بعد احتباس أنفاس دام قرابة 10 أيام، وبينما يجلس الإيرانيون على طاولة المفاوضات مع دول الترويكا الأوروبية في جنيف للتشاور حول برنامجهم النووي، هاهي الولايات المتحدة الأمريكية توجه ضربتها المنتظرة لثلاثة مواقع نووية في إيران (فوردو -نطنز – أصفهان)، مستخدمة في ذلك قاذفات “بي-2” التابعة لسلاح الجو الأمريكي وعبر 6 قنابل خارقة للتحصينات، لتدخل المواجهة الإيرانية الإسرائيلية منعطفًا حرجًا من التصعيد.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبلغة تطاوسية بحتة، أعلن رسميًا، وبشكل فردي بعيدًا عن مؤسسات الدولة الرسمية، عن تلك العملية التي تمت في الساعات الأولى من فجر الأحد 22 يونيو/حزيران 2025، مؤكدًا أن موقع “فوردو” الذي يمثل صداعًا للأمريكيين والإسرائيليين على حد سواء، قد انتهى تمامًا، لافتا أن “لا يوجد جيش آخر في العالم غير الجيش الأميركي يمكنه أن يفعل هذا”.
وبذات خطاب الإذعان طالب ترامب إيران بالموافقة على إنهاء هذه الحرب ورفع شعار السلام، منوها أن عليها التوقف فورًا “وإلا سيتم ضربهم مرة أخرى”، مشددا على أن أي رد انتقامي من الإيرانيين ضد الولايات المتحدة “سيقابل بقوة أكبر بكثير مما شهدناه الليلة”.
وتابع “ما زال هناك الكثير من الأهداف، وإما أن يكون هناك سلام وإما مأساة لإيران”، وقال إنه سيتم ضرب أهداف أخرى بدقة إذا لم يتحقق السلام، موجها تهنئته لرئيس الوزراء الإسرائيلي ومثمنًا الدور الذي قام به جيش الاحتلال في تفتيت عضد إيران والقضاء على مشروعها النووي.
من جانبه وصف وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الضربة بأنها “وصمة عار وتترتب عنها عواقب خالدة”، مؤكدًا خلال تدوينة له على منصة “إكس” أن بلاده “تحتفظ بجميع خياراتها دفاعاً عن سيادتها ومصالحها وشعبها”، مضيفًا أن أمريكا بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي ارتكبت “خرقاً فاضحاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ومعاهدة عدم الانتشار النووي من خلال الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية السلمية”.
وبين التهويل الأمريكي الإسرائيلي إزاء تلك الضربة المركزة وتدميرها بنجاح للبنية النووية الإيرانية، وتقليل طهران بشأن نتائجها المحققة فعليًا والرد عليها سريعًا برشقة صاروخية قوامها 40 صاروخًا من بينها صاروخ “خيبر” المتقدم، استهدفت الداخل الإسرائيلي وأحدثت دمارًا واسعًا في تل أبيب وحيفا، يبدو أن المواجهة لا تزال – حتى كتابة تلك السطور- منضبطة بقواعد الاشتباك التقليدية، لتصبح الكرة الآن في مرمى الإيرانيين.. فأي خيارات على الطاولة؟
خداع (كذب) استراتيجي.. كلاكيت تاني مرة
أثبتت الضربة الأمريكية أن ترامب مخادع بارز، يمتلك القدرة الفائقة على تسكين خصومه وتخديرهم باستراتيجيات الخداع الاستراتيجي، ففي الوقت الذي قال فيه إنه سيمهل إيران أسبوعين لإعادة تقييم المشهد ومنح الدبلوماسية الفرصة الكافية لتلجيم الصدام، وبينما كان الوفد الإيراني برئاسة وزير الخارجية في جنيف للمشاركة في جولة المفاوضات مع ممثلي دول الترويكا الأوروبية، جاءت الهجوم المفاجئ.
وللمرة الثانية يمارس ترامب وإدارته استراتيجية الخداع تلك منذ بداية الحرب الإيرانية، كان المرة الأولى في 12 يونيو/حزيران الجاري، حين أعلن وزير الخارجية العُماني، أن الجولة السادسة من المفاوضات الأميركية الإيرانية ستعقد في مسقط الأحد 15 يونيو/ حزيران الجاري، وصدرت تصريحات أميركية عديدة، بعضها من ترامب نفسه، تتسم بالتفاؤل، وتؤكّد أن المفاوضات تمضي في الاتجاه الصحيح، ليستيقظ الإيرانيون فجر اليوم التالي مباشرة على ضربة إسرائيلية مكثفة، كبدتهم خسائر فادحة على كافة المستويات.
وسبق هاتين المرتين تمهيد أمريكي مخادع، أوهم العالم أن هناك خلافات حادة بين ترامب ورئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وصلت إلى حد رفض الرئيس الأمريكي الرد على اتصالات حليفه الإسرائيلي، الأمر الذي فسره البعض حينها على أنه تباين في وجهات النظر واتساع لافت في رؤية كلا الطرفين للتصعيد مع طهران، كان له دوره في تخدير الخصوم، وهو التفسير الذي عارضه البعض – بما فيهم نون بوست- الذي رأى أن ما حدث خلافًا على استراتيجيات تحقيق الأهداف وليس على الأهداف ذاتها، وذكرنا حينها بشكل صريح أنه خلاف لا طلاق، وانه جزء من مسلسل الخداع عبر تبادل الأدوار.
اليوم يعلن ترامب صراحة الدور الذي قام به جيش الاحتلال في إيران، مشيدًا بالعلاقات الحميمية التي تربطه بنتنياهو والعمل كفريق واحد من أجل تحقيق أهدافهما المشتركة في إيران، وهي ذات الاستراتيجية التي يتبناها الطرفان في غزة منذ بداية الحرب، كذا في لبنان وسوريا واليمن، تبادل أدوار يخدم الأجندة التوسعية الصهيوأمريكية.
وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التفرقة بين مصطلحي الخداع السياسي ( political deception) والكذب السياسي (political lying) فالأول يشير إلى استخدام انتقائي أو مجتزأ للمعلومات لإحداث حالة من الارتباك والغموض، أما الثاني فيتضمن التصريحات الكاذبة الخاطئة في محاولة لخلق سردية بديلة تحقق أهدافًا بعينها.
وبالعودة إلى تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية نهاية العام الماضي والتأكيد على أنه سيٌنهي انخراط بلاده في أي حروب خارجية، ثم يُفاجأ الجميع بالنكوص عن هذا الوعد بعد 6 أشهر فقط، عبر التورط العسكري في المشهد الإيراني، فإنه بذلك انتقل من الخداع إلى الكذب السياسي، الأمر الذي ينعكس على صورة الولايات المتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط، وهو ما يفسر الانتقادات الحادة التي تعرض لها من أعضاء داخل الكونغرس بسبب تلك الخطوة التي وصفها البعض بالمخالفة للدستور.
من جانبه اتهم زعيم الديمقراطيين في الكونغرس حكيم جيفريز، ترامب بدفع البلاد نحو الحرب، واصفًا إياه بالمضلل الذي أخفى نيته ولم يحصل على إذن من الكونغرس لاستخدام القوة العسكرية، ما يهدد بتورط أميركا في حرب كارثية محتملة في الشرق الأوسط، وهي ذات الاتهامات التي وجهتها له السيناتورة الديمقراطية جين شاهين.
أما أعضاء الكونغرس، الديمقراطية نانسي بيلوسي، والجمهوريين توماس ماسي وبيرني ساندرز، فقالوا إن ترامب تجاهل الدستور من خلال إشراك الجيش الأميركي من جانب واحد دون إذن من الكونغرس، مطالبين بإجابات بشأن العملية التي تعرِّض الأميركيين للخطر وتزعزع الاستقرار، مؤكدين أن الكيان الوحيد الذي يملك سلطة جرّ هذا البلد إلى الحرب هو الكونغرس بموجب دستور الولايات المتحدة، وأن الرئيس لا يملك هذا الحق.
تضخيم أمريكي
دون أي مقاطع مصورة ولا توثيق مرئي لعملية فجر الأحد، خرج الرئيس الأمريكي مستعرضًا عضلات بلاده في إنجاز المهمة على أكمل وجه، مؤكدًا بلغة واثقة على القضاء تمامًا على منشأة “فوردو” تحديدًا، والمحصنة بدفاعات صاروخية والقابعة في باطن الأرض على مساحة تبلغ نحو 800 متر، ما مثل صعوبة بالغة أمام القاذفات الإسرائيلية في استهدافها وإعطابها.
التقديرات وفق ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية تشير إلى أن القاذفات الأمريكية استخدمت 6 قنابل خارقة للتحصينات، وزن الواحدة منها 30 ألف رطل، في الهجوم على “فوردو” ومثلها في استهداف “نطنز” وأصفهان” لافتة أن “إسرائيل” دمرت ما يقرب من 75% من إمكانيات المنشآتين الأخيرتين، لتأتي الضربة الأمريكية لتقضي على الـ 25% المتبقية.
وتشير شبكة “إيه بي سي” أن الولايات المتحدة وإسرائيل تدربتا على هذا الهجوم في مناورة عسكرية قبل نحو عام، وأن العملية تمت عبر قاذفات بي-2 التي أسقطت القنابل الخارقة للتحصينات، بدعم من غواصة تابعة للبحرية الأميركية أطلقت صواريخ توماهوك على أهداف أخرى داخل إيران.
وأبلغت إدارة ترامب إسرائيل بالضربة مسبقًا قبل تنفيذها وفق ما نقل موقع أكسيوس عن مسؤول إسرائيلي، فيما قالت شبكة “إن بي سي” إنه تم إطلاع رئيسي مجلسي الكونغرس على الهجمات الأميركية على المواقع النووية الإيرانية، لكنها في الوقت ذاته نقلت عن مصادرها الخاصة أن كبار الديمقراطيين بلجان الاستخبارات لم يطلعوا على الضربات قبل وقوعها.
من جانبه وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الضربة الأميركية بأنها “جبارة” و”تاريخية”، مشيداً بما وصفه “بالقرار الجريء” للرئيس الأميركي، قائلاً إن هذا القرار “سيغير التاريخ”، مؤكدًا أن “قيادة ترامب اليوم خلقت نقطة تحول تاريخية”، مدعياً أنها “قد تقود الشرق الأوسط وما بعده نحو مستقبل من الرخاء والسلام”.
الضربة وفق ما تم الإعلان عنه تعكس إلى حد كبير حرص إدارة ترامب على عدم الانخراط في حرب مفتوحة مع إيران، والاكتفاء بعملية نوعية مركزة، تلبي غرور الرئيس الأمريكي وتحفظ ماء وجهه أمام المجتمع الدولي، وفي نفس الوقت تجنبه وبلاده الدخول في أتون من التصعيد الشامل في ظل التحذيرات المتصاعدة بشأن عدم الانجرار خلف الضغوط الإسرائيلية.
تقليل إيراني واحتفاظ بحق الرد
من جانبه ندد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بالضربة، متهما أميركا وإسرائيل بأنهما تجاوزتا خطًا أحمرًا كبيرًا بمهاجمة منشآت بلاده النووية، واصفًا ترامب بأنه “خان إيران ورضخ لطموحات مجرم اعتاد على استغلال أراضي وثروات الشعوب لتحقيق أهداف إسرائيل”، في إشارة إلى نتنياهو، مؤكدًا على احتفاظ طهران بحق الرد.
وكشف عراقجي عن ضبابية المشهد فيما يتعلق بالمفاوضات، منوهًا أن “إسرائيل تقوم بالعمل القذر مثلما وصفه المستشار الألماني الذي يدعمها”، داعيًا لجلسة طارئة لمجلس الأمن بهذا الشأن، كما دعا الوكالة الدولية “لممارسة واجباتها القانونية ردا على الهجوم الخطير على منشآتنا النووية السلمية”.
أما الحرس الثوري الإيراني، فوصف الهجوم الأمريكي بأنه ينتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ومعاهدة منع الانتشار النووي، كذا المبادئ الأساسية لاحترام السيادة الوطنية وسلامة أراضي الدول، منوها أن أمريكا وضعت نفسها بالخط الأمامي للعدوان على إيران باستهداف منشآتها النووية السلمية.
اللافت هنا أن الحرس الثوري ووزير الخارجية الإيراني تبنيا خطابًا واحدًا بشأن التقليل من نتائج الضربة الأمريكية على المنشآت النووية، حيث أكد الأول على أن “التكنولوجيا النووية الإيرانية والسلمية لا يمكن تدميرها بأي هجوم”، وأن إيران تعرفت على مواقع إقلاع الطائرات المشاركة في الهجوم على منشآت البلاد ووضعت تحت المراقبة، فيما قال الثاني إن ” المنشآت التي استهدفت بأصفهان لا مواد نووية فيها أو يورانيوم منخفض التخصيب”.
تتقاطع تلك التصريحات مع ما نقلته وكالة “رويترز” عن مصدر إيراني كبير قوله إن معظم اليورانيوم عالي التخصيب بمنشأة “فوردو” قد تم نقله إلى مكان غير معلن قبل الهجوم الأمريكي، فيما أظهرت صور من الأقمار الصناعية، حركة غير اعتيادية من عدد ضخم من عربات الشحن ونقل البضائع، داخل المنشأة النووية الإيرانية يومي 19 و20 يونيو/حزيران الجاري، أي قبل يومين من الضربات الأمريكية، وهو ما كشفته صحيفة “واشنطن بوست”.
الصور كشفت أن العربات، والبالغ عددها 18 عربة، كانت تتحرك في البداية حول المنشأة النووية وفي الطرق المؤدية إلى مبانيها، كما تركزت حركة الأوناش والآلات الثقيلة قرب مدخل المنشأة، قبل أن تظهر العربات في صور أخرى وهي تتحرك للخروج من محيط “فوردو” بالكامل.
أما الوكالة الدولية للطاقة الذرية فأكدت من جهتها عدم تسجيل أي تسرب إشعاعي من المواقع الثلاثة المستهدفة، ما يعني عملياتيًا أن الضربات لم تؤثر على السلامة الإشعاعية للمنشآت وبالتالي لم تخرج بالكلية عن العمل كما يردد البعض، ومن ثم القدرة على استئناف العمليات مستقبلا حال استقرار الأجواء.
وهنا تساؤل هل يمكن بالفعل نقل اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي قبل الضربة الأمريكية؟ وبحسب أراء المتخصصين فإن العملية ممكنة من حيث المبدأ، حتى وإن كانت صعبة، إذ تتطلب وقتًا كافيًا وحرصًا لوجستيًا كبيرًا، نظرًا لحساسية المواد المنقولة (اليورانيوم المخصب)، أما أجهزة الطرد المركزي فرغم صعوبة نقلها لكنها ممكنة من الناحية الفنية، خاصة إذا ما كانت مفككة ومخزنة في وحدات متنقلة تحسبًا لأي ضربة أمريكية كانت أو إسرائيلية محتملة، وهو أسلوب معمول به في معظم البلدان النووية وغير النووية فيما يعرف بـ “الإخلاء الوقائي”.
لكن في مقابل تلك الرواية هناك من يشكك في درجة مصداقيتها، إذ وصل الاختراق الاستخباراتي الصهيوأمريكي في الداخل الإيراني إلى مستويات عميقة، يسهل معها تتبع مسار نقل تلك العربات لليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي، في حال صحة ما ورد تقارير عبر الأقمار الصناعية، مما يمكن من استهدافها في أي مكان تذهب إليه، خاصة بعد سيطرة الأمريكان والإسرائيليين على الأجواء الإيرانية بصورة كبيرة.
وأمام الخطاب الإيراني المٌهمش للضربة الأمريكية والمقلل من تأثيرها الميداني، رغم التأكيد الأمريكي الإسرائيلي، هناك 3 قراءات رئيسية لفك طلاسم المشهد:
أولا: تسعى طهران من خلال هذا الخطاب إلى خفض منسوب التزاماتها بشأن رد الفعل على تلك الضربة، إذ أنه في حال تحقيق الضربة لأهدافها المعلنة، فعلى إيران أن ترد بنفس القوة، وبذات اللغة، وتنفيذ التهديدات التي تعهدت بها قبل أيام في حال دخول أمريكا على الخط، كاستهداف القواعد العسكرية الأمريكية وغلق مضيق هرمز وما إلى ذلك من التعهدات التي قد تٌدخل الجمهورية الإيرانية في أتون حرب ربما لا تتحمل كلفتها حاليًا.
ثانيًا: حفظ ماء الوجه، فالدولة الإيرانية التي صعدت من لهجتها ضد واشنطن وتل أبيب، لا يمكنها أن تسقط بهذه الطريقة وأن تٌستهدف هكذا في عملية خاطفة رغم كافة المؤشرات التي سبقتها، ومن ثم فإن التقليل من تأثير تلك العملية يحفظ للنظام الإيراني ماء وجهه، ويحافظ على ما تبقى من سيادته وكبريائه.
ثالثًا: التقليل من الضربة الأمريكية ونتائجها سيمنح طهران الفرصة للاحتفاظ بأوراق ضغط مستقبلية، يمكن الاستعانة بها على طاولة المفاوضات، إذ لا تزال طهران – وفق سرديتها- تمتلك مشروعها النووي ومستلزماته المطلوبة، حتى وإن تعرض لضربات بين الحين والأخر، لكنها لم تحقق الهدف الكامل في إبادة المشروع برمته.
طهران بين التصعيد والابتلاع المنضبط
يعلم الإيرانيون جيدًا أنهم اليوم باتوا في مفترق طرق، وأن الرد الفوري والسريع على الضربة الأمريكية مسألة أمن قومي تتشكل على أساسها خطوط النفوذ الإقليمي، وعليه فهم أمام أربعة خيارات أساسية في ضوء نظرية الاحتمالات:
أولا: استهداف المصالح الأمريكية: حيث القواعد العسكرية في العراق وسوريا، أو حتى دول حليفة للولايات المتحدة مثل السعودية أو قطر، البحرين، والكويت، والتي تحتوي على قواعد أمريكية كبيرة، فضلا عن السفارات الأمريكية في المنطقة، ووضع كافة المنشآت التابعة لأمريكا في مرمى الاستهداف.
إلا أن هذا الخيار ربما يكون صفريًا رغم تهديد الحرس الثوري بالذهاب إليه، إذ أن الإقدام على هذا السيناريو يعني انتقال أمريكا من الخصم المشارك ضمنيًا في تلك الحرب عبر ضربات متفرقة، إلى العدو الأول، ومن ثم الدخول في حرب مفتوحة قد تطيح بالنظام الإيراني وتقضي على ما تبقى منه، وعلى الأرجح لن تنزلق طهران، بمنطق برغماتي بحت، نحو هذا الفخ.
ثانيًا: عسكرة الممرات المائية وغلقها: كانت طهران قد أشهرت أكثر من مرة ورقة غلق مضيق هرمز وباب المندب، واستهداف السفن الحربية أو ناقلات النفط في الخليج العربي، وهو ما يعني إصابة التجارة العالمية خاصة تجارة النفط بشلل كبير، وقبل أيام كانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد نشرت تقريبًا بخصوص هذا المخطط، لافتة نقلا عن مصادر خاصة احتمالية تلغيم المضيق بالعبوات الناسفة، وإخراجه عن معادلة التجارة العالمية بالكلية.
ولا يختلف هذا السيناريو عن الأول من حيث درجة صعوبته، حتى وإن لجأت إليه طهران لن يكون إلا ورقة ضغط مؤقتة سرعان ما تتراجع عنها، إذ أن الإقدام على هذا الخيار يعني استعداء العالم أجمع، والدخول في صدام مع الجميع، مما يخدم السردية الأمريكية، وهو ما لا تريده إيران حاليًا، لاسيما في ظل مساعيها لتجييش موقف دبلوماسي إقليمي ودولي,
ثالثًا: تحييد الأمريكان والتركيز على “إسرائيل”: طالما أن الضربة لم تحقق السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الإيرانيون والمتعلق بإسقاط النظام وإثارة الفوضى ودخول البلاد في آتون الاحتراب الطائفي الأهلي، كما أنها لم تقضي بالكلية على المشروع الإيراني، بحسب الرواية الإيرانية، فإن المقاربة السياسية والأمنية تذهب باتجاه تحييد الولايات المتحدة وإخراجها عن اللعبة بعدم استثارتها واستهداف مصالحها.
وعلى الجهة الأخرى يكون التركيز منصبًا كما هو على الداخل الإسرائيلي، وهو ما كان بالفعل، فبعد ساعات قليلة من الضربة الأمريكية بدأت إيران قصفها الصاروخي على إسرائيل، حيث استهدفت برشقة صاروخية مكثفة بلغت نحو 40 صاروخًا باليستيًا، حيفا وتل أبيب، مستخدمة ولأول مرة صاروخ “خيبر” النوعي، ما أحدث أضرارًا بالغة وفق ما تناقلته التقارير الإعلامية.
ويتوقع ألا تفتح طهران جبهة إضافية، مكتفية بإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر والأضرار في صفوف الإسرائيليين، مستخدمة صواريخها النوعية التي لم تستخدمها قبل ذلك، في محاولة لاستعادة توازن الردع من جانب، وتحسين موقعها التفاوضي على طاولة النقاش مع الأمريكان من جانب أخر.
وشتان شتان بين أن يجلس الإيرانيون على طاولة المفاوضات مع الجانب الأمريكي وهو يرفعون الراية البيضاء، مستسلمين للضربة ونتائجها، وهنا لن يكون هناك اتفاق قدر ما هو إذعان واستسلام، وبين الاستناد إلى قوة الميدان، حيث إيلام الحليف الإسرائيلي وإرباك حساباته، مع الإبقاء على أوراق ضغط أخرى في الدرج حتى إشعار أخر، مثل غلق مضيق هرمز واستهداف المصالح الأمريكية، وهي الخيارات الشمشونية التي لن تلجأ إليها طهران إلا حين يكون السقوط أمر لا محالة.
رابعًا: الانسحاب من معاهدة عدم انتشار السلاح النووي: مع تدمير المشروع النووي، والإصرار الصهيوأمريكي على عدم استكماله إيرانيًا، قد تجد طهران أنفسها أمام خيار لا فرار منه، وهو العمل بشكل غير شرعي، خارج عباءة معاهدة عدم الانتشار المقيدة للسلوك الإيراني، ومن ثم قد يكون أحد الردود غير العسكرية المتوقعة، انسحاب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
وهو الخيار الذي لوّح به رئيس لجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني عباس جولرو، حين قال إن لطهران الحق القانوني في الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية بموجب المادة العاشرة منها، وذلك عقب القصف الأمريكي لثلاث منشآت نووية إيرانية، حيث وتنص المادة العاشرة على أن لأي عضو في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية “الحق في الانسحاب من المعاهدة إذا رأى أن أحداثا استثنائية عرضت المصالح العليا لبلاده للخطر”.
في الأخير فإن الضربة الأمريكية، بصرف النظر عن جدال التهويل والتقليل، تمثل تصعيدًا استثنائيًا في مسار المعركة الإيرانية الإسرائيلية، لكنها، ورغم كل ما أثير حولها وما أحدثته من صدمة، لا تزال ملتزمة إلى حد كبير بقواعد الاشتباك المعمول بها، وحصر المواجهة في مسار تل أبيب – طهران، دون الانزلاق نحو حرب شاملة.
ويمكن لتلك الضربة أن تحقق أهداف أطرافها الثلاثة في آن واحد، أن تٌرضي غرور ترامب في البحث عن انتصار رمزي، يستجيب به للضغوط الإسرائيلية من جانب ويلبي مطالب التيار الصهيوني داخل حزبه من جانب أخر، كذا تُلبي أحلام حكومة نتنياهو في القضاء على المشروع النووي الإيراني، وكي الوعي إزاء ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي الوقت ذاته قد تُقرأ إيرانيًا بلغة الصمود والتحدي للمشروع الأمريكي الإقليمي، خاصة مع تجنب طهران السيناريو الأسوأ، فمجرد الخروج من تلك المعركة الاستقطابية على قيد الحياة هو إنجاز في حد ذاته يمكن البناء عليه مستقبلا، هكذا يرى الإيرانيون.
على كل حال فالكرة الآن باتت بنسبة كبيرة في الملعب الإيراني، الذي سيحدد بشكل محوري ما يمكن أن يؤول إليه هذا التصعيد، الذي لم يفارق بعد سقفه المرسوم، فهل يلتزم الجميع بالوقوف عند هذا الحد من تلك الجولة، والاكتفاء بما حققه كل طرف من انتصار وفق مقارباته الخاصة، أم يكون الانزلاق إلى حرب شاملة هو البديل.. هذا ما ستجيب عنه الأيام القليلة المقبلة.