تزامن الانفراج السياسي والاقتصادي الذي تشهده سوريا بعد سقوط النظام مع موجة متزايدة من عودة السوريين إلى بلادهم، حيث أعلنت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن عودة أكثر من 500 ألف لاجئ، إلى جانب نحو 1.2 مليون نازح داخلي خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.
تدور تساؤلات العائدين الجدد في البيوت والمقاهي ووسائل التواصل حول الفرص المتاحة في السوق، وجدوى استثمار المدخرات في دولة يحبو اقتصادها أولى خطواته بعد الحرب، بين تطلّع للاستثمار وتخوّف من هشاشة الاستقرار.
الخيار الآمن في زمن التحول
وسط التحولات المتسارعة، لا يزال قطاع العقارات يحتفظ بجاذبيته لدى كثير من السوريين، باعتباره ملاذًا تقليديًا وآمنًا لاستثمار المدخرات، فمع تصاعد الطلب على المنازل، وعودة قسم من اللاجئين، توجهّت الأنظار مجددًا إلى الريف، حيث تنخفض أسعار الأراضي مقارنةً بالأسعار الفلكية في المدن.
في هذا الإطار لم تعد “المحاضر الصغيرة” في الأرياف مجرّد قطع أرض مهملة، بل غدت فرصة لتحقيق أرباح سريعة، خاصة مع التذبذب في أسعار السوق العقاري وتزايد الاهتمام بالبناء، وقد رافق هذا التوجّه إعلان الحكومة الجديدة عن تبنّي سياسات تدعم التوسع العمراني المتوازن.
إذ صرّح وزير الأشغال العامة والإسكان، المهندس مصطفى عبد الرزاق، بأن الوزارة ستعمل على “تحديث أدوات التخطيط العمراني وتعزيز التعاون مع خبراء دوليين لتطوير أنماط السكن بما يحقق التوسع الحضري بشكل متوازن ومستدام”، وأضاف أن التوقعات تشير إلى “زيادة كبيرة في الإقبال على العمل والاستثمار في قطاع التطوير العقاري، مما سينعكس إيجابًا على زيادة عدد المساكن، ويؤدي إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تسهيل امتلاك منزل للمواطن السوري.
وبعد توقف لعدة أشهر منذ بداية التحرير أعلن وزير الإدارة المحلية، محمد عنجراني، عن استئناف عمليات نقل الملكية العقارية وتسجيل البيوع في السجل العقاري بعد انتهاء عطلة عيد الأضحى، وأكد الوزير أن هذه الخطوة تعتبر مهمة لتنشيط الاقتصاد وتعزيز الثقة في السجل العقاري، بالإضافة إلى إعادة الحيوية للسوق السورية وفتح المجال أمام التمويل والاستثمار في بيئة قانونية واضحة
من بين المستثمرين الصغار الذين دخلوا سوق العقار، المهندس أسامة نجار، الذي بدأ فعليًا الاستثمار بعد سقوط نظام الأسد، يوضح قائلًا: “لقد دفعني الطلب المتزايد على السكن إلى اقتناص الفرصة، ورغم العقبات العديدة التي تواجهني، أرى أن الاستثمار في العقار يظل خيارًا آمنًا نسبيًا، إذ أنّه يحافظ على رأس المال حتى في ظل تقلبات السوق، على عكس المشاريع التجارية الأخرى التي قد تتعرض لخسائر كبيرة”.
ويضيف أن أبرز الصعوبات التي يواجهها تتمثل في غياب التمويل المصرفي المتخصص للعقار، إلى جانب تقلبات أسعار مواد البناء، وصعوبة الحصول على التراخيص بسبب مشاكل في ملكية الأراضي الناتجة عن هجرة أو وفاة أصحابها، كما يشير إلى ضعف البنية التحتية وعدم استقرارها في بعض المناطق، إضافة إلى محدودية القدرة الشرائية، ما يجبره على تقديم وحدات سكنية بجودة مقبولة وأسعار معقولة.
عودة مشاريع ناجحة من المهجر
مع اشتداد الضغوط الاقتصادية والسياسية في دول الجوار، وارتفاع تكاليف المعيشة وتقلّص فرص العمل، بدأ عدد متزايد من السوريين يُعيد النظر في خيار العودة إلى بلادهم. ومع زوال بعض الموانع الأمنية التي كانت تُشكّل عقبة رئيسة أمام هذه الخطوة، برزت فئة من أصحاب المشاريع الصغيرة الذين أسسوا أعمالًا ناجحة في بلدان اللجوء، وتخطط اليوم لإعادة إطلاق مشاريعها ذاتها داخل سوريا، مستفيدة من انخفاض تكاليف التشغيل، ووجود سوق محلي متعطّش لخدمات عالية الجودة، مقارنة ببيئة ضاغطة ومحدودة في بلدان الإقامة.
أبو يزن، حلاق سوري في منتصف الثلاثينات من عمره، يعمل منذ نحو عشر سنوات في إسطنبول، ورغم نجاحه المهني واستقراره النسبي، فقد بدأ التجهيز للعودة إلى دمشق لافتتاح محل حلاقة قرب منزل عائلته، يشرح أبو يزن: “مشروع الحلاقة في الداخل قد يكون أكثر استقرارًا من وضعي الحالي، حيث تزداد القيود الاقتصادية في تركيا ويقلّ الدخل”.
لا يقتصر هذا التوجّه على محال الحلاقة والمشاريع التقليدية، بل يشمل أيضًا العديد من سلاسل المطاعم والحلويات السورية التي ازدهرت في دول اللجوء مثل تركيا ولبنان ومصر، حيث سارع الكثير من أصحاب هذه المشاريع بالفعل في نقل نجاحاتهم إلى الداخل السوري، أو بدأوا بالتفكير جديًا في ذلك، مستفيدين من شهرة العلامة التجارية وتجربة السنوات التي اكتسبوها في الخارج.
يذكر رائد وهو صاحب مطعم سوري معروف في القاهرة، أنّه ورغم ازدهار عمله هناك، إلاّ أنه بدأ الترتيب للعودة إلى سوريا واستثمار نجاح مشروعه داخل البلاد، مؤكدًا معرفته بالتحديات مثل البنية التحتية والتكاليف، لكنه يؤمن أن الخبرة التي اكتسبها في الخارج ستساعده على تخطيها وتحقيق النجاح داخل سوريا.
تشير إحصائيات الادارة العامة للتجارة الداخلية، على لسان رئيسها مصطفى اسماعيل، أن عدد الشركات السورية التي تم ترخيصها في الثلث الاول من هذا العام وصلت إلى 456 شركة، معظمها شركات صغيرة، وتنشط في القطاعات الخدمية والاستيراد والنشاطات الصناعية.
ورغم رغبة شريحة واسعة من السوريين العائدين في استثمار خبراتهم المتراكمة، خصوصًا في القطاع الخدمي، إلا أن الطريق لا يخلو من التحديات. فاستمرار انقطاع الكهرباء يعرقل سير العمل اليومي، وينعكس سلبًا على جودة الخدمات المقدمة، ما يتطلب حلولًا بديلة واستعدادًا خاصًا من أصحاب المشاريع،
إلى ذلك، يشكّل بطء الإجراءات الإدارية وتعقيدات الترخيص في هذه المرحلة الانتقالية عائقًا إضافيًا أمام انطلاقة الأعمال، بينما يُفاقم تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين صعوبة تحقيق الأرباح أو التوسع.
في المقابل، قوبلت قرارات الحكومة الأخيرة برفع رواتب موظفي الدولة وأصحاب المعاشات التعاقدية بنسبة 200% بارتياح نسبي، إذ يرى كثيرون فيها خطوة أولية لكنها مهمة نحو تحريك عجلة الاقتصاد وتعزيز القوة الشرائية ولو بشكل محدود.
بين الجيل الخامس وضعف الاتصالات: الاستثمار في الرقمنة
رغم ما تمر به سوريا من تحديات اقتصادية وبنيوية، فقد شهدت أسواقها ظهور مشاريع رقمية وريادية بشكل ملحوظ، يقود هذا التوجه عدد من الشباب ورواد الأعمال الذين وجدوا في الاقتصاد الرقمي فرصة قابلة للنمو، ورغم حاجة السوق المحلية في سوريا الماسّة إلى هذا النوع من الخدمات، فإن ضعف البنية التحتية للاتصالات لا يزال يشكل عائقًا أمام تطور هذه المبادرات.
في المقابل، تسعى الحكومة إلى تحسين البيئة الرقمية عبر مشاريع مثل تجربة الجيل الخامس ومشروع “أوغاريت 2″، الذي يهدف إلى توسيع سعات الإنترنت وتعزيز الربط الدولي، مما يسمح بخلق بيئة أكثر ملاءمة للعمل الرقمي.
في هذا السياق، يقول بسام شحادات، رائد الأعمال ومدرب واستشاري في مجالات التسويق والإعلام الرقمي، في حديثه لـ”نون بوست”: “إن الإقبال على الاستثمار في المشاريع الرقمية والريادية في سوريا بدأ يتصاعد تدريجيًا، خاصة من قبل فئة شابة تبحث عن فرص منخفضة الكلفة ومرنة العائد، مع تزايد تقبل السوق المحلي لفكرة التحول الرقمي في مجالات مثل التجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي”.
لكن هذا النمو يصطدم بعدة تحديات تتوزع على ثلاثة مستويات رئيسة: بنيوية، تتمثل في ضعف البنية التحتية، وسرعات الإنترنت المحدودة، وغياب نظم الدفع الإلكتروني؛ تشريعية، نتيجة تأخر تحديث القوانين المتعلقة بالملكية الفكرية وتنظيم العقود الرقمية؛ تشغيلية، تتجلى في نقص الكفاءات التقنية ومحدودية مصادر التمويل.
في المقابل، يرى شحادات والذي نقل شركته من تركيا إلى سوريا أن هذه التحديات نفسها تتيح فرصًا نوعية للاستثمار في حلول متكيفة مع الواقع المحلي، خاصة في القطاعات الرقمية التي لا تعتمد على البنية التحتية التقليدية
فرص التعافي المحلي
وسط تصاعد النشاط الاستثماري في سوريا، يتساءل الخبراء والمراقبون عن مدى قدرة المشاريع الصغيرة والمتوسطة على دعم وتعزيز تعافي الاقتصاد الوطني.
أكد الدكتور سنان حتاحت، الباحث في الاقتصاد السياسي، خلال حديثه لـ”نون بوست” أن هذه المشاريع كانت تاريخيًا تشكّل العمود الفقري للاقتصاد السوري، الذي كان معتمدًا بشكل كبير على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وكانت الإنتاجية منها تشكّل تقريبًا 60% من الدخل القومي قبل الحرب، لكن هذا الدور تراجع بشكل كبير بسبب الحرب وما تبعها من انهيارات”، مشيرًا إلى أنّ هذه المشاريع اعتمدت على صناعات إنتاجية كالتدوير الزراعي، والصناعات الهندسية، والكيميائية، والغذائية، وأسهمت بشكل مباشر في التصدير والتوظيف.
إلا أن الصورة اليوم مختلفة والواقع تغير، فمعظم المشاريع التي نراها اليوم تنتمي إلى القطاع الخدمي، وهذا القطاع بطبيعته يوظف عددًا أقل، ولا يحقق قيمة مضافة مرتفعة، لأن دخله يأتي من القاعدة الشعبية السورية في الداخل، لا من أسواق خارجية ومع ذلك، يرى حتاحت أن لهذه المشاريع أثرًا إيجابيًا في تمكين بعض العائدين من الاندماج مجددًا في الاقتصاد المحلي.
وعن دور الحكومة فيما يتعلق بالخطوات التي يمكنها القيام بها لتحفيز وتنشيط المشاريع الاقتصادية على اختلاف أحجامها، يوضح حتاحت أنه لا توجد اليوم سياسة واضحة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة مع استثناء الوحيد في القطاع التقني، حيث يوجد بعض التسهيلات، مثل عدم المطالبة بالترخيص لمدة أول ثلاثة أشهر، وعدم تقييد هذه المشاريع بضرورة تسجيل جميع بياناتها داخل سوريا، وربما يكون لهذا أثر أكثر ملاءمة لأصحاب المشاريع الناشئة، إذ يمكنهم بدء عمليات تجريبية دون أن يتم إرهاقهم بإجراءات بيروقراطية خانقة.
رغم الآفاق المفتوحة بعد سقوط الأسد وتخفيف العقوبات تدريجيًا، لا تزال حالة الحذر حاضرة لدى كثير من السوريين الراغبين بالاستثمار في الداخل، في ظل مخاوف من بطء تعافي البنية التحتية وتأخر الخدمات الأساسية، ومع تنوّع الخيارات الاستثمارية بين العقارات والمشاريع التقليدية والخدمات الرقمية والصناعات التحويلية، يبقى التحدي الأبرز هو توفير بيئة اقتصادية وسياسية وأمنية مستقرة تضمن استدامة هذه المشاريع وتوسعها .