في لحظة فارقة بعد صدور النتائج الأولية لفرز الأصوات، أعلن زهران ممداني فوزه بمنصب عمدة مدينة نيويورك، ليكون بذلك أول مسلم من أصول هندية يقترب من قيادة أكبر مدينة في الولايات المتحدة.
وقف ممداني أمام أنصاره مستشهدًا بكلمات نيلسون مانديلا: “يبدو الأمر مستحيلاً حتى يتحقق… يا أصدقائي، لقد تحقق وأنتم من فعل ذلك”.
يُعرف زهران ممداني بدفاعه العلني والصريح عن القضية الفلسطينية، إذ تحدث عنها مرارًا باعتبارها قضية تحرر وحقوق إنسان، ووصف ما يحدث في غزة على يد إسرائيل بـ”الإبادة الجماعية”.
في المقابل، أقر منافسه الأبرز، الحاكم السابق للولاية أندرو كومو، بهزيمته. بعد أن ركز في الأشهر الأخيرة على تصوير زهران كمعادٍ شرس للسامية، “في مدينة تضم أكبر جالية يهودية خارج الشرق الأوسط” حسب قوله.
من هو زهران ممداني؟
وُلد زهران ممداني في أوغندا، وانتقل مع عائلته إلى مدينة نيويورك عندما كان في السابعة من عمره. ورغم أن مشواره السياسي بدأ من موقع متواضع، استطاع أن يصنع لنفسه مكانة لافتة في المشهد العام، متحديًا الوجوه الأبرز والأكثر شهرة في الحزب الديمقراطي.
عندما أعلن ترشحه لمنصب عمدة نيويورك في خريف العام الماضي، كان لا يزال عضوًا في الهيئة التشريعية للولاية، بسيرة ذاتية لم تلفت الأنظار، واسم غير مألوف لمعظم سكان المدينة. لكن حملته استندت إلى خطاب واضح، وارتكزت على قضايا تمسّ الحياة اليومية للطبقات العاملة، مثل أزمة السكن، وتكاليف رعاية الأطفال، والانفجار في أسعار المعيشة.
ركز في حملته الانتخابية على النقل العام المجاني، مستندًا إلى مشروع تجريبي ساهم في إطلاقه لجعل حافلات المدينة مجانية لمدة عام. ورغم أن البرنامج لم يُجدد، إلا أن ممداني لعب دورًا واضحًا في دفع النقاش السياسي في الولاية نحو اليسار، وفق ما أشار إليه زملاؤه.
فيما تمنح أفكاره القابلة للفهم والمناقشة، زخمًا خاصًا لدعايته الانتخابية وصورته التي يقدمها عن نفسه، حسب وسائل إعلامية أمريكية. إذ لا يتردد ممداني في تعريف نفسه بأنه “اشتراكي ديمقراطي غير اعتذاري”، عدا عنه أكثر جرأة في تبني سياسات يصفها خصومه بأنها “خيالية”، مثل تجميد الإيجارات وتوفير الحافلات المجانية وتصفير تكلفة رعاية الأطفال، بالاعتماد على رفع الضرائب على أثرياء المدينة.
كما ساعدت مهاراته في التواصل في إبراز شخصيته، حيث ينشط في نشر مقاطع فيديو بلغات متعددة، مثل الأردية والإسبانية، تضمّن بعضها مشاهد من أفلام بوليوود، وأخرى حاور فيها مؤيدي ترامب محاولًا فهم دوافعهم السياسية وتحويلها لصالح الديمقراطيين.
دعم غير مشروط لفلسطين
أوضح ممداني منذ بداية مسيرته السياسية موقفه تجاه القضية الفلسطينية، إذ تحدث عنها مرارًا في مقابلاته الإعلامية بوصفها قضية تحرر وطني. كما وصف بصريح العبارة ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، ودعم صراحة حركة المقاطعة العالمية (BDS) وسحب الاستثمارات الأمريكية من “إسرائيل”، كما دعا إلى محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قضائيًا.
في عام 2023، قدّم مشروع قانون يطالب بإنهاء الإعفاءات الضريبية للجمعيات الخيرية العاملة في نيويورك باعتبار أنها “تفقد وصفها الخيري مع مساهمتها في تمويل مستوطنات إسرائيلية تنتهك القانون الدولي”.
وعلى الرغم من أن قيادة الجمعية الوطنية الأمريكية وصفت مشروعه بأنه “غير قابل للتنفيذ”، إلا أن هذه المبادرة أثارت ضجة سياسية، مما عزز من مكانة ممداني كأحد الأصوات الجريئة داخل الحزب الديمقراطي.
مع اقتراب موعد الانتخابات، تصاعد الجدل حول موقف ممداني من الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد أن أُثيرت تساؤلات حول قدرته على إدارة شؤون مدينة تضم نحو مليون يهودي موزعين على خمسة أحياء. وردّ ممداني بوضوح، مؤكدًا أنه لا مكان لمعاداة السامية في نيويورك، وأنه سيعزز تمويل مكافحة جرائم الكراهية في حال انتخابه.
مشددًا في الوقت نفسه على التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وبين نقد سياسات إسرائيل والدعوة للكراهية.
تحوّلت مواقفه هذه إلى محور جدال حاد في السباق الانتخابي، خاصة بعدما رفض، في بودكاست مثير للجدل، إدانة عبارة “عولمة الانتفاضة” أو اعتبارها مزعجة، ما عرضه لهجوم واسع النطاق واتهامات بمعاداة السامية.
في مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية، كتب آبي سيلبرشتاين، باحث في جامعة نيويورك، أن خطاب ممداني بحد ذاته ليس هو ما يثير الخوف بل تآكل الدعم غير المشروط لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي. إذ أن القلق الحقيقي، بحسب الكاتب، يشير إلى تحوّل أعمق في مواقف القاعدة التقدمية تجاه العلاقات الأميركية الإسرائيلية.
هوية رقمية وهوية دينية
لم يُخفِ ممداني إيمانه وشعائر دينه الإسلامي، بل جعله حاضرًا بوضوح في حملته، حيث قام عدة مرات بزيارة المسجد مع مجموعة من الناخبين المؤيدين له. وتحدث عن هويته الإسلامية في عدة لقاءات إعلامية من بينها البودكاست الذي اعتمد عليه في التواصل مع الناخبين الشباب.
كما استثمر ممداني صورته كمسلم مهاجر وابن لمدينة تضم ملايين المهاجرين، مما ساعده في بناء علاقة شخصية مع الناخبين. ففي أحد المقاطع الأولى لحملته، تناول موضوع أزمة غلاء المعيشة بتحليل بسيط لارتفاع سعر وجبة “حلال” من عربة طعام.
وفي مقطع آخر، ظهر وهو يفطر “بوريتو” في مترو الأنفاق خلال شهر رمضان. في مشهد وصفته صحيفة “ذا نيويورك تايمز” بأنها رسالة واضحة يقول فيها: “هذه هي نيويورك، متعددة، حقيقية، وصاخبة وأنا أحد أبنائها.”
وأشار ممداني لهذا الأمر قبل أشهر قليلة بالقول: “أعلم أن ظهوري العلني كمسلم هو تضحية في أماني الشخصي لكنني وغيري لن نختار البقاء في الظل”. في إشارة إلى المخاطر التي يتعرض لها المسلمون في المجال العام.
تفوّق ممداني أيضًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة مركزية لحملته. حيث ركز على نشر مقاطع مصورة عفوية حظيت بانتشار واسع وساعدته في إظهار مدى صدقه تجاه وعوده الانتخابية. من بينها مقطع مصور له وهو يقفز في مياه الأطلسي الباردة لتجسيد فكرة تجميد الإيجارات. ومقطع آخر وهو يسير مع مئات الناخبين الشباب في شوارع مانهاتن مما أوضح مدى قربه للشارع النيويوركي.
يحظى زهران ممداني بدعم من رموز الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، أبرزهم عضوة الكونغرس ألكساندريا أوكاسيو كورتيز والسيناتور بيرني ساندرز، وكلاهما اشتراكي ديمقراطي مثله.
ومع انتهاء فرز الأصوات في الانتخابات التمهيدية، أعلن الحاكم السابق أندرو كومو تهنئته لممداني قائلًا: “لقد أدار حملة رائعة، أثّر في الشباب، ألهمهم، وحثهم على التصويت. أشيد به من أعماق قلبي”.
ورغم ذلك، ألمح كومو إلى احتمال خوضه الانتخابات العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم كمرشح مستقل، قائلاً لصحيفة نيويورك تايمز “أريد تحليل الوضع والتحدث مع بعض زملائي”. لكن في ظل التفوق الديمقراطي الواضح في تركيبة المدينة، وتراجع شعبية العمدة الحالي إريك آدامز، فإن ممداني يبقى المرشح الأوفر حظًا للوصول إلى منصب العمدة.
هذا الفوز المحتمل قد يعكس تحوّلًا أعمق في المزاج العام للناخب الأميركي. فبحسب مقال رأي نشرته صحيفة هآرتس، أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع التعاطف مع إسرائيل إلى أدنى مستوياته، مقابل ارتفاع غير مسبوق في دعم الفلسطينيين منذ عام 2001.