بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، دخلت الحكومة السورية الجديدة في اتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بهدف إعادة دمج مناطق الشمال والشرق ضمن مؤسسات الدولة. لكن تنفيذ الاتفاق يواجه تباطؤًا واضحًا وسط اتهامات متبادلة بالمماطلة.
ورغم بعض التقدم في ملفات التعليم والطاقة، تواصل “قسد” تعزيز وجودها الأمني والعسكري، واعتقال المعارضين، وتجنيد عناصر جدد، ما يعكس عدم استعداد فعلي للتنازل. في الوقت ذاته، تثير تحركات لدمج عناصر من النظام السابق، خاصة من الطائفة العلوية، في هياكل قسد، حالة من التوتر. وتدخل روسيا على الخط بإعادة تمركز قواتها في مطار القامشلي، ما يضيف تعقيدًا للمشهد.
وبين خلافات حول صلاحيات المطار وتباين في فهم اللامركزية، يبرز سؤال مصيري: هل يمثل اتفاق آذار بداية لوحدة سورية جديدة، أم مجرد هدنة مؤقتة تسبق انقسامًا أعمق؟
قسد بين مسارين
مع التلكؤ والتباطؤ الشديد في تنفيذ الاتفاق المبرم بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في 10 آذار/مارس الماضي، أصبح التشكيك في جدية التنفيذ هو السائد في الشارع السوري، خصوصًا في ظل حالة التجييش المستمرة التي تمارسها “قسد” منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وتواصل “قسد” عمليات الاعتقال بحق السكان العرب في مناطق الجزيرة بشكل شبه يومي، بالتوازي مع حفر الأنفاق، وإنشاء التحصينات العسكرية، وتسريع وتيرة التجنيد في صفوفها؛ ما يوحي بالتحضير لمعركة محتملة، وليس السير نحو اندماج فعلي مع الحكومة السورية كما ينص الاتفاق.
تسلك قيادة “قسد” اليوم مسارين متوازيين؛ أولهما المماطلة في التنفيذ وكسب الوقت من خلال إغراق بنود الاتفاق بالتفاصيل وإعاقة تقدمها. وقد عُقد آخر اجتماع بين الطرفين (الحكومة و”قسد”) في منتصف يونيو/حزيران الجاري بمدينة حلب، لمناقشة ملف الطاقة، بعد أن شهدت المرحلة السابقة تبادلًا للمعتقلين في حي “الشيخ مقصود” في حلب. ويُعد ملف التعليم والامتحانات لطلاب محافظات الجزيرة هو البند الوحيد الذي شهد تقدمًا ملموسًا دون معوقات كبيرة.
أما المسار الثاني الذي تتبعه “قسد” فهو الحشد العسكري في مناطق سيطرتها تحسبًا لأي هجوم محتمل أو انتفاضة شعبية قد تطيح بها، أو تسحب من يدها الأوراق التي تفاوض بها الحكومة السورية.
وفي ما يتعلق بالسجال المستمر بين الحكومة السورية و”قسد”، فلا تزال تصريحات قيادة “قسد” وزعماء حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) – الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) – تدور في إطار المطالبة باللامركزية، والحفاظ على الكتلة العسكرية لـ”قسد” ضمن هيكل الجيش السوري الجديد.
وفي الوقت الذي جرى فيه تشكيل وفد كردي جديد للتفاوض في دمشق حول ما يُعرف بـ”حقوق الشعب الكردي”، رفضت الحكومة السورية عقد هذا اللقاء، مؤكدة أن اتفاق 10 آذار، الذي وقّعه كل من مظلوم عبدي قائد “قسد” والرئيس السوري أحمد الشرع، تناول جميع القضايا الأساسية، ولا حاجة لاجتماعات جانبية بالتوازي مع عمل اللجان المشتركة.
ويبدو أن الحكومة السورية نفسها لا تملك حاليًا القدرة الكاملة على دخول مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها “قسد” وحكمها بشكل مباشر، إذ توضح المعطيات على الأرض هذا الواقع.
والسيناريو الأقرب حاليًا هو دمج المجالس العسكرية التابعة لـ”قسد” ضمن الجيش السوري، ولو بشكل اسمي، من خلال تشكيل فرق وفيالق عسكرية، إضافة إلى فتح الطرقات بين مناطق الطرفين.
أما تفكيك قوات “قسد”، فسيؤدي إلى خلق فراغ أمني كبير في منطقة تشهد توترًا مزمنًا، خاصة في ظل ما أثبتته الأشهر الماضية من هشاشة الملف الأمني في مناطق سيطرة الحكومة ذاتها؛ الأمر الذي يجعل ضمّ مناطق جديدة إلى سيطرة الحكومة بمثابة مجازفة قد تخلق تحديات كبيرة شبيهة بما حدث في الضفة الغربية من دير الزور.
وفي سياق متصل، تواصل “قسد” تصعيد وتيرة العسكرة في مناطقها، حيث وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، كان آخرها إنشاء معسكرات تدريبية لعناصر من النظام السابق.
فلول النظام واستثمار “قسد”
مع تصاعد الطابع العسكري في نشاط “قسد”، يبرز إلى الواجهة ملف بالغ الخطورة يهدد وحدة الجغرافيا السورية، يتمثل في إعادة تجنيد عناصر وضباط سابقين في جيش النظام وضمّهم إلى صفوفها.
وتشير معلومات خاصة حصل عليها موقع “نون بوست” إلى أن “قسد” استكملت مؤخراً تشكيل عدة أفواج عسكرية تتألف من مقاتلين سبق أن خدموا في قوات النظام، بينهم مجندون من الطائفة العلوية تم جلبهم من الساحل السوري خلال شهري أبريل ومايو الماضيين، بالتزامن مع إقامة معسكرات نسائية في الرقة لعناصر ينتمين إلى الأقليات، تم استقدامهن من مناطق في الساحل والسويداء.
وتسعى “قسد” من خلال ضم عناصر النظام السابق إلى صفوفها لتعويض النقص الحاد في المقاتلين، خاصة بعد الانشقاقات الواسعة التي أعقبت سقوط النظام في بعض المناطق.
وتواجه “قسد” تحديات داخلية متزايدة دفعتها لتشديد إجراءاتها الأمنية بهدف الحد من حالات الانشقاق، عبر ممارسة ضغوط على عائلات المنشقين، وصلت – بحسب ناشطين – إلى حد الاعتقال، بل وتنفيذ إعدامات بحق بعضهم.
وفي تطور لافت، نفذت استخبارات “قسد” حملة اعتقالات غير مسبوقة طالت قياديين عرباً بارزين في صفوفها، من بينهم فواز الكريدي، المسؤول عن قوات الأسايش في ريف دير الزور الغربي، إضافة إلى عدد من القيادات الأخرى الذين تم نقلهم إلى الحسكة، وفق ما أوردته شبكات محلية.
الروس يُجندون الفلول
وفي منطقة الجزيرة، لا تقتصر مسألة توظيف عناصر من النظام السابق على قوات “قسد” وحدها، إذ تبرز أيضاً تحركات القوات الروسية في قاعدتها بمطار القامشلي في محافظة الحسكة. فقد أفادت مصادر ميدانية بأن القوات الروسية قامت بنقل نحو 60 عسكرياً، بينهم ضباط من كوادر جيش النظام السابق، من قاعدة “حميميم” بريف اللاذقية إلى مطار القامشلي، وذلك على دفعتين، آخرها جرت في شهر مايو الماضي عقب الهجوم الذي استهدف قاعدة حميميم من قبل مسلحين سوريين.
وكان موقع “ستارغراد” المقرب من المؤسسة العسكرية الروسية أورد معلومات نقلًا عن المراسل الحربي أوليغ بلوخين، تشير إلى أن “مسلحين مجهولين شنوا هجومًا على القاعدة الجوية الروسية في حميميم، ما أسفر عن سقوط قتلى بين العسكريين الروس، في حين قُتل ثلاثة من المهاجمين، وفرّ الرابع. ووقع الهجوم أواخر شهر مايو”.
ويبدو أن هذا الهجوم خلق حالة من القلق وعدم الاطمئنان داخل القاعدة الروسية في حميميم، ما دفع القيادة الروسية إلى نقل عدد من الجنود والضباط إلى مطار القامشلي، حيث يقيمون اليوم.
وبحسب مصادر خاصة لـ”نون بوست” تمت عملية النقل في أواخر مايو بواسطة طائرة شحن روسية، وشملت نحو 70 عنصراً، معظمهم من بقايا جيش النظام، وقد أوكلت إليهم مهام الحراسة والإشراف على بعض أقسام المطار.
في حين لا تتوافر حتى الآن معلومات مؤكدة عن وجود تنسيق مباشر بين هؤلاء العناصر وقوات “قسد”، كما لم تتضح أدوارهم المستقبلية، لكنهم حالياً متمركزون في مطار القامشلي، الذي أصبح نقطة الوجود الروسي الوحيدة في شرق سوريا منذ عام 2019، والثانية بعد قاعدة حميميم في عموم البلاد. ويبدو أن المطار بات يشكل قاعدة استراتيجية للروس، خاصة في ضوء إعادة التموضع الأخيرة.
وفي موازاة تصعيد “قسد” خطابها بشأن مطالب اللامركزية، أعلنت ما تُسمى بـ «الإدارة الذاتية» مؤخراً عن تشكيل إدارة عامة لمطار القامشلي، بقرار منفصل عن الحكومة السورية، ومنفصل أيضاً عن الهيئة السورية للطيران، رغم أن المنشأة فعلياً تخضع لسيطرة القوات الروسية.
وفي ردها على هذه الخطوة، أعلنت الهيئة العامة للطيران المدني التابعة للنظام السوري عن إغلاق مطار القامشلي “لأسباب تشغيلية”، مؤكدة أن الإغلاق رسمي ونافذ، ومشددة على أنها الجهة الوحيدة المخولة بإدارة وتشغيل المطارات في البلاد، وأن أي استخدام للمطار خارج إطار إشرافها يُعد مخالفة صريحة للقوانين الدولية.
اتفاق 10 مارس إلى أين؟
منذ بداية شهر حزيران/يونيو الجاري، يسعى وفد كردي يضم سياسيين من عدة أحزاب مقربة من حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) – الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) – إلى عقد لقاءات رسمية مع مسؤولين في الحكومة السورية في دمشق. إلا أن الحكومة ترفض هذه اللقاءات، مبررة ذلك بأن اتفاق العاشر من آذار/مارس الماضي قد شمل مختلف القضايا المطروحة، ولا حاجة لمزيد من النقاشات خارج إطاره.
ورغم حالة الجمود، فإن هناك تقدماً طفيفاً يُسجل على مستوى تطبيق بعض بنود الاتفاق. فاللجان المشتركة بين الطرفين تواصل عملها وإن بوتيرة بطيئة، وآخر محاور النقاش تمحور حول ملف الطاقة والسدود في مدينة حلب. حيث طالبت «قسد» الحكومة السورية بالتوسط لدى تركيا للضغط عليها من أجل زيادة كميات المياه الواردة إلى سوريا، لتشغيل عنفات السدود التي تسيطر عليها «قسد»، فيما طالبت الحكومة بدورها بحصة إضافية من الكهرباء.
أما في ملف النفط، فقد تم الاتفاق على إعادة كوادر الشركة السورية للنفط الذين كانوا يعملون فيها قبل اندلاع الثورة إلى حقول الجزيرة، على أن تبقى هذه الحقول ضمن الإشراف الشكلي لوزارة النفط السورية في المرحلة الحالية، مع استمرار عمليات التكرير البدائي، بينما تبقى بعض الحقول تحت إدارة “الإدارة الذاتية”. ووفق الاتفاق، ستواصل الإدارة توريد النفط إلى الحكومة السورية بشكل مجاني مؤقتًا.
وفي ما يخص ملف المخيمات والسجون التي تؤوي عائلات وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فإن اللجان المعنية تتابع عملها لإعادة السوريين والعراقيين القاطنين فيها إلى مناطقهم الأصلية، وذلك في إطار خطة ترحيل وضعتها قوات التحالف الدولي. وقد تم بالفعل إعادة 43 عائلة سورية من تلك المخيمات إلى مناطق سيطرة الحكومة في حلب، للمرة الأولى منذ سنوات، بالتنسيق بين الطرفين.
على الجانب الآخر، تبذل تركيا جهودًا متسارعة لتفكيك جناحي YPG وYPJ، اللذين يشكلان النواة العسكرية لقوات «قسد»، بهدف دمجهما في الجيش السوري. ورغم استمرار تركيا في نفي وجود أي تواصل مباشر مع الأكراد، إلا أن مصادر تؤكد وجود قنوات اتصال مباشرة تنشط في هذا الإطار.
وتتحرك أنقرة في هذا الملف عبر ثلاثة مسارات متوازية: الضغط لتسليم سلاح حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وداخل تركيا، ودفع باتجاه دمج «قسد» في المؤسسة العسكرية السورية، إضافة إلى استغلال عامل الوقت كوسيلة ضغط لعرقلة أي مناورات أو تسويف من قبل قسد.
وبحسب متابعين، فإن الوضع في الجزيرة السورية مرشح للاستمرار على هذا النحو إلى حين انتهاء دمشق من إعادة ترتيب منظومتها العسكرية، والتوصل إلى صيغة نهائية بشأن آلية الدمج الأمني والعسكري مع «قسد».
في المقابل، لا يزال الجمود في تنفيذ الاتفاق يثير قلق سكان الجزيرة، الذين يتساءلون عن جدوى هذا المسار، في ظل استمرار «قسد» والمنظمات التابعة لحزب العمال الكردستاني في ممارساتها المعتادة، من خطف الأطفال، والتجنيد الإجباري، وحفر الخنادق، والتصعيد الإعلامي ضد الحكومة، ما يطرح تساؤلات جدية عن وجود تفاهمات غير معلنة تجري خلف الكواليس، قد تهدد وحدة البلاد مستقبلاً.