ترجمة وتحرير: نون بوست
قد تجعلنا الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في تفكيرنا أكثر ذكاءً من الناحية النظرية، ولكنها تجعلنا أكثر سطحية في جوهرنا.
كشفت دراسة رائدة بعنوان “تراكم الديون المعرفية عند استخدام مساعدي نماذج اللغة الكبيرة” (يونيو/ حزيران 2025) عن أمرٍ مُقلق للغاية وغير مُفاجئ تمامًا: على الرغم من أن نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) مثل “شات جي بي تي” تُساعدنا على إنجاز المهام بشكل أسرع، إلا أنها قد تُقلل في بعض الحالات أيضًا من فهمنا وذاكرتنا ومحفزاتنا على المدى الطويل فيما يتعلق بهذه المهام.
وعندما كُلّف المشاركون في الدراسة بكتابة المقالات، أظهر المشاركون الذين استخدموا مساعدي الذكاء الاصطناعي معرفة وتفاعلًا أقل من أولئك الذين عملوا على الكتابة بأنفسهم/ ومن اللافت للنظر أن نقص التفاعل استمر في المهام اللاحقة، حتى عندما طُلب من المشاركين العمل مرة أخرى على نفس الموضوع دون مساعدة الذكاء الاصطناعي. ويُطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم “الديون المعرفية”، وهي التآكل الطفيف في المرونة العقلية عند الاعتماد المُفرط على الآلات.
هذا ليس مجرد قلق تقني، بل هو قلق إنساني.
وكما قال الكاتب فيصل هوك في كتابه “ترانسند“: “لو أراد تينزينج نورجاي وإدموند هيلاري أنسب طريق لقمة إيفرست، لاستقلا طائرة هليكوبتر، لكن القيمة تكمن في التسلق”.
يُجسّد هذا التشبيه المعضلة التي نواجهها الآن، فالرحلة نفسها بجوانبها العقلية والعاطفية والإبداعية هي التي تشكل المعنى، وعندما نتخلى عن هذه العملية بسهولة للآلات فإننا قد نحصل على الكفاءة، لكننا نُخاطر بفقدان شيء أساسي: قدرتنا على الاكتشاف، والانزعاج، والنمو.
عصر اليقين المُصطنع
لقد أصبحنا نعيش في عالمٍ يُدمن الإجابات؛ فببضع نقرات أو أوامر صوتية، لا نستدعي الحقائق فحسب، بل نستدعي أيضًا حججًا مُكتملة، وآراءً مُصممة خصيصًا لنا، بل حتى توكيدات عاطفية. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي خبيرنا المُتاح تحت الطلب، ومعالجنا، وشريكنا في الإبداع. لا حاجة للغموض.
ولكن ماذا لو كان لهذا اليقين ثمن؟
ماذا لو كان التسابق نحو الإجابات الفورية يُضعف الصفات التي تُميزنا كبشر: الفضول، والفوارق الدقيقة، والإبداع، والمرونة العاطفية؟
بصفتي شخصًا بنى شركاتٍ في ظل حالة من عدم اليقين، تعلمتُ أن الوضوح نادرًا ما يأتي من إجابات فورية، بل ينبع من مُصارعة الغموض، والجلوس في حالة من عدم الراحة لفترة طويلة بما يكفي البصيرة.
من الفضول إلى الراحة
توضح الدراسة الأمر جليًا: قد تؤدي السهولة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي إلى نتائج عكسية؛ حيث ظن المشاركون الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي لكتابة المقالات أنهم حققوا نتائج أفضل، لكن البيانات أظهرت انخفاضًا في القدرة على الحفظ، وضعفًا في الابتكار، وسطحية في الفهم. باختصار، نحن نسرّع الأمر، لكننا نميل إلى التسطيح فيه.
يعكس هذا تحولًا أوسع في ثقافتنا؛ حيث يُستبدل الفضول باستهلاك المحتوى الجاهز مسبقًا، ويُستبدل الاكتشاف بالملخصات، وتُستبدل الدهشة بالنتائج الموجزة.
ولكن هناك جانب آخر لهذه القصة.
عندما يعمل الذكاء الاصطناعي كعمل مسرّع
بالنسبة لأولئك الذين أمضوا بالفعل سنوات في تنمية معارفهم العميقة في مجالات معينة – العلماء والأطباء والمعلمين ورواد الأعمال – يمكن للذكاء الاصطناعي أن كمحفز لا كركيزة أساسية.
فالذكاء الاصطناعي عندما يُستخدم بوعي ينير البصيرة دون استبدالها، ويساعد على ترجمة الخبرة إلى عمل، ويسرّع التجربة، ويساعد في تحويل الحدس المعقد إلى تأثير ملموس.
غير أن الفرق يكمن في كيفية استخدامه؛ حيث تؤكد هذه النظرة ورقة بحثية أعدها علماء من جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكما ذكر المؤلفون، “أظهرت ما يُسمى بمجموعة “من الدماغ إلى نماذج للغة الكبيرة” زيادة ملحوظة في اتصال الدماغ عبر جميع نطاقات ترددات مخطط كهربية الدماغ عند سُمح لهم باستخدام نماذج اللغة الكبيرة في موضوع مألوف”.
بدون الفهم الأساسي، يُشجع الذكاء الاصطناعي على الاختصارات، ولكن مع وجود خبرة في المجالات المعنية، يُصبح الذكاء الاصطناعي قوة مُضاعفة؛ حيث يربط النقاط بشكل أسرع، ويكشف الأنماط، ويُبرز النقاط العمياء. إنه لا يُغني عن الرحلة؛ لكنه فقط يُحسّن الخريطة.
وبهذا الشكل، لا يصبح الذكاء الاصطناعي عدوًا للعمق، بل اختبارًا له، أولئك الذين أنجزوا المهمة سيذهبون بالأمر إلى آفاق أبعد، أما أولئك الذين لم يفعلوا ذلك فقد يصبحون أكثر ثقة ولكن أقل قدرة.
اختفاء التساؤل
ومع ذلك، فحتى خبراء المجال الذين يستخدمون نماذج اللغة الكبيرة على نطاق واسع يخاطرون بفقدان أحد أثمن أجزاء الذكاء البشري: التساؤل.
بصفتي أبًا، رأيت كيف يطرح الأطفال الأسئلة من أجل الاستكشاف لا من أجل الكفاءة، ففضولهم منفتح بطبيعته، ولكن مع تقدمنا في العمر، نبدأ في رؤية الأسئلة باعتبارها مشاكل يجب حلها، لا كدعوات للتخيل.
في هذه العملية، نستبدل الفضول بالسيطرة، والتأمل بالاستعجال.
تُقدم تقاليد الحكمة الشرقية تحذيرًا لطيفًا. قال معلم الزن شونريو سوزوكي: “في عقل المبتدئين، هناك العديد من الاحتمالات. وفي عقل الخبير، هناك القليل”. وكما قال جلال الدين الرومي: “بع ذكائك واشترِ الحيرة”.
تؤكد تلك التعاليم أن الجهل ليس ضعفًا، بل هو شيء مقدس، ومساحة من الإمكانات.
لكن نماذج اللغة الكبيرة لا تسمح لنا بإطالة مساحة عدم المعرفة، إنها تملأ الصمت بشكل فوري وطليق ومقنع في كثير من الأحيان.
التكلفة العاطفية لليقين
إن تكلفة هذه السرعة ليست معرفية فقط، بل عاطفية أيضًا.
عندما شُخِّص ابني بالسرطان، لم أكن أريد نماذج تنبؤية أو خوارزميات مريحة، كنت بحاجة إلى التواجد والسكون والتواضع لتقبل ما لا يمكن معرفته.
الآلات لا تستوعب الحزن، ولا تعالج الخوف أو الرهبة. نحن فقط من يستطيع فعل ذلك.
وعندما نختصر تلك العملية العاطفية – سواء من خلال الذكاء الاصطناعي أو التشتت – فإننا نقلل من قدرتنا على التحول.
من المعرفة إلى الملاحظة
إذًا كيف نتجاوز هذه المفارقة؟
كيف نتبنى الذكاء الاصطناعي كأداة للتسريع دون أن نفقد عمقنا أو حضورنا أو روحنا؟
بالانتقال من المعرفة إلى الملاحظة:
لاحظ اندفاعك لحل عدم اليقين بسرعة كبيرة.
لاحظ متى تصل إلى الذكاء الاصطناعي بدافع الكسل مقابل متى تستخدمه للاستفادة منه.
لاحظ كيف تتعامل مع الانزعاج فكريًا وعاطفيًا.
إليك بعض الطرق التي أحافظ بها على المسافة بين السؤال والجواب:
-
توقف مؤقتًا قبل أن تطرح السؤال، واسأل نفسك: ما الذي أريد أن أفهمه حقاً؟ ما الذي قد أكتشفه بنفسي؟
-
اكتب بأسلوبك الخاص، حتى عندما يكون الفكر الأصلي فوضويًا، فإن الفكر الأصلي يعمق الوعي.
-
تقبل العشوائية: نفذ مهمة واحدة على الأقل في الأسبوع خالية من الذكاء الاصطناعي، فالصراع هو التربة التي تنمو فيها البصيرة.
-
استخدم الذكاء الاصطناعي لتسريع البصيرة، وليس استبدال الاستفسار، واجعله شريكًا في السجال وليس منقذًا منه.
حماية الوقفة المقدسة
الذكاء الاصطناعي موجود ليبقى، وإذا تم استخدامه بحكمة يمكن أن يسرّع الكفاءة والتحول.
لكن الحكمة تتطلب وقفة، وهذه الوقفة تتطلب شجاعة الجهل لفترة من الوقت على الأقل.
إذا أردنا الحفاظ على إنسانيتنا في عصر الآلات الذكية، يجب أن نتذكر أن عدم المعرفة ليس عيبًا، إنها ميزة. بوابة إلى الحكمة.
لأن هذه الوقفة المؤقتة – الهشة وغير المريحة والمقدسة – هي المكان الذي يكمن فيه المعنى. والمعنى على عكس المعلومات، لا يمكن تحميله، بل يجب اكتسابه.
المصدر: سايكولوجي توداي