يعيش المواطن العربي في منطقة متأزمة أمنيًّا تتصاعد فيها التوترات السياسية بين حين وآخر، من صراعات جيوسياسية وحروب أهلية وانقلابات وثورات وتهديدات خارجية، هذا كله من شأنه أن يصنع قلقًا وجوديًّا لديه وشعورًا عميقًا بعدم الأمان والخوف الكبير من المستقبل وزوال الاستقرار ، ما ينعكس ضرورة على صحته النفسية وسلوكاته وطبيعة أفكاره ومخططاته في بلاده؛ فهو يُحوّل سؤال الذات الفردية للعربي مِن: ماذا سأصير؟ إلى: هل سأكون؟
لا يتعلق القلق الوجودي عند العربي بخوفه على سلامته في حال اندلاع الحرب التي يشعر بالتهديد نحوها، بل ومن قلقه المعيشي من حدوث أزمات اقتصادية بسبب الحروب أو التصعيدات الأمنية؛ فهو يخشى من كل السيناريوهات التي بُثت على مدار عقود من الحروب في المنطقة؛ من المجاعات واللجوء وقوارب الموت وإغلاق المنافذ الدولية للهجرة من الأراضي المنكوبة، وسيناريوهات الميلشيات والحكومات الجائرة، وضرورة تبني موقف ما لمعرفة الجماعة التي يحتمي بها الفرد عند انتشار الفوضى.
هذا الموقف ليست المعرفة بالأوضاع الأمنية والإنسانية في المنطقة هي التي شكلته في العقل العربي فحسب، بل لعب الإعلام دوره في ترسيخه عبر بث المخاوف وتضخيمها بتهديدات تحمل نمط التفكير الكارثي، وتُروّج له في كل المنصات، ما رسّخه في لاوعي الإنسان العربي الذي يشاهد بترقب حذِر وكثيف ليلتقط أي إشارة لبدء الكارثة.
القلق الوجودي للمواطن الشرق أوسطي
مع التصعيد الأخير في المنطقة، خصوصًا بعد بدء المعركة بين إيران وإسرائيل والتوعد الأمريكي بالتدخل في الحرب، يطرح المواطن العربي سيناريو الحرب العالمية الثالثة التي قد تتورط فيها المنطقة كاملة، يأتي هذا في ظل سنتين من الإبادة المستمرة في غزة، وقصف الجنوب اللبناني واليمن، ومحاولات إسرائيل التوغل في سوريا.
كل هذه العوامل تجعل العربي في المنطقة يؤمن أنّها على شفا حرب كبيرة، ويجعله يعيش بدوامة من القلق تتجاوز الخوف الطبيعي للتفكير بكل ما يمس أساسيات حياته اليومية.
أولى تجليات هذا القلق تتضح باليقظة المفرطة؛ إذ يعيش المواطن وكأنّه حارس في برج مراقبة يتتبع الأخبار في سلوك قهري، ويتلقف العواجل لا من باب الفضول بل لغايات الفحص؛ لكونه يترصّد أي إشارة للخطر أو أي تنبيه لبدء الكارثة المرتقبة، ما يجعله متنبهًا طوال الوقت لأي تغييرات في الإجراءات الأمنية المحلية، ويعدّ نفسه باستمرار لسيناريوهات الحرب واللجوء والعيش تحت القصف.
هذا من شأنه طبعًا أن يُعطل أو يؤجل أي مخطط مستقبلي للمواطن العربي القلِق، كخطط الزواج واستثمار المدخرات وشراء منزل، تُدرس كُلها بحذر كبير تندمج فيه رغبة الاستقرار مع خطة الهروب، ويحل التفكير قصير المدى بالتفاصيل اليومية مكان المخططات المستقبلية، ما يجعله إما يتعاطى بإمعان مع مسببات قلقه، وإما أن يتجاهل أسبابه، فيرفض الاستماع إلى أي تحليل أو تنبؤ عمّا يحدث؛ حفاظًا على ما تبقى من السلام الداخلي.
ما ينتج عن هذا التجاهل محاولة جادة لإيجاد بديل في الحياة يُلهي الفرد عمّا يتحدث به العالم أجمع، فقد ينغمس هذا الفرد بالتفاهات والمقاطع الساخرة، ويتتبع الملهيات الحياتية في محاولة لجعل الحياة تبدو طبيعية ويسترجع أمانه الذي تهدده الحروب.
هذا القلق يضع المواطن في حالة دائمة من الاستنفار والتأهب وكأنّه يعيش أجواء الحرب حتى وإن كان في محيط هادئ نسبيًّا، ويحاول دائمًا اللجوء إلى الجماعات على أرض الواقع أو في مواقع التواصل الاجتماعي التي تتحوّل إلى شبكة إنذارات خلال فترات التهديد؛ فكل من يلحظ إشارة للخطر يبثها ويثير قلق من حوله، وعلى الجانب الآخر فإنّهم يتحامون ببعضهم من خلال مشاركة التحليلات والتوقعات التي تحمل على الاطمئنان، وهذا كله سينتج لاحقًا جيلًا يعتاد العيش على حافة الهاوية.
الحرب الإعلامية وتأثيرها على لاوعي الشعوب العربية
درست الباحثة في مستشفى مايو كلينك النفسي الدكتورة “إلسون هولمان” ردود فعل الناس بعد اطلاعهم على أخبار تفجير ماراثون بوسطن الذي حدث في 2013، ووجدت أنّ الأشخاص الذين لم يكونوا في موقع الانفجار، وليس لهم معارف هناك أو تضرروا، قد تابعوا الأخبار المتفرقة بشأن الموضوع لمدة ست ساعات، وسجلوا مستويات حادة من القلق أعلى من مستويات القلق للناس الذين كانوا في المناطق المجاورة للانفجار، ما يدلّ على أنّ لغة الأخبار وطريقة صياغة الحدث تُضخم الشعور بالتوتر والقلق لدى المتابعين من وراء الشاشات بشكل متزايد، بتصويرها الكارثة وتوقعات الأحداث اللاحقة لها بصورة تفوق واقعية الحدث.
ويُسهم الإعلام في تضخيم التهديد عند المواطنين من خلال استخدام عناوين استباقية للأحداث تنبئ بكارثة قريبة، مثل فيديوهات إخبارية تحمل عنوان “هل دخلنا الحرب الكبرى الليلة؟”.
ولأن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي ترصد ما يهتم به المستخدم وتطرح له كل ما له صلة باهتمامه، فالمتابع للصراعات مثلا سيتعزز لديه محتوى التهديد، وبسبب كثرة الصفحات الإخبارية غير الرسمية على مواقع التواصل فإنّ العناوين تعبّر لا عن محتوى الفيديو وحده بل أيضًا عن مخاوف مُرفِق الفيديو.
فنجد مئات الأخبار هناك تحت عناوين أسطورية في التنبؤ والجزم بخراب المدن، والتأكيد على اقتراب الحرب النووية، حتى انتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات توعوية تعلّم كيفية التصرف في حال اندلاع حرب نووية، من حجر أنفسنا أسبوع كامل بالبيت، وإغلاق جميع مداخل الهواء في المنزل منعًا للتعرض للهواء الملوث بالإشعاع.
تأتي هذه التوعية المثيرة للقلق نتيجة لما يتم تداوله وتحليله من استشراف متشائم على مستقبل المنطقة، فيعمل هذا التهديد المبثوث على مدار الوقت إلى تحويل احتمال الخطر إلى حتمية في اللاوعي، مثيرًا ومفعّلًا لمنظومة الخوف الدماغية حتى دون وجود خطر فعلي واقع.
يمارس الإعلام أيضًا أسلوب التهديد المعلب، وذلك من خلال تجاوز دوره في نقل الأخبار إلى تحويل التصريحات السياسية إلى “منتجات مُعلبة” تغلف الخوف بطريقة صناعية معدة للاستهلاك الجماهيري، وهذه العملية تشبه تحويل كلمات السياسيين إلى قنابل نفسية موقوتة عبر خطوات مدروسة عديدة، منها:
1- المونتاج الانتقائي للخطابات السياسية مع الخلفية الموسيقية: التي تُحول السياسي إلى بطل من خلال قص جزء أو بعض أجزاء من مقابلة أو خطبة له، مع إضافة موسيقى تصاعدية تتلاءم وطبيعة حديثه ليرتفع أدرينالين المشاهد.
لنتخيل أنّ هذا السياسي يلقي خطابًا عن المقاومة والدفاع عن القومية مع موسيقى the dark knight فإنّ المونتاج سيظهره كباتمان الذي جاء ليحرر الأمة، لكن لو كان المونتاج عبارة عن التقاطات للجمل التي تشير إلى الحروب مع موسيقى إنذارات وطائرات وقنابل فإنّ السياسي الذي يظهر بوصفه بطلًا حربيًّا أو متنبئًا سيثير قلق المشاهدين ويزيد من إحساسهم بالخطر القريب.
قدّمت دراسة من هارفرد بعنوان (تأثير موسيقى الخلفية في البث الإخباري) خلاصةً عن المونتاج الموسيقى في فيديوهات الأخبار، بأنّ هناك تأثيرًا سلبيًّا للموسيقى يتعلق بتذكر المستمع للتفاصيل المذكورة بالفيديو، إلا أنّها تعطي دلالةً إيجابية على مصداقية المحتوى، ورأت أنّ التلاعب بموسيقى الخلفية كنوعها وإيقاعها قادر على إثارة انفعالات المستمعين وتوجيه سلوكهم أيضًا، وهذا الغرض الأساسي من استخدامها في المرئيات الإخبارية.
2- التلاعب بالخط الزمني: وذلك بتحويل الحروب التي خاضتها المنطقة في الماضي إلى مستقبل مرعب، كمنتجة فيديوهات تُجمع لقطات لحروب سابقة من بيروت 2006 وبغداد 2003 وغزة 2024 في تقارير تهدف إلى توجيه العيون إلى الكارثة التي قد تتحصل إذا ما قامت حرب، مع رصد كل التهديدات الحالية التي قد تعيد لنا المشهد. إنّ فيديوهات الذاكرة الشبحية هذه تثير الذاكرة الانفعالية لمشاهدها، وتضعه في خوف كبير ناشئ من تفكير قد يصل إلى حد اليقين بأنّ الحرب السابقة ستعود غدًا.
إنّ التوقع الحالي للخداع السياسي الذي يمارسه ترامب بشأن رغبته في إحلال السلام في الشرق الأوسط مع وعوده السابقة بتحويل المنطقة إلى جحيم، يجعل الثقة بتوقف الحرب شبه معدومة، وهذا الشك في السلام ليس مبنيًّا على خطابات ترامب بذاته بل بالتاريخ الحربي والاستنزافي للشرق الأوسط الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عبر عقود طويلة من الزمن.
وفي هذه النقطة تحديدًا من تاريخ المنطقة يتحوّل كل فرد عربيّ لمحلل سياسي لا لأسباب إبراز المعرفة أو القدرات التحليلية، بل لأسباب تتعلق برغبته بالتأكد من أنّ شيئًا مفجعًا آخر لن يحدث. وخلال الاثني عشر يومًا السابقة، استرجعَت المواقع كل فيديوهات الحروب التي عانت منها المنطقة خالقةً ثقلًا إضافيًّا على نفسية المواطن الذي يخشى أن تخبره الفيديوهات: إنّك أنت التالي.
تأثيرات الحرب على غزة
تجاوزت تداعيات الحرب على غزة الدمار المادي والكارثة الإنسانية، لتمتد إلى خلق قلق وجودي عند الإنسان العربي الذي لم يكتفِ بمعرفة أنّ كل تلك الصور والفيديوهات الصادمة توّضح معاناة الغزي وكيف تفجُر إسرائيل في حربها عليهم، بل تحوّلت كل هذه الصور إلى إنذار بأن المصير الغزي قد يطال أي دولة عربية أخرى. ويعود السبب في هذا إلى الدور الذي لعبه الإعلام الحربي في تضخيم التهديد الإسرائيلي، وتعزيز الشعور بالعجز العربي الجماعي.
إنّ التركيز المبالغ به على القوية الحربية لإسرائيل، واستعراض أسلحتها وآخر التحديثات التكنولوجية لديها، يظهرها بأنّها عدو لا يهزم وخارق لا يمكن مواجهته. خصوصًا أنّ الحرب الأخيرة أعادت إلى الأذهان العربية سيناريو التوسع الإسرائيلي، مع استحضار تاريخ الصراع منذ حرب 1967 واجتياح بيروت 2006 إلى هذه الحرب، ما خلق قلقًا من تحويل الحرب المحلية على غزة إلى خطر إقليمي، وأظهر أسئلة كثيرة حول “من ستكون التالية، دمشق أم بيروت؟”، وكل هذا لا يعبر إلّا عن تعطل في الإحساس بالقدرة والتمكين على حماية العربي من هذا العدو.
أسهم الإعلام العربي الذي بث لمدة عامين المجازر التي تحدث في غزة في خلق العجز الشعوري لدى المشاهد العربي؛ فبتركيزه على مشاهد الدمار، مع ندرة التحليلات التي تتناول نقاط ضعف العدو وحجم خسائره، بل وإظهار ما يمنحه العالم الغربي لإسرائيل من صلاحيات مادية ومعنوية، والتركيز على تحليل العقلية العقدية المتطرفة الباغضة للعرب عند الصهاينة، جعل إسرائيل تظهر بأنّها دولة لا تهزم، فتحول القلق على غزة إلى خوف عام من المصير ذاته حتى في الدول البعيدة عن الصراع؛ لأنّ الاستزادة من إظهار وحشية وعقلية السادي المتبجح الصهيوني لا يخدم إلا الكِيان نفسه، ويُمكّن إسرائيل من استثمار خوفنا هذا في مخططاتها التوسعية.
التكيّف المرضيّ مع القلق الوجودي
في ظل القلق الوجودي الذي يُصاب به المواطن من الشعور الدائم بالتهديد الحربي، فإنّه يلجأ إلى آليات للتكيف مع هذا القلق تبدو في ظاهرها طبيعية، غير أنّها تشي بالانهيار النفسي. إنّ التكيف مع الخوف والقلق ليس رد فعل عابر، بل نمط جديد لحياة جيل كامل يعيش في صراع على أمنه واستقراره؛ ففي الدول ذات الخطوط الأمامية للصراع تتبنى شريحة كبيرة من المواطنين تقسيمات ذهنية للجغرافيا تصنف الوطن بين مناطق عالية الخطورة وأخرى آمنة.
وهذا يتطلب دراسة ومتابعة من الشخص القلق في رصد تحركات القوى المتنازعة، وتحرّي المناطق التي تحوي قواعد عسكرية لدول النزاع، أو المناطق التي تعبر منها الصواريخ، أو تلك التي تحظى بمطامع إحدى جهات الصراع. ما يطرح خيار الهجرة في الأذهان، ويجعل البحث عن بقعة جغرافية بديلة في حال نشوب الحرب استراتيجية مدروسة.
كذلك علّمتنا الحروب السابقة أنّ المخازن المنزلية مهمة عند اندلاع الحرب، خشية المجاعات أو انعدام الوسيلة للوصول للأغذية، وقد طرح القلق الذي بدأ يتنامى مع بداية الحرب الإيرانية-الإسرائيلية حاجة التموين الغذائي والدوائي عند المواطنين الذين ينتظرون الوقت التصعيدي المناسب للمباشرة بهذا الفعل؛ ما صيّر الأغذية المتكدسة صورة واضحة تكشف عن عقلية قلقة وخائفة تستعد للأسوأ.
وعلى الصعيد المقابل، فهناك رد فعل عكسي تمثله شريحة أخرى من المجتمع ترفض تعبئتها بسياسة التخويف، فتُظهر لا مبالاة تتجاهل كل ما يصدح به الإعلام من تهديدات وتنبؤات، “ما رح أتابع الأخبار”، “هاي مسرحية سياسية”، “ما في شي رح يصير”، هذه العبارات التي نسمعها في الشارع ومواقع التواصل لا تدل على الشجاعة أبدًا، إنما تعد إنكارًا مرضيًّا للخطر الذي يحيط بأذهان سكان المنطقة، فتتعامل معه هذه الجماعة بالهروب منه حفاظًا على ما تبقى من أمان نفسي.
إنّ المفارقة القاسية في هذه التكيفات تكمن في أنّها تبدو حلًّا مُرضيًا في ظاهرها، وأسلوبًا للتأقلم مع الخوف الحالي والخوف المتوقع في المستقبل، إلا أنّها لا تخرج عن كونها شكلًا آخر للمعاناة النفسية التي يجبر فيها الإنسان على التعايش مع فقدان الأمان، والأفكار الظلامية عن غده.
إلّا أنّه في ظل هذا الواقع الجيوسياسي المتأرجح، لا بد من أن نعترف بشرعية هذا القلق، مع الحرص على عدم تحويله إلى عائق نحو التخطيط والمضي، ولأنّه في هذه السياسات التي تنكَبّ على المواطنين من كل حدب وصوب ونوع، فإنّ الاحتمالات دائمًا مفتوحة على السيناريوهات الجيدة والسيئة، فكما أنّه لا ضمانات على دوام الخير، فليس هناك يقين على حدوث الشر. وعلى الإعلام الذي يعد أداة لبث الذعر، أن يتحوّل إلى وسيلة لتعزيز الصمود النفسي، فإن كانت التهديدات موجودة فليس الحل أن ندعو المجتمع لانتظار حدوثها، بل أن نجعلهم يقظين على ضرورة ألا نغرق ونتكبّل بالخوف، وأن نتمسك بأي أمل نحمله عن السلام.