، ما يُخفف الأضرار هنا ويعاظمها هناك.
ورغم مطالبات المجتمع العربي بإعادة توزيع بطاريات القبة الحديدية بحيث تتساوى في الحماية بين اليهود والعرب، وتقديم جمعية حقوق المواطن ولجنة المتابعة العليا طلبات رسمية لاعتماد ميزانية لبناء ملاجئ عامة في المناطق العربية، وتأمين غرف محصنة في المدارس والمباني العامة، وتفعيل الإنذارات في وقت واحد مع المجتمعات اليهودية، إلا أن المطالبات لم تُسفر سوى عن إنشاء 34 ملجأ متنقلًا فقط، في كل من طمرة ومجد الكروم والنقب، رغم أن بناء غرفة محصنة لأي منزل لا يستغرق أكثر من 14 يومًا.
في جوهر المشهد، لم تكن المنظومة الإسرائيلية معنية يومًا بالعربي على أرضه، ولن تكون، وهي تخوض غمار حرب وجودية تعتبره فيها طابورًا خامسًا، معنية برفاهيته أو حمايته أو حياته. بل ستحرص دومًا على أن يكون خسارة جانبية في معاركها، يمكن تعويضها بمنشور عزائي، أو بتعويض حكومي هامشي، وبالكثير من الراحة والشماتة الواضحة بموته وألمه.