يتجه المشهد السوداني نحو منعطف خطير من التصعيد في ضوء التقارير الواردة باتخاذ الصدام بين الجيش الوطني وميليشيا الدعم السريع منحى أخر، حيث القتل على أساس عرقي، وتحويل المعركة من نزاع عسكري على السلطة إلى ما يشبه الاحتراب الأهلي وجر البلاد إلى مستنقع الفوضى المجتمعية، وهو الفخ الذي طالما حذر منه الجميع في الداخل والخارج.
وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، فرجينيا غامبا، والمستشارة الخاصة بالإنابة للأمين العام أنطونيو غوتيريش بشأن منع الإبادة الجماعية، حذرت في إفادة لها أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، الاثنين 23 يونيو/حزيران الجاري، من استهداف مجموعات عرقية بعينها في سياق الصراع المحتدم بين الجيش والدعم، مشددة على أن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المسلحة المتحالفة معها “تواصل شن هجمات بدوافع عرقية ضد قبائل الزغاوة والمساليت والفور”.
المسؤولية الأممية شددت على أن خطر الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في السودان لا يزال مرتفعًا جدًا، وسط استمرار الهجمات ذات الدوافع العرقية التي تشنّها قوات الدعم السريع، لافتة إلى أن “الطرفين – الجيش والدعم- ارتكبا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”.
يأتي هذا التصعيد في وقت كانت تذهب فيه كافة المؤشرات نحو انتصار الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وأفول نجم الدعم، بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) خلال الآونة الأخيرة، وتجريده من معظم المكاسب الميدانية التي حققها منذ بداية المواجهات، والتفاؤل بشأن اقتراب الحرب من مشهدها الأخير، قبل أن تنقلب الأمور رأسَا على عقب وتعود الميليشيا للأضواء مرة أخرى لتستعيد بعض التعافي، وسط تساؤلات وشكوك حول تلك العودة وأهدافها والجهات التي تقف ورائها.
وأسفرت حرب الجنرالات التي شهدها السودان منتصف أبريل/نيسان 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد ما يقرب من 13 مليونا (وفق بعض التقديرات) فر منهم أربعة ملايين إلى الخارج، وأزمة إنسانية تعدّ الأسوأ في العالم بحسب المنظمات الأممية، فإلى أين تتجه الأمور بعد هذا التصعيد الأخير؟
قتل على أساس عرقي.. منهجية الدعم
أن تختلف جذورك عن جذوري حتى وإن امتدت إلى الأجيال الأولى قبل مئات السنين، فهذا مبرر كاف لقتلك، حتى لو كنا نصلي جنبًا إلى جنب في ذات المسجد، ونقتات سويًا من نفس السوق، ونعمل معًا في الشركة أو المؤسسة ذاتها، كان هذا الشبح هو الكابوس الأكثر أرقًا لمنامات السودانيين منذ عقود طويلة.
ومثل هذا السيناريو القبيح، الاستهداف من خلال العرق، تكرّر كثيرًا في السودان، لعل تجربتها الأكثر دموية الإبادة الجماعية والتهجير القسري الذي شهده إقليم دارفور(غرب) والذي وضع الإقليم برمته فوق فوهة بركان الانفصال بين الحين والأخر، كذلك وجد أرضًا خصبة في إقليم النيل الأزرق، حتى بات الاقتتال على أساس العرق طقس محلي سوداني معتاد، غير أن الكثير من الجهود والمبادرات المبذولة ساهمت بشكل نسبي في تخفيف حدته وإطفاء منصات إشعاله.
ثم جاءت حرب الجنرالات التي حاولت فيها ميليشيا الدعم إيقاظ كافة الذئاب النائمة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الخاصة، بصرف النظر عن أي اعتبارات وطنية أو إنسانية أو أخلاقية، وكان من أبرز الموبقات التي أيقظها حميدتي وفريقه، الحرب العرقية، والاقتتال على أساس الجذور، أملا في تحقيق ما لم يتحقق بالحرب المشروعة.
وكشف تقرير للأمم المتحدة عن مقتل ما بين بين 10 آلاف و15 ألف شخص على أساس عرقي في مدينة الجنينة وحدها، في ولاية غرب دارفور بالسودان العام قبل الماضي، حيث كتب المراقبون الذين كتبوا التقرير وقدموه إلى مجلس الأمن أن الجنينة شهدت بين أبريل/ نيسان ويونيو/ حزيران 2023 “أعمال عنف مكثفة”.
المراقبون اتهموا قوات الدعم السريع وحلفاءها من المرتزقة العرب والأفارقة باستهداف قبيلة المساليت العرقية الإفريقية في هجمات “قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، كما أبلغوا عن أعمال عنف جنسية “واسعة النطاق” مرتبطة بالصراع ارتكبتها قوات الدعم والميليشيات المتحالفة معها.
وأرجع التقرير سيطرة الدعم على معظم أنحاء دارفور إلى اعتمادها على 3 خطوط إمداد ودعم رئيسية، المجتمعات العربية المتحالفة (في إشارة إلى الإمارات) والشبكات المالية النشطة والمعقدة (التمويلات الخارجية وعائدات بيع الذهب والشركات المنسوبة للدعم وعناصرها والبالغة نحو 50 شركة في قطاعات مختلفة) وخطوط الإمداد العسكرية الجديدة التي تمر عبر تشاد وليبيا وجنوب السودان (جماعات مرتزقة من تشاد وأخرى تابعة للمشير خليفة حفتر)
وفي هذا السياق يقول الناشط والحقوقي السوداني حسن عباس، إن ميليشا الدعم تجيد بشكل كبير توظيف ورقة النعرات العرقية والطائفية لتحقيق أهدافها الميدانية، لافتا أنها استخدمتها أكثر من مرة حتى قبل اندلاع الحرب الحالية، مستندة في ذلك إلى قاعدة “فرق تسد” فطالما كانت تثير تلك النعرات بين القبائل وتثير الضغائن بينها خاصة المنتسبين لقبائل إفريقية غير عربية.
ويضيف عباس في حديثه لـ “نون بوست” أن التناحر العرقي متجذر بشكل كبير في المجتمع السوداني، وأن الأمر لم يقتصر على الداخل السوداني وفقط، بل حمل السودانيون الفارون من ويلات الحرب تلك النعرات أثناء هروبهم من الوطن، وهو ما يمكن ملاحظته خلال تعامل السودانيين مع بعضهم البعض في المهجر، فالنظرة الأولى تكون عرقية وإلى أي القبائل يكون النسب، ثم تأتي الوطنية لاحقا، وهو ما ساهم بشكل أو بأخر في توسيع الهوة بين أطياف المجتمع السوداني وحوله إلى مربعات عرقية غير متجانسة.
غير أنه ومع دخول حميدتي والدعامة (نسبة إلى الدعم) جولة النزاع على السلطة مع الجيش حاولوا توظيف كل ما لديهم من أوراق لتجريد المؤسسة العسكرية من حاضنتها الشعبية وتفتيت اللحمة الوطنية وإثارة الجبهة الداخلية بهدف إضعاف البرهان ورفاقه، وكان من أهم تلك الأوراق إطلاق غول النعرات القومية والقتل على أساس عرقي، لضرب المجتمع من جذوره، هكذا اختتم الناشط السوداني حديثه.
استفاقة الدعامة.. تساؤل مثير للجدل
في 20 مايو/أيار الماضي، نجح الجيش السوداني في السيطرة الكاملة على ولاية الخرطوم، وتجريد ميليشيا الدعم من الكثير من المكاسب التي حققتها على مدار أكثر من عام ونصف من تلك الحرب، حينها هلل الشارع السوداني في الداخل والخارج فرحًا، معتبرًا أن السطر الأول في نهاية تلك الحرب قد كٌتب وأنها باتت مسألة وقت لا أكثر، فيما بدأ عدد من النازحين في ترتيب أمورهم للعودة إلى وطنهم، آملين في استقرار قريب.
غير أن الرياح لم تأت بما تشته سفن النازحين، داخليًا وخارجيًا، إذ تراجع تمدد الجيش ميدانيًا، بعدما توقفت عملياته الهجومية، مكتفيًا بدور المدافع، وهو ما منح ميليشا الدعم الفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب المشهد، والأخذ بزمام المبادرة وتكثيف الهجمات في مسارات عدة، بداية من الفاشر والمجازر التي ارتكبها هناك، مرورًا بما حدث في كردفان وأم درمان، وصولا إلى المدينة الساحلية اللوجستية شرقًا.
وبالفعل نجح حميدتي وميليشياته في قلب الطاولة مرة أخرى والتأكيد على أن الحرب لم تنته بعد، وأن النزال لا زال قائمًا، مستخدما لأجل ذلك سياسة الأرض المحروقة وتدمير كل شيء ينبض بالحياة، فاستهدف المشافي والمراكز الصحية والمطارات والمدارس ومحطات الكهرباء والمياه والمرافق الخدمية العامة والطرق ووسائل المواصلات، في محاولة لإصابة الساحة السودانية بالشلل التام، وفي ذلك رسالة مباشرة وصريحة للمواطن السوداني وترهيب نفسي واضح وممنهج لتجريد الجيش من حاضنته الشعبية.
اللافت هنا دخول المسيرات على خط الأزمة، وبشكل قلب المشهد بشكل كبير، حيث شن الدعم من خلالها عمليات واسعة على العديد من المدن والولايات، أبرزها بورتسودان (شرق)، العاصمة الإدارية الجديدة للحكومة السودانية، حيث استهدفت القاعدة الجوية بالمدينة، بجانب البنى التحتية ومستودعات الوقود، وهي الهجمات التي حاولت بها الميليشيا التأكيد على قدرتها على الوصول لأي مكان في أي من مناطق البلاد بفضل المسيرات التي حصلت عليها من حلفاءها في الخارج.
وأثارت تلك الاستفاقة الكثير من التساؤلات وسط تأكيدات رسمية وغير رسمية على ضلوع الإمارات وراء هذا التحول الكبير في المعركة، وتغليب كفة الميليشيا على حساب الجيش، حيث إمدادات الدعم التي لا تتوقف، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، الأمر الذي ساهم في تأجيج الميدان واستعادة التوازن بعدما كانت الأمور شبه محسومة للبرهان وقواته.
سلام أم إعادة انتاج للأزمة؟
“بين سطور اللقاء الأخير لوزير الخارجية الأميركي مع أطراف الرباعية، ظهرت إشارات مقلقة توحي بأن الغرب لا يسعى إلى سلام يُنهي الحرب فحسب، بل إلى اتفاق يُبقي على توازن هشّ بين الدولة والتمرد..” هكذا اتهم الكاتب والأكاديمي السوداني، ياسر محجوب الحسين، اللجنة الرباعية ( الإمارات والسعودية وبريطانيا والولايات المتحدة) بتقديم مبادرات تهدف لإبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه دون حلحلة حقيقية.
ويرى الحسين في مقال له منشور على موقع “الجزيرة نت” أنه وبينما يقترب الجيش من حسم المعركة ميدانيًا، تلوح في الأفق تسوية دولية تُهدّد بأن تُفرغ هذا النصر من محتواه السياسي، مضيفًا أن السلام المشروط المطروح على طاولة النقاش الدولي لا يبدو بريئًا، على حد قوله، فهو لا يستند إلى الوقائع الميدانية بقدر ما يستجيب لحسابات النفوذ، ويعيد إنتاج التوازنات التي سبقت الانفجار
ويميل الكاتب السوداني إلى أن مثل تلك المبادرات المطروحة، رغم شعاراتها الإنسانية، لا تبدو بعيدة عن حسابات المصالح السياسية والأمنية، “وكأنما يُراد للجيش أن يُقاتل وحده، ويُحاسَب وحده، ثم يُمنع من ترجمة نصره إلى شرعية سياسية” وتابع “هذا الموقف يُعيد إلى الأذهان النموذج الذي فُرض على أكثر من دولة في الإقليم: انتصارات ميدانية تُعطلها صفقات ناعمة تحفظ للمتمردين موقعًا شكليًا في “السلام”، وتفتح أبواب السلطة باسم “الشمولية السياسية””.
كما حذر من أن حرمان الجيش من ثمرة هذا النصر- بحجة التوازن أو “اللامركزية السياسية”- لا يعني سوى تقويض سلطة الدولة الوطنية لحساب مراكز نفوذ مليشياوية أو محمية خارجيًا، مشددًا على أن فرض “نصر غير مكتمل” على الجيش يحمل ثلاث نتائج كارثية، إضعاف المؤسسة العسكرية معنويًا وسياسيًا، تفريغ التحول المدني من مضمونه، ثم إضعاف ثقة الشارع في العملية السياسية، إذ أن الجمهور السوداني الذي دعم الجيش واستنفر أبناءه لجانبه؛ رفضًا للفوضى والقتل والاغتصاب، سيشعر بأن تضحياته ذهبت سدى إذا أُعيد دمج الجناة في السلطة.
واختتم الأكاديمي السوداني مقاله بالإشارة إلى أن أخطر ما في هذا النصر غير المكتمل، أنه لا يؤسس لسلام، بل لتعايش هش بين قوة تقاتل من أجل الدولة، وأخرى تستفيد من بقاء الدولة على شفا الهاوية، مؤكدًا على أن ” السلام لا يُبنى على التغاضي، ولا على التجميل السياسي للجراح. السلام الحق، هو الذي يستند إلى العدالة، ويُعيد الاعتبار للدولة، ويمنح الأمل للمواطن بأن دماء أبنائه لم تذهب سدى، فإما سلام يُعيد للسودان سيادته، أو تسوية تُعيد إنتاج أزمته”.
وهكذا يواصل السودان نزيفه المستمر، قتل على الانتماء، تصفية بسبب التوجه، إبادة جماعية وفق أساس عرقي، نزوح لا يتوقف، صراع نفوذ على حساب الدولة، شعب مفعول به، ضحية بين فكي كماشة، فيما يقف المجتمع الدولي يهندس المشهد وفق أجندات اللاعبين العابثين في المشهد السوداني وبما يخدم مصالحهم، دون أي اعتبار لشعب يتجاوز 50 مليون إنسان يقف على حافة الهاوية، رغم التحذيرات شديد اللهجة من كارثة إنسانية قاسية، لا يحرك أحد ساكنًا لها، ولا تُحيي ضميرًا ميتَّا أو حتى توقظ أخر نائمًا.