لطالما قدَّمت إيران أكثر من وجه في تعاملها مع العالم، تمزج فيه بين الصلابة الأيديولوجية والحسابات الدبلوماسية. ففي حين يُجسِّد المرشد الأعلى وقادة الحرس الثوري، وأحيانًا الرئيس الإيراني –عندما يكون من التيار المحافظ– المظهرَ المتشددَ والمقاتِلَ للدولة، يبرز في الجهة الأخرى وجهٌ أكثر مرونة، يتمثل عادةً بوزير الخارجية، الذي يضطلع بمهمة التعبير عن الطموحات الإيرانية بلغة القانون الدولي والخطاب الدبلوماسي.
ليس هذا التباين تكتيكًا عابرًا، بل إنه جزء من استراتيجية إيرانية أعمق، تهدف إلى توظيف أدوات مختلفة في بيئة إقليمية ودولية معقدة، حيث تُعَدُّ طهران فاعلًا مركزيًّا في صراعات الشرق الأوسط وتقاطعاته مع الغرب.
في هذا الإطار، عاد عباس عراقجي إلى صدارة المشهد بوصفه وزير الخارجية في حكومة الرئيس مسعود بزشكيان. وهو الدبلوماسي المتمرِّس الذي شغل مواقع متقدمة في وزارة الخارجية لسنوات، وكان أحد أبرز وجوه التفاوض النووي في خلال مرحلة الاتفاق مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
اليوم، يجد عراقجي نفسه في موقع بالغ الحساسية، يقود فيه السياسة الخارجية الإيرانية في لحظة دقيقة من عمر النظام، تتأرجح فيها البلاد بين التصعيد العسكري ومحاولات تجاوز الأزمة، وسط اشتباك مفتوح مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، ومفاوضات نووية معلقة، وصراعات إقليمية متصاعدة.
فمن عباس عراقجي؟ وكيف وصل إلى موقعه الحالي؟ وما الذي يميِّز مقاربته للسياسة الخارجية في واحدة من أكثر اللحظات تعقيدًا في تاريخ إيران المعاصر؟
النشأة والتعليم: من تجارة السجاد إلى دهاليز السياسة
وُلد عباس عراقجي عام 1962 في طهران، لعائلة ثرية تعمل في تجارة السجاد الإيراني الشهير داخل البلاد وخارجها. تعود أصول أسرته إلى محافظة أصفهان، حيث كان جده من أبرز التجار المعروفين في هذا القطاع، وكان يطمح إلى أن يواصل أبناؤه وأحفاده المسار التجاري ذاته، إلا أن عراقجي –خلافًا لتوقعات العائلة– اختار مسارًا مغايرًا نحو العمل السياسي.
توفي والده وهو في السابعة عشرة من عمره، وواصل تعليمه، إذ التحق بمدرسة ابتدائية في حي “بيج شميران” وسط طهران، ثم أنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية في منطقة “هفت تير”، وهي مرحلة تزامنت مع الاضطرابات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد، وانتهت بانتصار الثورة الإسلامية عام 1979، ما مثَّل تحولًا سياسيًّا مبكرًا شكَّل الوعي الأول لعراقجي وأثَّر لاحقًا في توجهاته الأكاديمية والمهنية.
عام 1985، اجتاز بنجاح اختبار القبول في كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية، وتخرج منها عام 1988 حاملاً شهادة البكالوريوس. ثم واصل دراسته العليا في العاصمة طهران، ونال درجة الماجستير في العلوم السياسية من “الجامعة الإسلامية الحرة”.
لاحقًا، حصل على منحة من وزارة الخارجية لمتابعة دراساته في الخارج، فأوفد إلى المملكة المتحدة، وقد نال درجة الدكتوراه في الفكر السياسي من جامعة “كينت”، بعد تقديم أطروحة ناقشت تطورات النظرية السياسية في العالم الإسلامي.
إلى جانب خلفيته العلمية، تعززت مكانة عراقجي الاجتماعية بزواجه من بهاره عبداللهي، ابنة أحد رجال الأعمال البارزين والمرتبطين بحزب الائتلاف الإسلامي، ما منحه امتدادًا إضافيًّا داخل شبكة النخبة الاقتصادية والدينية في إيران، وقرَّبه أكثر من دوائر النفوذ داخل النظام.
من الحرس الثوري إلى دهاليز الدبلوماسية
لم يبدأ عباس عراقجي مسيرته في عالم السياسة والدبلوماسية مباشرة، بل مر أولًا بتجربة ميدانية في صفوف الحرس الثوري الإيراني. فمع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، توقفت الجامعات عن استقبال الطلاب، ما دفع الشابَّ المتحمِّسَ إلى الالتحاق بالحرس الثوري، إذ خدم بصفة ضابط حتى نهاية الحرب عام 1988.
مع انتهاء الحرب، تغيَّرت بوصلته نحو العمل الدبلوماسي، إذ شكَّل حصوله على شهادة البكالوريوس في العلاقات الدولية، البوابة لتخليه رسميًّا عن زيه العسكري والانضمام إلى السلك الدبلوماسي. بدأ حياته المهنية خبيرًا في الدائرة الدولية داخل وزارة الخارجية، لتبدأ معها رحلة طويلة من التدرج في مختلف المواقع الدبلوماسية.
أتقن عراقجي منذ بداياته اللغتين الإنجليزية والعربية، ما سهَّل انخراطه في المهام الدولية، فقد عُيِّن عام 1994 قائمًا بالأعمال في البعثة الإيرانية الدائمة لدى منظمة التعاون الإسلامي. وفي عام 1999 تولَّى منصب سفير طهران لدى كل من فنلندا وإستونيا بشكل متزامن، وبقي في هذا الموقع حتى عام 2003.
بعد عودته إلى طهران، تولَّى رئاسة الدائرة الأولى لأوروبا الغربية في وزارة الخارجية لفترة قصيرة، ثم شغل منصب رئيس كلية العلاقات الدولية، حتى عام 2005. ومع تولِّي منوشهر متكي وزارة الخارجية، عُيِّن عراقجي مساعدًا له في الشؤون القانونية والدولية، وشارك ضمن الفريق المفاوض النووي ممثلًأ قانونيًّا عن الوزارة، في فترة كان فيها علي لاريجاني أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي والمكلف بإدارة الملف النووي.
عام 2007، نُقِل عراقجي إلى طوكيو سفيرًا لإيران في اليابان، وبقي هناك لأربع سنوات، قبل أن يعود إلى إيران عام 2011، ويتولى إدارة شؤون آسيا في وزارة الخارجية.
وفي أواخر عهد الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، وتحديدًا في مايو/أيار 2013، عُيِّن متحدثًا رسميًّا بِاسم وزارة الخارجية خلفًا لرامين مهمانبرست، لكنه لم يبقَ في هذا المنصب أكثر من أربعة أشهر، لينتقل لاحقًا إلى أدوار تفاوضية أوسع في ظل التغييرات السياسية المقبلة.
مسار دبلوماسي في ظل الإصلاحيين
مع فوز الرئيس حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية عام 2013، بدأ عباس عراقجي مرحلة جديدة في مسيرته، انتقل في خلالها إلى صدارة المشهد الدبلوماسي الإيراني. فقد عيَّنه وزير الخارجية محمد جواد ظريف مساعدًا له للشؤون القانونية والدولية، ليصبح ثاني أهم شخصية في وزارة الخارجية من حيث النفوذ، وليتولَّى لاحقًا رئاسة فريق التفاوض النووي الإيراني.
قاد عراقجي مفاوضاتٍ مضنيةً استمرت نحو 18 شهرًا، تُوِّجَت يوم الثاني من أبريل/نيسان 2015 بإعلان اتفاق إطار بين إيران ومجموعة “5+1” في مدينة لوزان السويسرية، كان بمثابة اختراق دبلوماسي في واحدة من أعقد الملفات السياسية الدولية، ومهَّدت لاحقًا لتوقيع الاتفاق النووي في فيينا في يوليو/تموز من العام نفسه.
وفي الولاية الثانية لروحاني، استمر محمد جواد ظريف وزيرًا للخارجية، وجرت ترقية عراقجي عام 2017 إلى منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية، وهو موقع حافظ عليه حتى عام 2021. لكنه قدَّم استقالته مباشرةً بعد فوز الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي، ما عُدَّ إشارةً واضحةً إلى ميله إلى العمل ضمن الحكومات ذات التوجه الإصلاحي، وهي التي شهدت أبرز محطاته التفاوضية والسياسية.
لاحقًا، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، عيَّنه كمال خرازي –رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية– أمينًا عامًا للمجلس، وهو منصب استشاري رفيع ضمن المنظومة الخارجية للنظام. وبقي في هذا الموقع حتى 21 أغسطس/آب 2024، حين عاد رسميًّا إلى المشهد التنفيذي، بعد أن منحه البرلمان الإيراني الثقة لتولِّي وزارة الخارجية، إثر ترشيح الرئيس الجديد مسعود بزشكيان له.
ثوريٌّ بثوب دبلوماسي: الولاء للمؤسسة الأم
رغم مسيرته الطويلة في العمل الدبلوماسي، التي ازدهرت تحت حكومات إصلاحية، ظلَّ عباس عراقجي وفيًّا للمدرسة الأولى التي تَشكَّل وعيُه السياسيُّ ضمنها: الحرس الثوري الإيراني، وتحديدًا جناحه الخارجي ممثلًا بفيلق القدس.
ففي تقرير سابق لشبكة CNN، وُصف عراقجي بأنه من “أشد الموالين للثورة الإيرانية وأفكارها”، وأنه لم يتخلَّ يومًا عن انحيازه لسياسات النظام، خاصةً فيما يتعلق بالبرنامج النووي.
لم يكن هذا الولاء خفيًّا، بل كان يُعبِّر عنه علنًا في مقابلاته وتصريحاته، مؤكدًا احترامه العميق لدور الحرس الثوري وقادته، وعلى رأسهم القائد السابق لفيلق القدس، قاسم سليماني، الذي عدَّه عراقجي أحد أبرز صانعي الاستراتيجية الإيرانية في الخارج.
لم يقتصر هذا التماهي على الخطاب، بل ترسَّخ في مواقف ملموسة، أبرزها تأكيده –في خلال عرضه لبرنامجه الوزاري أمام مجلس الشورى الإسلامي عام 2024– التزامه بسياسة سلفه الراحل إبراهيم رئيسي في إعطاء الأولوية للعلاقات مع دول الجوار، وهي إحدى الركائز التي لطالما تبنَّاها “فيلق القدس” في نسخته الثورية من السياسة الخارجية.
وعام 2020، عقب اغتيال سليماني، نشر عراقجي مقالًا بعنوان “دبلوماسية المقاومة: إرث الحاج قاسم في السياسة الخارجية”، قدَّم فيه رؤية لمدرسة السياسة الخارجية القائمة على دعم الحلفاء الإقليميين، والتأثير في محيط إيران الاستراتيجي من خلال أدوات غير تقليدية تجمع بين العمل الدبلوماسي والاستثمار في قوى “الممانعة” على الأرض.
بهذا التوازن الدقيق بين العمل المؤسسي والانتماء العقائدي، يقدِّم عراقجي نموذجًا فريدًا في الدبلوماسية الإيرانية، عبر فتح رجل المفاوضات لأبواب الحلول، دون التنصُّل من جذوره الثورية، ولا من مدرسة القوة التي تَشكلت في خنادق الحرب وأروقة الحرس الثوري.
ملامح السياسة الخارجية.. والتنظير لموقع إيران
مع نيله ثقة البرلمان وتسلُّمه حقيبة الخارجية في أغسطس/آب 2024، أعلن عباس عراقجي توجهه نحو رسم سياسة خارجية تستند إلى أربعة مرتكزات واضحة: رفع العقوبات من خلال مفاوضات مشرِّفة، وتعزيز الحضور الإقليمي، وتوسيع العلاقات الدولية المتعددة الأطراف، وحماية البرنامج النووي بوصفه رمزًا للسيادة الوطنية.
وفي خطاباته الرسمية أمام مجلس الشورى، أكد عراقجي التزامه بمسار سلفه الراحل حسين أمير عبد اللهيان، مع التركيز على تطوير الشراكات في آسيا الوسطى وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر آليات التعاون مثل منظمة “شنغهاي” ومجموعة “بريكس”. كما أشار إلى أهمية التفاعل مع الفرص المتاحة في أوروبا، وتقديم دعم منسجم مع المصالح العليا للجمهورية الإيرانية تجاه الجاليات الإيرانية في الخارج.
وفي الإقليم، جدَّد التزامه بما يُعرَف بـ”محور المقاومة”، مؤكدًا أن السياسة الخارجية الإيرانية ستواصل دعم الحلفاء الإقليميين، والعمل على ترسيخ توازنات ميدانية في مواجهة الضغوط الغربية.
وعلى خلاف كثير من الوزراء الذين يكتفون بإدارة الملفات اليومية، يُنظر إلى عباس عراقجي بوصفه أحد المفكرين البارزين داخل الجسم الدبلوماسي الإيراني. فقد ألَّف عددًا من الكتب التي تناولت ملفات استراتيجية، من بينها الأمن السيبراني، ودبلوماسية المياه، ومفاوضات الاتفاق النووي، كما كتب عشرات المقالات التحليلية التي ناقشت قضايا مثل مكانة إيران في النظام الدولي، واستراتيجية “المقاومة الدبلوماسية”، وسياسات الجوار الإقليمي.
بهذا الحضور المركَّب، يجمع عراقجي بين الخبرة التنفيذية، والرؤية الفكرية، والقدرة على تمثيل إيران في محافل متناقضة، إذ يُطلب منه أن يتحدث بلغة البراغماتية دون أن يغادر ظلَّ الثورة.
قوة التفاوض: كيف يرى عراقجي فنَّ الاشتباك الدبلوماسي
في كتابه الأخير “قوة التفاوض؛ مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية”، يقدِّم عباس عراقجي خلاصة تجربته الشخصية والفكرية في مجال التفاوض، بوصفه أحد أبرز صُنَّاع الاتفاق النووي الإيراني عام 2015.
يرفض عراقجي الصورة النمطية التي ترى في الدبلوماسي شخصًا أنيقًا يبتسم أمام الكاميرات ويحتسي القهوة، ليؤكد أن الحقيقة تكمن فيما بعد عدسات الإعلام: حرب إرادات ومهارات تبدأ ما إن تُغلَق الأبواب.
يرى عراقجي أن التفاوض ساحةُ اشتباكٍ محكومةٌ بالخداع المشروع، والانضباط العالي، وقدرة المفاوِض على الصبر والتكتيك والهدوء، مشددًا على أن ما يحرِّك المفاوِضَ الناجحَ ليس ذكاؤه وحده، بل قوة بلاده الوطنية بعناصرها كافة: من الدفاع إلى الاقتصاد، ومن التكنولوجيا إلى الخطاب السياسي. ويُفرِّق بوضوح بين أدوات القوة الصلبة والناعمة والمعنوية والذكية، عادًّا إياها روافد تُغذي القرارَ التفاوضي، وتمنحه تماسكًا تحت الضغط.
يسرد في كتابه تجارب حيةً من طاولة المفاوضات، مثل الحادثة الشهيرة مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، حين طار قلم الأخير نحو وجه عراقجي بانفعال، فرده إليه بالمثل، ثم تراجع كيري معتذرًا.
كما ينقل شهادات خصومه، ومنهم ويندي شيرمان –رئيسة الوفد الأمريكي– التي وصفت عراقجي بأنه “هادئ وصلب بشكل يثير الغضب”، وتروي كيف أنه دفعها ذات مرة للبكاء في لحظة تفاوض حساسة، عندما علَّق على الاتفاق قائلاً: “نعم.. ولكن”، في توقيت كاد فيه الجميع يعتقد أن الاتفاق النهائي بات جاهزًا للتوقيع.
وفي فصل لافت بعنوان “مساومة البازار: نهج إيران التفاوضي”، يعترف عراقجي بتأثره بجذوره العائلية كتاجر سجاد، ويشبِّه أسلوب التفاوض الإيراني بمساومات البازار التي تتطلب صبرًا هائلًا، ومهارةً في الضغط التدريجي، وثباتًا لا يتزعزع، عادًّا أن من يتعب أولًا هو الخاسر.
يرى عراقجي أن المفاوضات تصل دومًا إلى ما يسميه بـ”نقطة البلوغ”؛ اللحظة التي يُدرك فيها الطرفان أن أدوات الضغط المتبادلة لم تُجبِر أحدًا على التراجع، وأن الحل يمر من منطق التوازن لا الهيمنة.
وفي تعليقه على الاتفاق النووي، يستحضر تغريدة الوزير الأسبق، محمد جواد ظريف، الذي قال: “فنّ الدبلوماسي أن يُخفي دهاءه خلف ابتسامته”، بوصفه مبدأً راسخًا في مدرسة التفاوض الإيرانية.
رغم أن عراقجي ألَّف هذا الكتاب قبل تولِّيه وزارة الخارجية، فإنه يُمثِّل خريطةً فكريةً تعكس بدقة عقلَ الرجل الذي يجلس اليوم على رأس الدبلوماسية الإيرانية في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ النظام.
المواجهة الدبلوماسية تحت ضجيج المدافع
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واحتدام الاشتباك بين إيران و”إسرائيل”، تصدَّر عباس عراقجي واجهة السياسة الخارجية الإيرانية، متعاملًا مع تصعيد أمريكي لا ينسجم مع توجهات الحكومة الإصلاحية الجديدة بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان، والتي حملت شعار الانفتاح السياسي والدبلوماسي.
منذ اللحظة الأولى، تعامل عراقجي بحذر مع نتائج الانتخابات الأمريكية، عادًّا أن طهران لا تبني قراراتها على نتائج صناديق الاقتراع في واشنطن، بل على سلوك الإدارة الفعلي. ورغم الدعوات المتكررة إلى استئناف المفاوضات النووية، شدد عراقجي على أن المسألة لا تتعلق باستعداد طهران فحسب، بل بجاهزية الطرف المقابل لاحترام قواعد تفاوض “عادلة ومشرّفة” تحفظ حقوق الشعب الإيراني ولا تمسُّ الخطوطَ الحمراء.
لم يُخفِ عراقجي رفضه للضغوط العسكرية، عادًّا أن التفاوض مع طرف يهدِّد باستخدام القوة باستمرار يفتقد للجدوى، ومشيرًا إلى أن واشنطن –بانسحابها من الاتفاق النووي– هي مَن دفعت طهران إلى توسيع برنامجها النووي وتعديل سياستها الدفاعية.
وبُعيد جولة الاشتباك المباشر بين إيران و”إسرائيل” في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن عراقجي من قلب اللقاءات مع قادة الحرس الثوري الإيراني أن “عملية الوعد الصادق 3 ستجري في الوقت المناسب”، مؤكدًا أن “الدبلوماسية والساحات العسكرية تعملان بوصفهما وحدة واحدة، وأن الدبلوماسية لا تُثمر إلا إذا كانت مسنودة بالقوة”.
في خضم المفاوضات غير المباشرة مع إدارة ترامب، شكَّل عراقجي –إلى جانب المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف– الثنائيَّ الرئيسيَّ في مشهد تفاوضي مضطرب امتد على خمس جولات. حاول في خلالها عراقجي تحقيق اختراق في موقف واشنطن الذي طغى عليه صقور الحرب. لكن الجولة السادسة تحولت إلى فخ خداعي، إذ تزامنت مع ضربةٍ إسرائيلية مفاجئةٍ استهدَفت منشآتٍ نووية، واغتيالاتٍ طالت علماء وقادة بالحرس الثوري، في تصعيد عُدَّ ضوءًا أخضر من واشنطن لتغيير قواعد اللعبة.
في هذه اللحظة الحرجة، كان عراقجي على وشك الرد على عرض أمريكي جديد، لكن اسمه دخل فجأة دائرة التهديد. فقد أعلن محمد حسين رنجبران، مستشار وزير الخارجية، أن الأجهزة الأمنية الإيرانية أحبطت مؤامرة إسرائيلية لاستهداف عراقجي، بالتزامن مع حديث عن زيارة وشيكة له إلى جنيف للقاء الترويكا الأوروبية. وقال رنجبران إن الوزير “لا يرى نفسه مجرد دبلوماسي، بل جنديًّا على نهج الشهيد قاسم سليماني”، مؤكّدًا أن “التهديد كان فعليًّا وجديًّا، وتمت مواجهته بجهود أمنية دقيقة”.
ورغم تصاعد الحرب، بقي عراقجي يجوب المحافل الدولية، محاولًا تثبيت الموقف الإيراني في وجه الحصار والضربات، دون التفريط بالثوابت. وفي لقائه مع وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا في جنيف في 20 حزيران/يونيو، أكد أن إيران ستواصل ممارسة حقها المشروع في الدفاع، مشيرًا إلى غياب أي تنديد أوروبي بالعدوان الإسرائيلي.
وفي حوار مع شبكة “NBC News”، وصف عراقجي التصرفات الأمريكية بأنها “خيانة للدبلوماسية”، متسائلًا ما إذا كان يمكن الوثوق بواشنطن بعد اليوم. وبعد الضربة الأمريكية للمفاعلات النووية الإيرانية، شدد على أن ما جرى هو “اغتيال للقانون الدولي”، محذرًا من أن بلاده تمتلك “خيارات واسعة للرد”، وأن تمسُّكها بالدبلوماسية لا يعني الضعف، بل الانضباط في استخدام أوراق القوة.
صوت إيران المركَّب
عباس عراقجي ليس مجرَّد وزير خارجية في زمن التصعيد، بل هو خلاصة مركَّبة لشخصية النظام الإيراني ذاته؛ ثوري تربَّى في صفوف الحرس، ودبلوماسي تدرَّج في دهاليز السياسة الخارجية، ومفاوض خَبِر تناقضات القوى الكبرى، ومثقف شارَك في التنظير للسياسة الإيرانية عبر مؤلفاته ومقالاته التي تعكس عمقَ فهمِه لمعادلات القوة ومهارات التفاوض.
على امتداد مسِيرته، حافظ عراقجي على خيط متين يربطه بـ”المدرسة الأم” –الحرس الثوري– حتى وهو يرتدي بدلة الدبلوماسية، ويخوض مفاوضات شاقة أمام الأمريكيين والأوروبيين. لم ينكفئ عن الخطاب الثوري، لكنه أعاد إنتاجه بلغة براغماتية، تُدرك أن التفاوض ليس ضعفًا، وأن التصلُّب دون أدوات قوة فعلية ليس أكثر من صخب بلا أثر.
اليوم، وبينما تُطوَّق إيران بسلسلة من التهديدات الإقليمية والدولية، ويُعاد رسم ميزان القوى بين واشنطن وطهران تحت وابل من القصف والرسائل المتبادلة، يقف عراقجي في خط المواجهة الأمامي. يحاور، ويُهدِّئ، ويُناوِر، مُدرِكًا أن الدبلوماسية الإيرانية –كما الحرب– تستخدم كل ما يلزم من تكتيكات للحفاظ على المسار الاستراتيجي.
ويمكن القول إن عراقجي صوت إيران المركَّب، بلهجة قاعة التفاوض، ونبرة المواجهة، وذاكرة البازار.. رجل يعكس بوضوح معادلةَ الجمهورية الإسلامية في الخطاب السياسي، ما بين تأكيد المواجهة، ومناورة الاشتباك.